تصعيد حزب الله على لسان سماحة السيّد حسن نصر الله، وتهديد “الجهاد الإسلامي” بقصف المستوطنات، وتهديد قائد الحرس الثوري بأنّ صواريخ حزب الله ستزيل إسرائيل، هي رسائل من إيران.
وتجديد الهدنة الحوثيّة مع السعوديّة وموافقة نوري المالكي في بغداد على دعوة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى الحوار الوطني، رسالة معاكسة من إيران.
رسالتان إقليميّتان من طهران في آن واحد، قبل ساعات من دخول غرفة المفاوضات غير المباشرة مع الأميركيين في فيينا.
إنّها لعبة “تاجر السجّاد الإيراني” الذي يتقنها بمهارة بالغة وكأنّه يطلق رصاصة تهديد من يده اليسرى، ويحمل باليمنى بغصن زيتون.
لعبة الرسائل الإيرانية المزدوجة هي جزء من تكوين صندوق الرسائل السياسية الإيرانية منذ 1979.
ثنائية الرسائل هي تعبير عن ثنائية القوى التي تصبّ كلّها حكماً تحت إمرة المرشد الأعلى.
هناك حرس ثوري وهناك جيش، هناك مخابرات الدولة ومخابرات الحرس.
لا يمكن القول إنّ المسبّبات الوحيدة للصراعات في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغزّة هي تحريض إيران وتخطيطها ودعمها
هناك استثمارات الحكومة واستثمارات الحرس الثوري، وهناك التيّار المحافظ وهناك مَن يدّعي الاعتدال.
كلّ هذه الثنائيات هي في النهاية تدوس على عجلة واحدة تخدم رغبة وأوامر المرشد الأعلى.
حتّى كتابة هذه السطور لا أحد يعرف هل تدخل إيران غرفة المفاوضات هذه المرّة كي تبصر اتفاقاً في غضون أيّام؟ أم تؤجّل المسألة برمّتها إلى حين ثبوت المستقبل السياسي للتيّار الحاكم في الحزب الديمقراطي من خلال اختبار انتخابات مجلسَيْ الشيوخ والنواب التي ستُحسَم في غضون 90 يوماً، بانتظار أن تتّضح مؤشّرات الرضاء السياسي عبر تجديد أو فشل جو بايدن كرئيس لولاية ثانية؟
تدخل إيران بعدما نجح العناد الثوري و”الصبر الاستراتيجي” في إدارة لعبة “الابتزاز النووي” للأميركيين والعالم، وهي تمسك بوعود إن تحقّقت ستجعلها تحصل على اتفاق أفضل من الذي ألغته إدارة دونالد ترامب.
احتمالان سيئان
بالنسبة إلى هذا الاتفاق هناك احتمالان: التوقيع أو التأجيل.
في الحالتين سوف تتمدّد طهران.
في حالة التوقيع سوف تكرّر ما فعلته بعد توقيع النصّ الأول بالتمدّد واستخدام الأموال المُفرَج عنها لتقوية الوكلاء والميلشيات في الدول العربية.
وفي حالة الفشل سوف تستمرّ كما هو الحال الآن بتسخين الوكلاء على ضدّ حلفاء واشنطن بهدف الابتزاز العسكري والأمني.
بالطبع لا يمكن القول إنّ المسبّبات الوحيدة للصراعات في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغزّة هي تحريض إيران وتخطيطها ودعمها.
كلّ هذه الملفّات لها عشرات العناصر والأسباب التاريخية المتجذّرة التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بإيران.
لكنّ اللاعب الإيراني الصبور الماهر يقوم باستغلال الأزمات ويحاول تسييرها لصالحه.
برّرت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عمليّاتها العدوانية تجاه غزة بأنّها عمليات دفاعية للقضاء على ما ادّعت أنّه “عمليات عدوانية لتنظيم الجهاد الإسلامي الموالي تماماً لإيران”.
وكأنّ طهران تحارب إسرائيل بالجهاد الإسلامي، وكأنّ تل أبيب “تقوم بالانتقام من طهران عبر الجهاد الإسلامي”.
يتمّ إعداد المنهج نفسه بين إسرائيل وإيران من خلال ملفّ حقل كاريش للغاز على الحدود مع لبنان، بحيث يكون الحقل هو مادّة الصراع العسكري بين حزب الله والجيش الإسرائيلي.
في سوريا هناك ضوء أخضر روسي بالسماح للطائرات الحربية والصواريخ الدقيقة الإسرائيلية بأن تقصف أهدافاً إيرانية في الجولان وفي محيط دمشق، سواء كان فيها خبراء قتال إيرانيون أو مقاتلون تابعون لحزب الله.
نحن الآن في منطقة ملتهبة تمارس عمليات التفاوض المعقّدة عبر مسارح قتال عسكرية!
