في عز لهيب الصيف أحست أوروبا ببردٍ قارسٍ آتٍ. باتت تشعر بصقيع شتائها في ذروة موسم الحرّ، فمَن كان يتوقّع أن تقع أوروبا ضحيّة الطاقة وصريعة فصلي الصيف والشتاء ورهينة الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا؟ ومَن كان يظنّ أنّ أوروبا سترشد استهلاك الطاقة لتتجنّب شتاءً أكثر برودة؟
أيّام قليلة وتدخل أوروبا شتاءً مختلفاً في ظلّ أزمات متشعّبة ومتنوّعة عصفت بأمن الطاقة وعزّزتها الحرب الروسية – الأوكرانية . فلا صوت يعلو في المدن الأوروبية فوق صوت ضغط الغاز وبدائل إمداداته الروسية. أجراس الخوف على الوحدة الأوروبية تُقرع، وها هو المستشار الألماني أولاف شولتس يبدي خوفه على مصير الاتحاد ومن انهيار إضافي للنموذج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الخاصّ بمنطقة اليورو. لقد أعلن ذلك بوضوح في دعوته الأخيرة إلى الاتفاق على حلول عاجلة وإنهاء الحرب بتسوية سياسية غير آجلة.
ستزداد وتيرة الأزمة خاصة إذا بدأت اليابان وكوريا الجنوبية بتكوين مخزونهما استعداداً للشتاء، خصوصاً أن مستوى المخزون عند طوكيو منخفض في الأساس
أرخت الحرب المستعرة في أوكرانيا بظلالها على القارّة العجوز وارتدّت عليها، فتحوّلت إلى حرب على البيوت الأوروبية وساكنيها، وعوقب المواطن الأوروبي بالعقوبات المفروضة على روسيا عوضاً عنها، ووقع بهدف خفض حجم الطلب على الغاز الروسي في فخّ قيود حكومته الاتحادية. إذ تكمن المشكلة الرئيسية في استجلاب الغاز في ظل العقوبات الأميركية والأوروبية مع رفض أوروبي للتعامل بالروبل خشية من رفع قيمة العملة الروسية.
فهل تكون شعارات المفوّضية الأوروبية “الاستبدال والتضامن والرصانة” المدخل إلى تفادي هذه العاصفة؟ وماذا عن جهود الاستبدال الأمثل وآليات التضامن الذكية؟ ثم ماذا عن سلاسل التوريد العابرة الحدود؟
في ظل هذه الأسئلة، تكافح المفوضية الأوروبية بشعارات أقرب إلى المثل العليا، فالاستبدال والتضامن والرصانة مبادئ معنوية ضرورية، لكنّها غير كافية للقارة على الرغم من توقيعها اتفاقاً مع باكو عاصمة أذربيجان لمضاعفة واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الأذربيجاني، تأكيداً لقرار الاتحاد تنويع مصادر الطاقة غير الروسية، وبهدف التوجّه نحو “شركاء أكثر موثوقية”. هذا إلى جانب العمل على إقرار وتنفيذ القانون المعجّل المكرّر لخفض استهلاك الغاز بنسبة 15%، وملء مرافق تخزين الغاز بنسبة 80% قبل الخريف.
الخوف على الطاقة، ظهر الخلاف والتباين في وجهات النظر الأوروبية بين الوطنية والقومية، وبدا وكأنّ الاتحاد يتفكّك في سبيل إيجاد الحلول والبدائل المؤقّتة، المفوضية الأوروبية عاجزة عن تنفيذ ما أُنيط بها، وهو السلام والوحدة الأوروبية.
