لإسرائيل أن تطمئن، إذ يبدو أنّ الوقت المناسب لإزالتها من الوجود لم يحن بعد، على الرغم من أنّها في ذروة جولة عسكرية جديدة مع ميليشيا “الجهاد الإسلامي”، هذه المرّة، في غزّة. هذا ما يُفهم من تصريح قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني، الذي اختار توقيتاً غريباً ليدلي بتصريحه التالي: “حزب الله يخطّط لتوجيه آخر ضربة لإسرائيل وإزالتها من الوجود في الوقت المناسب”. والوقت المناسب ليس الآن، لأنّ ميليشيا حزب الله كما ميليشيا حماس، يكتفيان بالدعاء بالنصر فيما غزّة تشتعل!
سوى التوقيت الغريب، لا جديد طبعاً يستوقف في كلام قاآني. فهذا التصريح المستهلَك يُضاف إلى أرشيف مديد من المواعيد المضروبة لإزالة إسرائيل من الوجود، في حين أنّ ما يزول فعلاً في سياق هذه الرحلة هي عواصم عربية كبيروت ودمشق وبغداد.
قبل ساعات من كلام قاآني، كان قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي يقول أيضاً إنّ لدى ميليشيا حزب الله “100 ألف صاروخ قادرة على فتح أبواب الجحيم على إسرائيل”.
ظهر منطق الحرب الأهلية جليّاً في خطاب أخير لحسن نصرالله أبلغنا فيه أنّ ما يقوم به هو “تكليف من الله”، وهو ما يجعل أيّ خلاف مع منطق حزب الله هو خلاف مباشرة مع الإرادة “الإلهية”
الأغرب والأعجب هذا الحجم من الأريحية الإيرانية. فإن كان مشروع إزالة إسرائيل ممكناً وأدواته متوفرة، لماذا تترك إيران شرف إزالة إسرائيل لحزب الله ولا تتقدّم هي لهذه المهمّة الجليلة؟ لماذا يصرّ الإيرانيون على إهداء غيرهم شرف الضربة التاريخية الأخيرة التي يُفترض أنّ إيران دفعت لأجلها أثماناً سياسية واقتصادية واجتماعية مهولة منذ العام 1979؟
حقيقة الأمر أنّه لو كان ما يقوله قاآني وسلامي وباقي جوقة نظام ولاية الفقيه صحيحاً، لَما تُرك هذا “الشأن العظيم” لغير الإيرانيين ليقوموا به. لكنّ ثمة مَن تترتّب عليه فواتير الأوهام الأيديولوجيّة وأثمان التعبئة، وهو نحن، بدولنا ومدننا وشعوبنا وسلمنا الأهليّ والاجتماعي والاقتصادي، ومن خلال وكلاء محليّين كميليشيات حزب الله وحماس والجهاد وغيرها!
الحروب الأهلية
المعضلة القاتلة التي يضعنا فيها هذا الاستسهال في الرغي عن إزالة إسرائيل وتكليف غير الإيرانيين به، هي أنّ استعصاء “الانتصار” يولّد الحرب الأهلية.. هذا ما حصل تماماً بعد حرب تموز 2006 التي هجّرت مليون لبناني وهدّمت مئات آلاف المنازل وسُمّيت انتصاراً. الأكلاف الهائلة لتلك الحرب وما أثارته من نقاش طبيعي حول جدوى ووظيفة ومسؤولية السلاح أوصلت بشكل متعرّج إلى الحرب الأهلية المصغّرة في أيار 2008. استعصاء الانتصار بالمعنى الإيراني المروَّج له، وهو الثابت والأكيد، هو أقصر الطرق إلى الحرب الأهليّة.
ظهر منطق الحرب الأهلية جليّاً في خطاب أخير لحسن نصرالله أبلغنا فيه أنّ ما يقوم به هو “تكليف من الله”، وهو ما يجعل أيّ خلاف مع منطق حزب الله هو خلاف مباشرة مع الإرادة “الإلهية”. لا يوجد في علم السياسة ما يكفي من مؤسّسات وقوانين ودساتير قادرة على امتصاص النزاع السياسي، والحفاظ على سلميّته، حين يصير نزاعاً مع الألوهة نفسها بكلّ محمولاتها المقدّسة.
من هو الإنسان؟
بيد أنّ الأخطر في هذا التصريح الذي لم يأخذ حقّه في النقاش هو قول نصرالله لمن يسأله عمّن كلّفه بما يقوم به من سياسات وما يتّخذه من مواقف: “حل عنّي… إنت أصلاً… إنت إنسان؟ بتقلّي مين مكلّفك يعني… أنا الله مكلّفني.. إنت مين مكلّفك؟”.
حين يسأل نصرالله خصمه: “إنت إنسان؟”، فهو لا يشكّك فقط في إنسانيّة من يعارضونه، بل يفتح باباً سيكولوجياً وسياسياً وفقهياً عريضاً على كيفيّة عمل العقل العميق لميليشيا حزب الله وآليات تفكيرها بالاغتيال وتشريع القتل واستسهال استباحة الدماء دفاعاً عمّا تراه مقدّسات ومهمّات إلاهية. كلّ الذين قُتلوا في سياق النزاع السياسي مع ميليشيا حزب الله، أو مَن حامت حول أدوارهم ومواقفهم شبهات تآمريّة بحسب ما يرى الحزب، من رفيق الحريري إلى لقمان سليم، سهُل قتلهم لأنّهم ليسوا بشراً، بل كائنات متآمرة على “المقدّس”!
إقرأ أيضاً: مسيَّرات الخراب.. لا تمنع المستقبل
هنا تكتمل دائرة هذا العقل الغيبيّ الذي يحرس مصالح إيران. فالمهمّة إلهيّة. وأثمانها قرابين. أمّا من يُقتلون في سياق الخصومة فهم ليسوا بشراً. لا وجود للإنسان إذاً في هذه المعادلة التي أفصح عنها نصرالله بكلمات قليلة. إنّنا بإزاء إمّا ما هو فوق البشري وإمّا ما دونه. وحيث لا إنسان، لا ضرورة للاقتصاد والاجتماع والسلم والعلاقات التي تتحدّد بمعايير مصالح البشر والإنسان.