ليس سرّاً أنّ الإدارة الأميركيّة بذلت جهوداً كبيرة من أجل إقناع الحوثيين بتمديد الهدنة في اليمن شهرين إضافيّين، علماً أنّ الهدف الأصليّ كان تمديداً لستّة أشهر أخرى.
أصدر الرئيس جو بايدن بياناً شكر فيه الملك سلمان ووليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان على دفعهما في اتّجاه تمديد الهدنة المستمرّة منذ نيسان الماضي. ركّز في بيانه على دور السلطان هيثم، سلطان عُمان، وجهوده واتّصالاته مع كلّ الفرقاء المعنيّين. لم ينسَ شكر مبعوث إدارته إلى اليمن تيموثي ليندركينغ و”عمله يداً بيد” مع مبعوث الأمم المتحدة هانس غروندبرغ من أجل تمديد الهدنة والتمهيد لتسوية سلميّة “شاملة” تضمّ “كلّ الفرقاء” في اليمن. كذلك، لم ينسَ الرئيس الأميركي جهود وزير خارجيّته أنطوني بلينكن واتّصالاته التي شملت رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي ومساعيه من أجل التوصّل إلى الهدنة.
كشف البيان الصادر عن البيت الأبيض، الذي لم ترِد فيه إشارة إلى إيران، علماً أنّها الطرف الذي يسيّر الحوثيين ويتحكّم بقرارهم، نواقص عدّة. من بين هذه النواقص غياب أيّ تحديد للتسوية السلميّة في اليمن وطبيعتها. يُضاف إلى ذلك التجاهل الكامل لوضع مدينة تعز، كبرى المدن اليمنيّة الواقعة في وسط البلاد التي يسيطر الحوثيون على الطرق المؤدّية إليها من صنعاء ومناطق أخرى. ليس معروفاً لماذا هذا التجاهل الأميركي لتعز في حين هناك تشديد على المطالبة بزيادة الرحلات من مطار صنعاء الذي يسيطر عليه الحوثيون، ودعوة إلى مزيد من التسهيلات لاستيراد البضائع من ميناء الحديدة الذي هو تحت السيطرة الحوثيّة أيضاً.
لا ترى الإدارة الأميركيّة، التي ذهبت بعيداً في استرضاء الحوثيين في ما يخصّ مطار صنعاء وميناء الحديدة، النتائج التي ترتّبت على إلغاء دور الجيش اليمني
لا يمكن إلّا الترحيب بأيّ وقف للقتال في اليمن الذي يعاني شعبه من ظروف مأساوية على كلّ صعيد، خصوصاً في ظلّ المجاعة وفقدان مقوّمات الحياة الكريمة. أكثر من نصف الشعب اليمني جائع. هناك أطفال يموتون بسبب فقدان الحليب والأدوية. فوق ذلك كلّه، انهار النظام التعليمي كلّيّاً في اليمن. لم يبقَ منه سوى الخرافات التي ينشرها الحوثيون في المناطق التي تقع تحت سيطرتهم. لم يبقَ في شمال اليمن سوى مَن يجنّد الأطفال ويرسلهم إلى القتال تحت شعارات مضحكة مبكية.
في مجال توصيف ما آل إليه الوضع اليمني، لا بدّ من ملاحظة أنّ أحمد علي عبدالله صالح، نجل الرئيس اليمني (الراحل) علي عبدالله صالح، امتلك ما يكفي من الشجاعة من أجل توجيه نداء اعتبر فيه أنّه “حان الوقت أن يكون التصالح والحوار أساساً للتفاهم ومدخلاً لبناء وطن يتّسع للجميع (…) يتعايش في ظلّه الجميع بإخاء وتعاون، وفي ظلّ مواطنة متساوية وعدالة اجتماعية لا تمييز فيها لأحد على أحد أو ادّعاء بالاصطفاء أو التميّز بأيّ شكل من الأشكال”.