تنوّعت القرارات والتعاميم المجتزأة أو القاصرة بين الدول ضمن الاتّحاد وداخل المفوضية، كلّ بحسب مصلحته، فكرّت سبحة الإجراءات والقرارات الأوروبية العشوائية وغير الشافية أو غير المقنعة في كلّ من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال غير المشمولين بخطّة التقشّف. وقد ترجمت هذه عبر وضع قواعد وغرامات جديدة من أجل حظر الإعلانات والإضاءات الليلية، ولمنع التكييف في المتاجر والمباني الحكومية المفتوحة المداخل. ولإقناع المواطنين بفن الترشيد، تم إطفاء الأنوار عن المعالم السياحية وحتى السياسية كالقصر الرئاسي في برلين، مع تقييد استعمال سخّانات المياه والتدفئة في المراكز الحكومية، وتحديد درجات حرارة التبريد في الصيف والتدفئة في الشتاء، وهذا ما يجعل أوروبا تعيش على وتر اضطرابات كبيرة، وأزمة غير مسبوقة للمرّة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
الخوف على الطاقة، ظهر الخلاف والتباين في وجهات النظر الأوروبية بين الوطنية والقومية، وبدا وكأنّ الاتحاد يتفكّك في سبيل إيجاد الحلول والبدائل المؤقّتة، المفوضية الأوروبية عاجزة عن تنفيذ ما أُنيط بها، وهو السلام والوحدة الأوروبية
لقد داهم أيضاً خراب الطاقة بريطانيا العظمى، التي اعترفت أنّ البلاد ستسجّل قصوراً بالطاقة في فصل الشتاء المقبل بنسبة 20%، أي ما يعادل الخمس، ووضعت مخططاً لتقنين الكهرباء وقطعها عن المصانع ومنازل المملكة، في ظاهرة نادرة الحدوث منذ قصف لندن في الحرب العالمية الثانية. وما زاد الطين بلّة توقّف النروج عن إمداد المملكة المتحدة بالغاز والكهرباء من أجل ضمان أمنها الطاقويّ المحلّي. فمَن كان يتوقّع أن تقع أوروبا ضحيّة الطاقة في صيفها وشتائها؟
التحرّكات الأوروبية انفعالية غير مجدية وغير مؤسساتية، وتعكس هشاشة المرونة الأوروبية في تخطّي فصل الشتاء، فلا بديل إلى الآن عن الغاز الروسي، بمعزل عن كلّ المصادر العالمية والاتفاقات الاستراتيجية، سواء الألمانية مع مصر للتعاون من أجل بناء اقتصاد هيدروجيني، والفرنسية مع دولة الإمارات العربية حول الطاقة المتجدّدة والنووية، والإيطالية مع الجزائر لمدّها بـ 4 مليارات متر مكعّب إضافية. كلّهم يحتاجون إلى تنظيم البنى التحتية المناسبة والملائمة، وتأمين سلاسل توريدها العمليّة والآمنة. ولا حلّ أيضاً عبر الفحم لتفادي الأزمة، على الرغم من إعلان عدد من الدول الأوروبية العودة إلى استخدامه لتوليد الكهرباء معتمدةً على الفحم الروسي بكميّة تصل إلى 40 مليون طن.
تُعتبر الخطوات الروسية الأخيرة الرامية إلى تقليص كميّات الغاز المصدّرة إلى أوروبا إنذاراً قاسياً للاتحاد، ويتجسّد هذا الإنذار في رسالة عملاق روسيا “غازبروم” إلى زبائنه الأوروبيين المتضمّنة عدم استطاعتها إمدادهم بالغاز بسبب الظروف الاستثنائية، فيما يصرّ وزراء خارجية دول الاتحاد، بين حاجتهم إلى الغاز الروسي وبحثهم عن بدائل، على التزامهم بالعقوبات ضدّ روسيا، وتأكيدهم أنّ إقفال روسيا لإمداداتها الغازية لن يوقف دعمهم للعاصمة الأوكرانية كييف.
وبينما تسعى أوروبا إلى الاستغناء عن طاقة “الدبّ الروسي” المتنوّعة من نفط وغاز وفحم، تبقى أمام هذه المهمّة عقبات داهمة قد تعقّد الأمور، ومنها الافتقار إلى ترف الوقت، فالشتاء على الأبواب، فيما البدائل قليلة.
تشترك الصين واليابان وكوريا الجنوبية مع الاتحاد الأوروبي في الطلب على الغاز الروسي المسال، والفحم المنقول في البحر خلال الشتاء، وستكون منافسة الدول الثلاث أكثر حدّة على الشحنات الغازية. وإذا ما استمرّت روسيا بخفض الإمدادات أو حتى قطعها بالكامل، ستحلّ المصيبة وستحلّق عقود الغاز بأسعار ملتهبة وجنونية هي أصلاً أغلى بستّة أضعاف.
إقرأ أيضاً: تقارب الأسد وأردوغان: ماذا عن المعارضة السورية؟
وستزداد وتيرة الأزمة خاصة إذا بدأت اليابان وكوريا الجنوبية بتكوين مخزونهما استعداداً للشتاء، خصوصاً أن مستوى المخزون عند طوكيو منخفض في الأساس.
أمام الواقع القائم يصبح السؤال هو: كيف سيمرّ هذا الشتاء على أوروبا التي تعاني من حالة ارتباك فعليّ في مجال الأمن الطاقوي، وفي ظل مواجهة أزمة اقتصادية صعبة ومصيرية أيضاً بسبب مشاكل في طرق الإمداد ونظمه؟ فلا عجب إذاً أن تشعر أوروبا بالبرودة وهي في عزّ الصيف.