فائض الدولارات: لماذا انخفضت الليرة؟

مدة القراءة 6 د

تحوّل ميزان العرض والطلب لمصلحة الليرة في النصف الثاني من شهر تموز، فسجلت احتياطات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية ارتفاعاً طفيفاً بنحو 57 مليون دولار، لكن الدولار واصل ارتفاعه ليتجاوز 31 ألف ليرة في السوق الموازية و26 ألف ليرة على منصة صيرفة، بزيادة ألفي ليرة عما كان عليه في مطلع الشهر.

ليس الأمر اعتباطاً، بل من الواضح أن مصرف لبنان يفضل أن “يلم” الدولارات الطازجة التي يحملها المغتربون بدلاً من أن يتركها تتحول إلى طلب يدعم سعر صرف الليرة. والدليل أن البنك ضخ كميات هائلة من أوراق المئة ألف ليرة في السوق، ما أدى إلى ارتفاع الكتلة النقدية إلى 41.6 تريليون ليرة في آخر البيانات المعلنة، بعد أن كان قد حجّمها إلى 32.6 تريليون ليرة في آذار الماضي، أي أنها زادت بنسبة 28% خلال أربعة أشهر فقط.

هذا الارتفاع في الكتلة النقدية لا يقدّم تفسيراً وافياً لعودة الدولار إلى الارتفاع، إذ إن ارتفاع النقد المتداول بالليرة يقابله ارتفاع في النقد المتداول بالدولار بما يزيد عن الطلب في السوق السوداء، وهذا ما جعل الضغط على منصة صيرفة يتراجع بشكل ملحوظ، لينخفض حجم التداول فيها إلى ما دون الثلاثين مليون دولار في بعض الأيام.

يتصرف مصرف لبنان مع هذا التدفق للعملة الصعبة على أنه موسم قصير لتعزيز الاحتياطات، وهو كذلك، ولا بد من استغلاله لجمع القرش الأبيض للأيام السوداء التي يمكن أن تأتي في الخريف

من الواضح إذاً أن تدفق العملة الصعبة من المغتربين هذا الصيف أكبر بكثير من الصيف السابق الذي شهد انخفاضاً لاحتياطات مصرف لبنان الأجنبية بنحو 1.5 مليار دولار. والأهم أن الأثر الاقتصادي لإنفاق المغتربين أفضل بكثير من السنة الماضية، ليس فقط لأن أسعار السلع والخدمات “تدولرت” وتطبّعت إلى حد بعيد، بل لأن الدعم الحكومي تقلّص إلى الحد الأدنى. فبينما كان المغترب في صيف 2021 يزاحم المقيم على البنزين المدعوم من احتياطات مصرف لبنان، بات هذه السنة يدفع ثمن المحروقات بلا دعم. هذا من دون إغفال أن إنفاق المغتربين يؤدي إلى طلب على السلع المستوردة، فيتفاقم العجز التجاري، لكن يقابل ذلك الإنفاق على الخدمات والسلع المنتجة محلياً.

 

الدولارات أكثر من البيانات

تدفق الدولارات من الخارج أكبر بكثير مما تعكسه بيانات المصرف المركزي، والسبب في ذلك أن جزءاً كبيراً من الدولارات يحملها الوافدون من الخارج كأوراق نقدية ولا تدخل إلى النظام المالي حتى بعد إنفاقها داخل البلاد، وذلك بسبب الهيكل المختل لسوق القطع الذي صممه مصرف لبنان خلال الأزمة. إذ إن تعدد أسعار الصرف يبقي مصرف لبنان المزوّد شبه الوحيد للمستوردين بالدولارات. ولا حل لهذه المعضلة إلا بتوحيد سعر الصرف بين “صيرفة” والسوق الموازية (السوداء) على الأقل. فطالما أن هناك فجوة تفوق 20% بين السوقين، وهي فجوة كبيرة جداً بمعايير أسواق الصرف، ستظل فرصة الربح الانتهازي (arbitrage) قائمة للتجار والمضاربين الذين يبيعون الدولار في السوق الموازية ويستخدمون المتحصّلات بالليرة لإعادة شراء الدولار عبر منصّة “صيرفة”.

