“تيريز” تحكم بلدية طرابلس

مدة القراءة 7 د

انقسم الشارع الطرابلسي في آرائه حول جلسة طرح الثقة برئيس بلديّتهم، وما تمخّض عنها من إسقاط رياض يمق عن كرسيّ الرئاسة بإجماع الأعضاء الذين حضروا الجلسة، وعددهم 14 عضواً من أصل 20. عبّرت الغالبيّة عن سخطها الممزوج بالسخرية والانتقاد اللاذع لأداء البلدية ومجلسها، في مقابل قيام مناصري الرئيس نجيب ميقاتي والنائب أشرف ريفي بشنّ حملات مضادّة على يمق وتحميله وزر فشل البلدية.

ليس هذا الاصطفاف بريئاً بالطبع، ويعيدنا إلى جذور المشكلة، وهي رفض يمق لمطالب الرئيس ميقاتي بتعيين أشخاص مقرّبين منه لإدارة سوق الخضار الجديد. وبعدما كان ميقاتي قد أوعز إلى جماعته بالضغط على يمق وإحراجه تمهيداً لإخراجه، دخل على خطّ الأزمة أعضاء المجلس البلدي طمعاً بكرسيّ الرئاسة، ومن خلفهم النائب أشرف ريفي الذي رأى في ما حصل فرصة للإتيان برئيس يكون موالياً له من أجل ترسيخ نفوذه وإثبات زعامته للمدينة، ومحاولة الاستفادة من البلديّة كبوّابة خدمات يحتاج إليها بشدّة، ولا سيّما مع تصاعد أصوات الاعتراض على أدائه البرلماني الذي يقتصر على الخطب الرنّانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع خدماتي.

المستفيد الأكبر من “قبع” رئيس بلدية طرابلس هو محافظ الشمال رمزي نهرا، الذي يؤكّد مرّة جديدة مدى براعته في التلاعب بالنخب الطرابلسية

من هي “تيريز” طرابلس؟

المستفيد الأكبر من “قبع” رئيس بلدية طرابلس هو محافظ الشمال رمزي نهرا، الذي يؤكّد مرّة جديدة مدى براعته في التلاعب بالنخب الطرابلسية، واستغلال خلافاتها وصراعاتها التي لا تنتهي من أجل استمالة فئات منها واستعمالها في مواجهة الآخرين، تماماً مثلما يفعل صديقه وعرّابه رئيس التيّار الوطني الحر جبران باسيل في تشكيل الحكومات وتسمية الوزراء والتعيينات وغيرها. وكما بات  باسيل في السنوات الأخيرة معبراً إلزامياً لتوزير السُنّة الذين تسابق بعضهم إلى نيل رضا “تيريز”، مثل وزير الاقتصاد أمين سلام، ووزير الداخلية بسام مولوي كما أقرّ الأخير بنفسه، تحوّل المحافظ نهرا إلى “تيريز” الطرابلسية التي تتبارز نخب المدينة في هجائها في العلن، فيما تتسابق إلى نيْل رضاها وبركتها، مثلما هو الحال مع الراغبين والطامحين إلى منصبَيْ رئيس البلدية ونائبه.

و”تيريز” تسمية أطلقها رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، تيمّنا بأغنية “قوم بوس تيريز” الكوميدية. إذ قال في إحدى مقابلاته إنّه كلما زار الرئيس ميشال عون، يطلب منه: “قوم بوس تيريز”. في إشارة إلى طلب الرئيس منه أن يتفاهم مع جبران باسيل. 

ثمّة أعضاء في المجلس البلدي لم يتركوا تهمة ولا موبقة إلّا وألصقوها بنهرا، فحمّلوه وزر كلّ المشاكل والأزمات التي تعصف بطرابلس، وأسهبوا في استعراض “عضلاتهم” الكلامية من أجل الإيحاء للطرابلسيّين بأنّهم ليسوا مثل نوّاب المدينة وزعماء السُنّة “المتخاذلين” الذين يقدّمون التنازل تلو التنازل، لكنّهم عند كلّ امتحان أثبتوا للرأي العامّ الطرابلسي أنّهم أكثر تخاذلاً بكثير، وأنّهم يقولون ما لا يفعلون، ويحجّون إلى “تيريز” طرابلس، نهرا. 

