لم يعد جبران باسيل متمسّكاً بانتخاب “الأقوى في طائفته” رئيساً للجمهورية، بل ابتدع صيغة تعطي اعتباراً دستورياً وميثاقياً لـ”الثاني في طائفته”، على أن يرجّح كفّته “حزب الله”، وتخلّى عن الروحيّة المركزية في اتفاق الطائف، وهي المناصفة مع “وقف العدّ” بين المسلمين والمسيحيين.
تقضي صيغة باسيل بانتخاب الرئيس على مرحلتين: الأولى مسيحية يبقى فيها مرشّحان، والثانية على المستوى الوطني، يختار فيها اللبنانيون بين الأقوى مسيحيّاً ووصيفه.
ليست تلك فكرة جدّيّة، ولا حظّ لها في التحوّل إلى مشروع تعديل دستوري، لا ضمن المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس ولا خارجها، لكنّ المعتبر فيها هو ما وراءها من تجديدٍ لصيغة تفاهم مار مخايل الحاكمة منذ 2006، والقائمة أساساً على مقايضة الموقع الاستراتيجي للبنان بمكاسب السلطة الداخلية.
يريد باسيل أن يحيل التنافس العددي إلى الدائرة الأوسع ليجعل معركته الانتخابية معركةً على الموقع الاستراتيجي للبنان، يتكفّل “حزب الله” بخوضها نيابة عنه
في الاستحقاقين الرئاسيَّين السابقين نادى العونيّون بالانتخاب المباشر للرئيس من الشعب، من دون الحديث عن تصفية مسيحية في دورة تمهيدية، لكنّ أساس النظرية حينها كان يقوم على تقديم “الأقوى في طائفته”. ما اختلف هذه المرّة أنّ الانتخابات النيابية الأخيرة أعطت العونيّين 116 ألف صوت تفضيليّ مقابل 171 ألف صوت للقوّات، أي أنّ القوات تفوّقت بنحو 55 ألف صوت مسيحي (رغم أنّ الـ116 ألفاً العونية فيها آلاف الأصوات الشيعية في أكثر من منطقة، وأصوات الأرسلانيين والوهابيين في الشوف، التي تحوّلت إلى حواصل عونية) تعادل فجوة بـ47% تقريباً. فاقتضى ذلك أن ينادي العونيون بالمساواة في الاعتبار الميثاقي بين الأول والثاني في طائفته، مهما بلغ الفارق بينهما، على أن يكون المرجّح بينهما الطرف الأقوى والأكثر تنظيماً عندهم، وهو “حزب الله” بلا شكّ.
وهنا لا بد أيضاً من الأخذ في “عين الحساب” أن هناك نسبة لا بأس بها من الناخبين السّنة في أصوات القوات اللبنانية.
الاستقواء بكتلة حزب الله
لا يستند جبران باسيل في طرح الانتخاب الشعبي للرئيس إلى الأصوات التي حصل عليها حزبه، إذ إنّها لا تتجاوز 6% من المقترعين على المستوى الوطني، بل إلى كتلة من 347 ألف صوت تفضيلي حصل عليها “حزب الله”، أي ثلاثة أضعاف ما لديه من أصوات. ويراهن في المقابل على أن منافسه، الأول مسيحياً، لا يستند إلى تحالف مع كتلة إسلامية متماسكة تضاهي “حزب الله”.
جوهر الفكرة هنا هو التعويل على كثافة الصوت الشيعي وتماسكه لرفع باسيل من المرتبة الثانية على المستوى المسيحي إلى المرتبة الأولى على المستوى الوطني. ذاك تحوّل لا يستهان به بالنظر إلى مركزية فكرة “الأقوى في طائفته” في كلّ المسار العوني على مدى سبع عشرة سنة بين 2005 و2022، لدرجة إطلاق لقب “الرئيس القوي” على ميشال عون، وتسمية “لبنان القوي” على التكتّل النيابي العوني.
