هدفت الحرب الإسرائيلية على غزة جزء إلى تثبيت إستراتيجية وضعتها تل أبيب لشقّ الصف الفلسطيني من خلال الفصل بين حركتي “الجهاد الإسلامي” و”حماس” مستهدفةً الأولى ، وكذلك إلى إضعاف حلفاء إيران في فلسطين المحتلة تحسباً لحرب محتملة مع “حزب الله” على إستخراج الثروات الغازية من حقل كاريش. وقد إلتقط وضوح الرسالة “الحزب” الذي تولى أمينه العام السيد حسن نصر الله الرد عليه سياسياً بالتحذيرمن التصعيد.
الإنشغال بحجم الحرب وما خلفته من ضحايا مدنيين ، يجب ألا يغفل البعد الإستراتيجي لهذه المعركة الخاطفة أمنياً وعسكرياً. وربط الهجوم بالسياسة الإسرائيلية الداخلية والإنتخابات المزمعة ينطوي بدوره على خطأ، لأن الأهداف الإسرائيلية كانت محددة بضرب “حركة الجهاد الإسلامي” بما هي حليف موثوق وأقرب إلى إيران، فيما كان أمينها العام زياد نخالة في طهران.
نجحت إسرائيل في المبدأ بإسقاط نظرية “وحدة الساحات” التي كان شرع بها حزب الله منذ إستدعاء قادة ميليشيات عراقية إلى الحدود، وكذلك عبر التنسيق الذي حصل مع “حماس” في العملية التي حملت إسم سيف القدس. لذا كان واضحاً تأكيد إسرائيل على أن الضربات هي لـ “الجهاد الإسلامي” وحدها ومن دون “حماس”. فإضعاف هذه الحركة من خلال إستهداف القادة الميدانيين واعتقال غيرهم بدا أمراً أكثر إلحاحا لتل أبيب،إذ يرجح أن تشارك الحركة وبسب ولائها المطلق لإيران في قتال إسرائيل فيما لو نشبت مواجهة عسكرية مع حزب الله في الشمال، وذلك في حال فشلت “مفاوضات الترسيم البحري” بين لبنان وإسرائيل والتي تقودها الولايات المتحدة.
الإحتدام السياسي بين إسرائيل و”حزب الله” على وقع حرب غزة لم يكن مقطوع الصلة عن السياق الإقليمي في المنطقة
“حزب الله”: الرسالة وصلت
الوجهة الإسرائيلية في الحرب تبدت بوضوح جلي عند “حزب الله”. وتظهرت في كلام نصر الله في ذكرى عاشوراء عندما قال إنّه لا يمكن لإسرائيل أن تقوم في لبنان بمثل ما قامت به في غزّة من اغتيالات أو استهداف لشخصيّات، لأنّ ذلك لن يمرّ من دون ردّ. ينطوي كلام نصر الله على إدراك واضح لأهداف العملية الإسرائيلية.
عملياً، كان كلام نصر الله يلاقي سياسياً ما أعلنه وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس عن “حقّ إسرائيل في القيام بعمليات استباقية لحماية مواطني إسرائيل، من خان يونس إلى طهران”.
خطورة التصعيد الإسرائيلي وما قابله بها نصر الله أنه جاء مُعلقاً على إنتظار لبناني لجواب الموفد الأميركي آموس هوكستين عن مآل الترسيم البحري الذي يبقى حتى الساعة مقصوراً على تصريحات لبنانية من دون تأكيد إسرائيلي وتوثيق أميركي يعلن نهاية الخلاف على “الأمور الإقتصادية” بين حقلي قانا جنوب لبنان، وحقل كاريش شمال إسرائيل.
خيارات لبنان الصعبة
وإذ جاء كلام أمين عام حزب الله متسقاً مع المعنى السياسي لما أرادته إسرائيل من حربها، فإن هذا لا يلغي على الإطلاق أن التوتر هو عنوان المرحلة الراهنة مع ميّل واضح من الطرفين إلى عدم التفجير العسكري على طرفي الحدود. فكلاهما يريد تحقيق أهدافه السياسية والإقتصادية . إسرائيل أرجأت عمليات استخراج الغاز في انتظار التوصل إلى حل، و”حزب الله” يريد مكاسب سياسية تثبت جدوى إمساكه بقراري الحرب والسلم في لبنان، إلى جانب الشروع بالبحث عن الثروات الغازية وهذا كان واضحاً على الدوام خلال الفترة الماضية في كلام نصر الله الذي كان يشترط الى الترسيم السماح للشركات الأجنبية بالتنقيب. وإذا لم يحدث ذلك فإن احتمال نشوب صراع بين البلدين بسبب حقل الغاز سيكون كبيراً.
في الحالتين سيصيب لبنانَ ضررٌ ما. ففي حال سُدّت آفاق الاتفاق، سيكون هناك صدام حتميّ يتأثّر به لبنان بشكل مباشر ومدمّر إذا ما اندلعت الحرب. أمّا في حال وصلت المفاوضات إلى اتّفاق، فهذا يعني أنّ الانعكاس سيكون سياسياً، وهو ما بدأ حزب الله يستعدّ له، وذلك بأن يكون له مقابل ترسيم الحدود والتنازلات التي قُدّمت لبنانياً مكاسب سياسية في الاستحقاقات المقبلة.
الإحتدام السياسي بين إسرائيل و”حزب الله” على وقع حرب غزة لم يكن مقطوع الصلة عن السياق الإقليمي في المنطقة ، فقد وصلت محادثات فيينا بين إيران والغرب إلى مرحلة حساسة بانتظار الساعات المقبلة. ويأتي ذلك، مع توقّع تطور مسار الحوار بين إيران والسعودية، وكذلك بينها وبين الأردن ومصر في العاصمة العراقية بغداد.
ما يزيد من وطأة التطورات على لبنان هو أنه من دون إحتضان عربي جراء خروجه على الإجماع العربي وعدم إلتزام سياسة النأي بالنفس والسكوت على سياسات “حزب الله” الذي أحكم قبضته السياسية بعد تلك الأمنية والعسكرية، ما يعني فعلياً حجم التحكم الإيراني.
إقرأ أيضاً: الحرب على غزّة: تحريك إيرانيّ وأضرار على الفلسطينيّين والعرب!
لقد بدا واضحاً الإنكفاء العربي عن لبنان. وكانت أبرز تجلياته مع استحقاق الانتخابات النيابية. وبحسب معلومات تلقتها “اساس” فإنّه عند كلّ مفاتحة دوليّة لمسؤولين عرب في شأن الاستحقاق المقبل يكون الجواب أنّه لا بدّ من حصول تغيير جذري في الداخل اللبناني، وهذا ما يبدو أن له أفق راهناً.