 

كلمة السرّ

أحد هؤلاء هو جميل جبلاوي الذي كان ينتقد نهرا منذ سنوات، وسبق له أنْ اتّهمه بالاعتداء على كرامة طرابلس وأهلها، وذلك عند قيامه بالتحقيق مع رئيس البلدية رياض يمق في قضية إحراق القصر البلدي، مع أنّه لا يحقّ له ذلك قانوناً، وعامله يومها مثل المجرمين والمخرّبين أثناء التحقيق.

وجبلاوي نفسه كان رافضاً لقرار وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي بطرح الثقة بيمق، مؤكّداً أنّه وزملاءه أعضاء منتخبون من الشعب، في حين أنّ مولوي معيّن، وكذلك نهرا بالطبع.

لكنّه انقلب على مواقفه و”ثوابته” 180 درجة، بحيث لم يكتفِ بقبوله التبليغ عن طريق “مخفر” لقوى الأمن من أجل انتخاب أرفع منصب محلّي في طرابلس، بل وصل به الحال إلى اتّهام قوى الأمن بمخالفة القوانين وبالتواطؤ لأنّها تتلكّأ عن تبليغ أعضاء المجلس البلدي بجلسة انتخاب رئيس جديد يوم الإثنين الفائت!!

كلمة السرّ في هذا التحوّل المذهل لدى النائب أشرف ريفي الذي أوعز إلى الأعضاء الموالين له بدعم ترشيح خالد تدمري لرئاسة البلدية، وبالتالي دعم المحافظ في إمعانه في إهانة مدينة طرابلس وأهلها وفق اتّهامات ريفي وجبلاوي!

نسأل هنا: ما الفارق بين تصرّف الرئيس عون بإرسال درّاج من قوى الأمن يحمل مغلّفاً فيه تشكيلة حكومية وضعها الرئيس وأعوانه إلى الرئيس المكلّف سعد الحريري، وبين ما قام به المحافظ نهرا؟

 

هل خان أعضاء البلديّة الأمانة الشعبيّة؟

أعطى رياض يمق في مؤتمره الصحافي الثلاثاء الماضي للإعلاميّين الحاضرين نسخة عن جدول حضور جلسات المجلس البلدي خلال ولايته النصفية يُظهر أنّ أكثر من نصف الأعضاء يفوق بكثير عدد الجلسات التي تغيّبوا عنها عدد تلك التي حضروها، بما يعكس حجم اللامبالاة والأنانيّة اللتين تطبعان أداءهم، ويناقض كلّ ما يدّعونه من حرص على مصالح الناس المؤتمنين عليها.

يشكّل عضو المجلس سميح حلواني مثالاً فاقعاً على ذلك. فهو لم يحضر هذه السنة أيّ اجتماع للمجلس البلدي من أصل 15 اجتماعاً، وفي العام الماضي حضر فقط اجتماعين من أصل 27، ويبلغ إجمالي حضوره 18 جلسة من أصل 84 منذ العام 2019 حتّى اليوم، أي ما معدّله 21.5%. بيد أنّ حلواني سارع إلى حضور جلسة طرح الثقة بالرئيس وتقديم نفسه مرشّحاً لمنصب نائب الرئيس.

السؤال الذي يطرح نفسه بالنسبة إلى حلواني أوّلاً، لأنّه من خرّيجي مدرسة الإخوان المسلمين وتمتلئ صفحته الفايسبوكية بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وبالنسبة إلى سائر الأعضاء الذين تغيّبوا عمداً عن حضور جلسات المجلس البلدي:

هل الأمانة التي حمّلكم إيّاها الناخبون الطرابلسيون تسمح بالتغيّب عن جلسات المجلس البلدي الذي هو بمنزلة مجلس وزراء مدينة طرابلس، وذلك كرمى لأهداف ومآرب شخصية؟

 

الإسلام السياسيّ وتقلّباته

من جانب آخر، ثمّة جوامع مشتركة بين جبلاوي وحلواني. كلاهما قدّم ترشيحه للانتخابات البلدية كـ”تغييريّ”، وكلاهما من الـ”إكس” جماعة إسلامية مع أنّهما ما يزالان ينتميان بشكل أو بآخر إلى الإسلام السياسي، وأيضاً كلاهما خلعا لباس التغيير وتحوّلا إلى موالين للّواء أشرف ريفي، وكانا من داعميه في الانتخابات النيابية الأخيرة التي أصبح فيها نائباً.