لنتجاوز الخفّة في طلب تغيير القواعد الدستورية كلّ مرّة بحسب ما تقتضي المصلحة، ولنعتني بما هو أهمّ: الاختيار بين الأول والثاني مسيحياً ليس مفاضلة نسبية ثانوية، بل هو بين خيارين استراتيجيين في موضوع محدد هو سيادة الدولة وموقعها على خريطة الهيمنة الإيرانية. ولو أنّ في الطرح العوني جانباً يتعلق بالتنافس بين باسيل وفرنجية على الحظوة لدى الحزب. يقول باسيل على طريقته إنّه يسلّم لـ”حزب الله” الموقع الاستراتيجي للبنان، لكنّه ينتدب نفسه لتجسيد هذا الموقع، بأفضليّته على فرنجية في الصفة التمثيلية المسيحية.
وقف العدّ
في المستوى الميثاقي المحلي ينطوي الطرح العوني على تعطيل المبدأ الأساس الذي قام عليه الطائف، وهو التوافق بديلاً عن الغلبة بالعدد، وعليه كانت فكرة المناصفة الملازِمة لوقف العدّ.
بدلاً من ذلك، يريد باسيل أن يحيل التنافس العددي إلى الدائرة الأوسع ليجعل معركته الانتخابية معركةً على الموقع الاستراتيجي للبنان، يتكفّل “حزب الله” بخوضها نيابة عنه.
واللافت أنّ العونيين بالذات جعلوا اللامركزية الإدارية الموسّعة ركناً أساساً في خطابهم السياسي منذ ما قبل الانتخابات النيابية، والتقوا في ذلك مع مروحة من اليمين المسيحي، فيما يتصاعد خطاب مسيحي أكثر يمينية ينادي بالفدرالية. والخطابان يلتقيان عند الحرص على عزل الصوت المسيحي عن تأثير الطغيان العددي للمسلمين.
ليس بين المنطقين تناقض. فأساس الفكرة العونية منذ عودة ميشال عون إلى لبنان في 2005 تقوم على المقايضة بين تسليم “حزب الله” الموقع الاستراتيجي للبنان والحصول على مكاسب داخلية، من تعيينات وصفقات ونفوذٍ داخل السلطة.
في المعسكر الآخر وهمٌ مختلف يقوم على تمنية النفس بصوغ تفاهم مع “حزب الله” للتخفيف من تغوّل العونيين على السلطة. هناك من يقول للحزب بشكل من الأشكال: ما حاجتكم إلى إبقاء باسيل مسلّطاً على الدولة إذا كنّا نسلّم لكم بانتخاب رئيس ليس أقلّ انتماء إلى محوركم منه؟
قد يجد وليد جنبلاط الظرف ملائماً لمساومة من هذا النوع، على غرار ما فعل بعد انتخابات 2009. حينذاك أيضاً كان لدى الحزب احتياج إلى إحداث خرق في صف المناوئين يضمن به الأغلبية. وبذاك الخرق خرج سعد الحريري من الحكم وتشكّلت حكومة اللون الواحد برئاسة نجيب ميقاتي.
إقرأ أيضاً: غياب الرئيس السيادي يصدع لبنان ويبدد الصلاحيات
في الانتخابات الأخيرة حافظ “حزب الله” على كتلته الناخبة فيما ضعف حلفاؤه، فخسر الأغلبية النيابية من دون أن يربحها مناوئوه. اقتضت المعركة الطاحنة مسيحياً أن يضحّي الحزب بحلفاء كثر، من الحزب القومي وحزب البعث إلى طلال أرسلان ووئام وهاب. يكفي ذلك لتجديد احتياج الحزب إلى اختراق من ناحية كليمنصو.
بين رهان ووهم يتحوّل “حزب الله” إلى ضابط لتوزيع مكاسب السلطة المفلسة، فيما يستأثر وحده بالقرار الاستراتيجي.