بسبب هذا الاختلال يتحمل مصرف لبنان كل العجز في ميزان المدفوعات. ففي حين تراجعت موجوداته بالعملات الأجنبية في حزيران بـ 728 مليون دولار ارتفعت موجودات البنوك الخارجية في الفترة نفسها بـ 254.2 مليون دولار. وهذا ناجم عن أن البنوك لا تتحمل مسؤوليتها في تمويل الاستيراد، بسبب الهيكل المشوه الذي ابتدعه مصرف لبنان لسوق القطع.

ثمة سؤال يُطرح على الهامش هنا، وهو كيف تمكن مصرف لبنان من شراء الدولار من السوق وزيادة احتياطاته، ولو برقم طفيف، مع أن منصة صيرفة مصممة لتدخله في اتجاه واحد هو بيع الدولار (للمستوردين خصوصاً)، وليس لشرائه؟ هل من عاقل يبيع الدولار للبنك المركزي بـ 26 ألف ليرة بينما هو قادر على بيعه في السوق الموازية بـ 31 ألف ليرة؟ هذا يشير إلى وجود آلية سوقية غير معلنة بين البنك المركزي وكبار اللاعبين في سوق الصرافة توفر قناة معاكسة لتجميع الدولارات.

على أي حال، يتصرف مصرف لبنان مع هذا التدفق للعملة الصعبة على أنه موسم قصير لتعزيز الاحتياطات، وهو كذلك، ولا بد من استغلاله لجمع القرش الأبيض للأيام السوداء التي يمكن أن تأتي في الخريف، خصوصاً إذا ما تعسّر الاستحقاق الرئاسي، وتعسّر معه إقرار الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي في مجلس النواب. وفي الأسابيع المقبلة أيضاً استحقاق لا مفر منه هو إجراء تعديل جزئي لرواتب القطاع العام التي فقدت 95% من قيمتها. إذ إن أي تعديل سيتحول إلى طلب على الدولار يعيد ميزان المدفوعات إلى دائرة العجز.

 

الشهية على دولارات المغتربين

لكن الانتعاش الاقتصادي النسبي خلال الصيف فتح شهية بعض المعنيين لرسم سيناريوات لتجاوز الأزمة المالية والاقتصادية من دون الاضطرار للدخول تحت وصاية صندوق النقد الدولي. فتلك الوصاية تضرب مصالح البنوك والسلطة ومن قاموا بتهريب تسعة مليارات دولار، بتمويل مباشر من مصرف لبنان، عام 2020.

تلك هي المعركة المقبلة. لا يريد النافذون حلاً منظماً للأزمة يفرض على الرابحين منها التخلي عن بعض مكاسبهم للخاسرين، بل يريدون حلاً على الطريقة اللبنانية، يفرض على الخاسرين التسليم بخسارتهم.

في رأس قائمة الخاسرين أصحاب الودائع، الكبيرة منها والصغيرة، ويأتي بعدهم الموظفون في القطاع العام. في شريحة المودعين فئة من النافذين الذين هرّبوا أموالهم، وفئة أخرى سلّمت بالخسارة وتدبّرت أمرها خلال الأعوام الثلاثة الماضة، من خلال السوق السوداء للشيكات أو من خلال “الهيركت” الذي فرضه مصرف لبنان عبر التعاميم المتلاحقة، وتبقى الفئة العالقة المغلوب على أمرها. وفي قائمة الرابحين أصحاب القروض الذي سددوها على سعر الصرف الرسمي، والتجار الذين استفادوا من أموال الدعم، وأولئك الذين هربوا أموالهم في السنة الأولى من الأزمة.

إقرأ أيضاً: تصحيح الرواتب يطيح بخطّة رياض سلامة… والليرة

وفّر تدفق الأموال إلى البلاد احتمالاً نظرياً لإمكانية التحوّل لتحقيق فائض في ميزان المدفوعات، ولو لشهرين أو ثلاثة، من دون أن تعود الدولة رسمياً إلى أسواق الدين العالمية. ولولا هذه الفسحة لما كانت البنوك بدأت هجومها المرتد في الإعلام وفي الشارع عبر الإضراب ليوم واحد، المرفق بالتهديد بإضراب مفتوح.

إنه موسم “تقريش” أرباح الأزمة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…