أن ترتفع الكتلة النقدية إلى نحو 41.6 تريليون ليرة، بحسب بيانات مصرف لبنان، فهذا يعني أنّ الأخير يواصل ضخّ الليرات في السوق. لكنّ اللافت أنّ هذا الضخّ لم يؤدِّ حتى الآن إلى تضخّم عظيم في سعر الصرف صعوداً خلال الشهرين الفائتين، ما خلا نهاية الأسبوع، التي شهدت ارتفاعاً للدولار من نحو 30 ألفاً إلى عتبة 31 ألفاً للدولار الواحد، ثمّ عاد إلى التراجع اليوم، بعدما كان سبب ذلك إضراب المصارف ليوم واحد، اعتراضاً على توقيف رئيس مجلس إدارة “بنك الاعتماد المصرفي” طارق خليفة، وترافقه مع عطلة نهاية الأسبوع وعطلة “عاشوراء”.
عادت أمس الأول المصارف إلى العمل، واستكملت منصّة “صيرفة” عملها كالمعتاد، محدثة ما يشبه “الترييحة” بسعر الدولار، الذي هبط بنحو 500 ليرة.
في المبدأ، أيّ وفرٍ في الدولارات يطرأ على السوق مثلما يحدث هذا الصيف نتيجة زحمة المغتربين والسياحة، لا بدّ أن ينعكس إيجاباً على سعر الليرة، لكنّ ذلك لم يحصل. ويعود السبب إلى “شفط” الدولارات من السوق، الذي ينتهجه مصرف لبنان لحاجته إليها، مانعاً أيّ تحسّن في قدرة الليرة الشرائية.
يقول أحد الصرّافين في اتصال مع “أساس” إنّ عدد الصرّافين الذين يبيعون فائض الدولارات للمصرف المركزي محدود جدّاً ولا يتعدّى عدد أصابع اليد الواحدة
كيف يشتري هذه الدولارات؟
يعتمد مصرف لبنان في شراء الدولارات من السوق آليّة معقّدة. فهو يشكّل حلقة مقفلة تدور فيها الدولارات بين 4 أطراف، يتزعّمها “البنك المركزي”، بينما الأطراف الثلاثة المتبقّية هي:
1- الصرّافون (الشرعيون وغير الشرعيين) الذين يقومون بشراء الدولارات من المواطنين على سعر “السوق السوداء”، وهو نفسه السعر الذي لا يعترف به مصرف لبنان في الظاهر، لكنّه يشتري الدولارات بموجبه من الصرّافين أنفسهم، في الخفاء، من خارج الأطر المتعارف عليها ضمن القطاع المصرفي، مستفيداً من حصريّة امتلاكه للّيرات اللبنانية.
2- منصّة “صيرفة” التي بموجبها تُضخّ الدولارات في السوق بالقدر المطلوب، على سعر اليوم الذي يصدر مساء كلّ يوم عمل في مصرف لبنان.
3- المواطنون اللبنانيون، مقيمين ومغتربين، الذين دخلوا تلك الحلقة واعتادوا على “دولرة” كلّ شيء، بدءاً بالموادّ الغذائية، مروراً بأسعار المحروقات، وصولاً إلى الاتصالات وغيرها. خصوصاً أنّ وجهة الدولار على شبابيك الصرّافين باتت شبه محصورة بالبيع غالباً، فلا يكون الشراء إلاّ في الحالات الاستثنائية. لأنّ أغلب اللبنانيين يعتمدون على مساعدات ذويهم المغتربين للاستمرار أو على مداخيلهم الدولارية من الداخل أو الخارج، ما خلا موظّفي القطاع العامّ الذين يستفيدون بدورهم من “صيرفة” بجزء يسير يصل بحسب الراتب إلى سقف لا يتعدّى 500 دولار شهرياً.
الفرق بين السعرين (سعر “السوق السوداء” ومنصّة “صيرفة”) يتحمّله مصرف لبنان على شكل خسائر. وما دامت هذه الخسائر بالليرة اللبنانية، فلا تشكّل أزمة كبيرة بالنسبة إلى “المركزي” ما دام هو الجهة التي تطبع هذه الأوراق على منوال “أوراق المونوبولي” وتمدّ بها السوق.