من الواضح أنّ عبارة “ادّعاء الاصطفاء أو التميّز” موجّهة إلى الحوثيين الذين يسمّون أنفسهم “جماعة أنصار الله”، والذين يعتبرون أنفسهم فئة مختلفة متفوّقة من اليمنيين يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها. هذه ظاهرة من المظاهر المرعبة في اليمن يبدو أنّ الإدارة الأميركيّة الحاليّة تتعامى عنها، خصوصاً عندما تتجاهل الدور المحتمل لأحمد علي عبدالله صالح في شمال اليمن مستقبلاً، سياسيّاً وعسكريّاً. تتعامى عن أنّ حلقة مهمّة من حلقات عدّة أدّت إلى تشظّي البلد كانت حلقة إلغاء دور الجيش اليمني. اتّخذ هذا القرار الرئيس السابق عبد ربّه منصور هادي بُعَيد تسلّمه السلطة في شباط 2012 وإبعاده أحمد علي عبدالله صالح الذي كان على رأس ألوية “الحرس الجمهوري” التي لعبت دوراً مهمّاً في التصدّي للحوثيّين.
لا ترى الإدارة الأميركيّة، التي ذهبت بعيداً في استرضاء الحوثيين في ما يخصّ مطار صنعاء وميناء الحديدة، النتائج التي ترتّبت على إلغاء دور الجيش اليمني وتسهيل الرئيس السابق عمليّة اجتياح الحوثيين لصنعاء في 21 أيلول 2014!
يشبه حلّ الجيش اليمني قرار بول بريمر المندوب السامي الأميركي في بغداد الذي حلّ في العام 2003 الجيش العراقي بحجّة وجود هيمنة سنّيّة عليه. في اليمن، كما في العراق، خدم حلّ الجيش إيران ومشروعها. هذه نقطة تتغاضى الإدارة الأميركيّة عنها مثلما تتغاضى عن عجز اليمنيّين الدائم عن الاتّفاق في ما بينهم على أيّ مشروع سياسي قابل للحياة.
مَن يتمعّن في نصّ البيان الأخير الصادر عن الرئيس بايدن يضع يده على قلبه. يعود ذلك إلى أنّ البيان يثير مخاوف من أنّ الإدارة الأميركيّة باتت مقتنعة بأنّ الكيان الإيراني في اليمن صار أمراً واقعاً. أكثر من ذلك، ترى أنّ مثل هذا الكيان صار قدراً يمنيّاً على أهل صنعاء المعروفين بدماثة الخلق العيش في ظلّه. لو لم يكن الأمر كذلك، لماذا كلّ هذا الاسترضاء للحوثيين في ما يخصّ مطار صنعاء وميناء الحديدة من دون ذكر للطرق المؤدّية إلى تعز التي يسيطر عليها الحوثيون؟
يعزّز هذا الشعور بالخوف أنّ الاتحاد السوفياتي نفّذ في اليمن الجنوبي، الذي كان حتّى العام 1990 دولة مستقلّة، انقلاباً على مراحل منذ استقلّ هذا البلد في العام 1967. تُوّج الانقلاب بتحوّل ما كان يُسمّى “جمهوريّة اليمن الديمقراطيّة الشعبيّة” مجرّد قاعدة سوفياتيّة في شبه الجزيرة العربيّة. لم تسقط هذه القاعدة إلّا مع سقوط الاتحاد السوفياتي. لم تتحقّق الوحدة اليمنيّة بعيداً عن هذا السقوط الذي يرمز إليه انهيار جدار برلين في تشرين الثاني من العام 1989. وهو انهيار مهّد لتوحيد ألمانيا.
هل الكيان الإيراني جزء من الحلّ السياسي في اليمن؟ وهل تتعايش معه الإدارة الأميركيّة مثلما تعايشت في الماضي مع القاعدة السوفياتيّة التي قامت في اليمن الجنوبي؟
إقرأ أيضاً: الأبعاد الإقليميّة للتراجع الإيرانيّ في العراق
مرّة أخرى، يبدو تمديد الهدنة اليمنيّة ضرورة إنسانيّة قبل أيّ شيء آخر في بلد أنهكت فيه الحروب كلّ الأطراف المعنيّة بالقتال. لكنّ البيان الصادر عن البيت الأبيض يثير أسئلة من بينها: هل يجب أن ننتظر انهيار النظام في إيران حتّى لا يعود هناك كيان تابع لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في اليمن وكي يستعيد أهل صنعاء والحديدة ومناطق أخرى حرّيتهم وكرامتهم… وكي يعود الاستقرار إلى شبه الجزيرة العربيّة؟