 

هذا ما يطرح إشكالية كبرى حول خرّيجي مدرسة الإسلام السياسي في طرابلس وكيفية استخدامهم للدين في تأليب وتحريض السُنّة ضدّ زعمائهم وبعض نوابهم وضدّ أيضاً التيّار الوطني الحر لتغطية تقصيرهم وعجزهم عن تحمّل مسؤوليّاتهم، وفي نفس الوقت لتسويغ تقلّباتهم العجيبة من جهة أخرى.

عموماً، فإنّ ما سهّل عملية “قبع” يمق هو افتقاره الى أي غطاء سياسي أو حتّى شعبي بسبب عجز البلدية عن القيام بأبسط واجباتها. بالإضافة إلى الأخبار التي راجت مؤخّراً والتي تتحدّث عن استمرار المجالس البلدية الممدّد لها لأجل غير محدّد وليس لسنة فقط، بالتوازي مع إدراك أعضاء المجلس البلدي الحالي لصعوبة تكرار فرصة الرئاسة مستقبلاً. وصراع المناصب هو الذي أدّى الى تطيير جلسة انتخاب رئيس بلدية جديد ونائب له الإثنين الفائت، لأنّه ثمّة أربعة أعضاء ينقسمون ما بين طامح بالمنصب الأول أو الثاني، وعندما وجدوا أنّ تأمين النصاب سيكون على حساب طموحاتهم انسحبوا. (حضر الجلسة 10 أعضاء فقط من أصل 20). فالكفّة لا تزال تميل الى خالد تدمري لمنصب الرئيس، وهو الذي لمْ يحضر سوى 24 جلسة من أصل 84 في ثلاث سنوات، وسميح حلواني لمنصب نائب الرئيس.

تجدر الإشارة الى أنّ المحافظ رمزي نهرا قام بتكليف الرئيس الأسبق للبلدية أحمد قمر الدين تسيير شوؤن البلدية كونه الأكبر سناً، وهذا الإجراء ليس مناورة ميقاتية كما شاع طرابلسياً. فلو كان ذلك صحيحاً لما استمرّ الإضراب المفتوح لعمّال بلدية طرابلس، والذي قرّرته نقابة عمّال البلدية بدعم من رئيس الاتّحاد العمالي العام في الشمال. والأخير من جماعة ميقاتي الذي له نفوذ أيضاً على الاتّحاد العمالي في الشمال وعلى نقابة عمّال بلدية طرابلس.

إقرأ أيضاً: بلدية طرابلس تنجو من رئيس “تركي”

بل على العكس تماماً، فهناك من يعتبر أنّ نهرا تعمّد تكليف قمر الدين، وعدم تعيين موعد لجلسة قريبة، قاصداً إشعال نار الفتنة بين أعضاء المجلس البلدي الذين وقّعوا على تطيير يمق، وكذلك بين قمر الدين ويمق الذي يرفض تسليم سلفه. نقطة الخطورة أنّه سبق أنْ حدثت الكثير من الإشكالات بين أعضاء البلدية، والتي تطوّرت إلى الاشتباك بالأيدي والأزلام والأسلحة. وربّما يكون هذا بالضبط ما تريده “تيريز” كي تحكم وتتحكّم هانئة ومطمئنّة.

مواضيع ذات صلة

“الفرصة الأخيرة” وسط الألغام

قبل ساعات من وصول الموفد الأميركي آموس هوكستين تقصّد العدوّ الإسرائيلي كما الحزب رفع مستوى الضغط الميداني إلى حدّه الأقصى: إسرائيل تكرّر قصف عمق العاصمة…

باريس على خطّ طهران… لتليين موقفها

قبل ساعات من فصل “زيت” الأخبار المسرّبة عن “مياه” الوقائع التي عكستها المشاورات العابرة لخطوط التماسّ، والتي قادها الموفد الأميركي آموس هوكستين، يبيّن تقاطع المعطيات…

هوكستين في بيروت وتل أبيب: قوات أميركية وبريطانية باليونيفيل

واشنطن   أمس وصل جواب لبنان إلى السفارة الأميركية في عوكر قبل إرساله إلى واشنطن حول المقترح الأميركي للتسوية بين لبنان وإسرائيل. لكن ما وصل…

استهداف محمد عفيف: رسالة متعدّدة الأبعاد

توجّه مسؤول وحدة الإعلام في الحزب الحاج محمد عفيف ظهر يوم الأحد الماضي برفقة عدد من مساعديه إلى مقرّ حزب البعث في منطقة رأس النبع…