يقول أحد الصرّافين في اتصال مع “أساس” إنّ عدد الصرّافين الذين يبيعون فائض الدولارات للمصرف المركزي محدود جدّاً ولا يتعدّى عدد أصابع اليد الواحدة، لكنّ وراء هؤلاء عدداً أكبر من الصرّافين الذين يعملون لصالحهم عند وجود فائض من الدولارات. هؤلاء يبيعون فائض الدولارات لمصرف لبنان عبر الصرّافين الكبار مقابل 25 ليرة إلى 50 ليرة للدولار الواحد، وهم بدورهم أمسوا مصدر الليرات اللبنانية التي يتحصّلون عليها من المركزي لقاء الدولارات، لأغلب الصرّافين والمواطنين في مختلف الأراضي اللبنانية.
عادت أمس الأول المصارف إلى العمل، واستكملت منصّة “صيرفة” عملها كالمعتاد، محدثة ما يشبه “الترييحة” بسعر الدولار، الذي هبط بنحو 500 ليرة
ما حجم خسائر “المركزي”؟
لا يبوح “المركزي” بالكثير من المعلومات عمّا يدور في منصّته “صيرفة”، وجلّ ما ينشر للجمهور مساء كلّ يوم عمل، كما بات معروفاً، هو سعر الصرف اليومي وحجم التداول من دون البوح بحجم هذا التداول شراءً ومبيعاً. بهذه الطريقة يحتفظ مصرف لبنان بالبيانات ولا يُعرف ما هو حجم الدولارات التي دخلت خزائنه أو ما خرج منها، مع العلم أنّ دخول الدولارات إليه عبر “صيرفة” هو ضرب من ضروب الجنون. فمن هو ذاك الذي سيرضى ببيع دولار واحد بأقلّ من قيمته بنحو 5,000 ليرة لبنانية؟ (الفرق بين السعرين).
يعني ما سلف أنّ الأرقام التي ترد إلينا عن حجم التداول اليومي، هي فعليّاً تخرج من خزائن “المركزي” إلى السوق. لا يوجد عاقل يمكن أن يبيع دولاراته لمنصّة صيرفة بـ25 ألف ليرة، في حين أنّه يستطيع بيعها على شبابيك الصرّافين بـ30 ألف ليرة,
لكن ثمّة تقديرات متداولة في القطاع المصرفي تقول إنّ حجم التداول الفعلي هو نصف المعلن، لأنّ “المركزي” ربما يحتسب عملية البيع على أنّها عمليّتان: الأولى حين يشتري الزبون دولارات من المصرف، والثانية حين يبيع المصرف الدولارات نفسها للزبون.
إذا أخذنا أرقام “صيرفة” خلال شهر تموز الفائت، فإنّ معدّل حجم التداول قد بلغ خلال 15 يوم عمل 721 مليون دولار، نصفها هو 360 مليوناً، أي ما معدّله 24 مليون دولار يوميّاً. وهو الرقم “الطبيعي” لحجم التداول في السوق اللبناني. ولمّا كان الفرق بين سعر السوق و”صيرفة” قرابة 5 آلاف ليرة، فإنّ الخسارة اليومية التي يتكبّدها مصرف لبنان تراوح بين 100 و120 مليار ليرة لبنانية، يسجّلها خسائر دفترية، وهي في الوقت نفسه أرباح “دولارية”، من أجل الحفاظ على “استقرار” الليرة ومنع المضاربات، إلى حين بلوغ الحلّ المنتظر على يد صندوق النقد الدولي، وهذا طبعاً بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد وتشكيل حكومة.
إقرأ أيضاً: “زيادة الاستهلاك” سهّلت “الدولار الجمركيّ”؟
يشير هذا كلّه إلى أنّه مع انتهاء فصل الصيف ربّما يكون سعر الدولار على موعد جديد مع التحليق. يعتمد هذا التوقّع تحديداً على حجم الاستهلاك الذي لا تُنبىء مؤشّراته بالخير، خصوصاً أنّ حجم الاستيراد في العام الماضي قد سجّل زيادة قدرها 2.3 مليار دولار مثلما ذكرنا في المقال السابق عن العام 2020 )”زيادة الاستهلاك” سهّلت “الدولار الجمركيّ”؟).
لنا أن نتصوّر ما قد ينتظرنا بعد فصل الصيف مع رحيل المغتربين والسيّاح وإقرار الزيادة لموظّفي القطاع العامّ!