أين غرفة المفاوضات؟
قد يبدو أنّ غرفة المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأميركية تقع في “الإنتركونتيننتال” بالعاصمة النمساوية، لكنّ حروف وبنود الاتّفاق تتمّ صياغتها عبر مسرح عمليات كبير من صنعاء إلى بغداد، ومن غزّة إلى ضاحية بيروت الجنوبية، ومن تل أبيب إلى دمشق.
كارثة الكوارث هي قبول الطرفين الإيراني والأميركي بمنهج “تجزئة أولويّات الاتفاق بحيث يكون التوقيع على المتّفَق عليه، وتأجيل المعقّد والمختلَف عليه، وإصدار النسخة السابقة للاتفاق النووي القديم”.
حتّى الاتفاق القديم والهزيل، المرفوض عربياً لأنّه يتجاهل تماماً أن يكون الإفراج عن الأرصدة الإيرانية مقابل تعهّد إيران باحترام جيرانها وعدم التدخّل في شؤون الدول العربية، أصبح صعب المنال. وما اقترحه “جوزيب بوريل” منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، هو اتفاق اللحظة الأخيرة الذي يعتمد على فلسفة قبول ما يمكن قبوله، وتأجيل أو تجميد المختلَف عليه.
إنّه منهج “الممكن” و”المُتاح”، القائم على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظلّ عالم مرتبك ومأزوم يعاني من آثار الحرب الروسية – الأوكرانية.
يبرّر ذلك تصريح رئيس الوفد الروسي في فيينا بضرورة التمسّك بالنصّ الأصليّ للاتفاق النووي.
تلعب موسكو دور “المفسد” لأيّ إمكانية للاتفاق لأنّها ترى أنّ الرغبة في توقيع الاتفاق باتت الآن إنقاذاً لواشنطن (فارضة العقوبات) وليس إيران (المفروضة عليها العقوبات)!
إنّها مهزلة بكلّ المقاييس، سواء تمّ التصعيد من صنعاء أو الضاحية أو غزّة أو بغداد أو دمشق.
هذه عناصر الاتفاق وأهدافه
في البدء وفي النهاية ومهما كانت نتائج الاتفاق النووي أو صيغته أو شروطه المكتوبة أو تفاهماته الشفهية، فإنّه سوف يعبّر عن أربعة عناصر:
1- عالم مضطرب يعاني بشدّة من آثار الخطأ الاستراتيجي للحرب الروسية – الأوكرانية.
2- رئيس أميركي فاشل وضعيف يدير حزباً يُتوقّع أن يخسر الأغلبية في مجلس التشريع.
3- نظام حكم إيراني اتّفقت فيه رغبة المرشد الأعلى والرئيس والحرس الثوري على التشدّد اللانهائي للحصول على صيغة أفضل من الاتفاق السابق.
4- عالم عربي قرّر أن يخرج من العباءة الأميركية التي ثبت أنّها لا تحمي سوى الحليف الإسرائيلي.
كلّ اللاعبين لديهم بنك أهداف من هذه اللعبة المعقّدة:
– إسرائيل تريد تصفية قائمة من قادة “الجهاد الإسلامي” وبدء التنقيب في حقل كاريش وتصدير الغاز منه إلى الأسواق.
– إيران تريد ضرب تيار مقتدى الصدر في العراق ومواجهة الضغط الروسي بالانفراد بالتأثير على مفاتيح الأمور في سوريا وتنصيب رئيس موالٍ لها في لبنان بواسطة ضغوط حزب الله.
– الولايات المتحدة تريد أيّ اتفاق بأيّ ثمن يُعيد تأهيل إيران بحيث تعود إلى ضخّ النفط والغاز في السوق، وهو ما يضعف ورقة الضغط الروسية على أسواق أوروبا والاقتصاد العالمي.
– روسيا تريد تصعيب الحياة على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بحيث يتمّ التخفيف من الضغط الأميركي على روسيا في أوكرانيا.
– الصين لا تريد أن يتمّ استدراجها إلى أيّ صراعات حتى عام 2030، وترى أنّ محاولات استدراجها إلى نزاع عسكري في “تايوان” هي لعب أميركي بالنار وحماقة سياسية تُضاف إلى حماقات بايدن.
– دول الخليج العربي ترى خطراً آتياً من طهران، سواء تمّ إنجاز اتفاق معها أو فشلت مساعي الاتفاق في فيينا. وهي ترى أنّ الولايات المتحدة باعت مصالح حلفائها التاريخية في الخليج.
إقرأ أيضاً: العدوّ الحقيقيّ بالمفهوم الإيرانيّ: عربيّ أم إسرائيليّ؟
الجميع، ونقصد الجميع، يبحث عن فرصة كسب في عالم منهار كلّه خسائر!
إنّه عالم أشباه التسويات في ظلّ عمليّات أشباه الحروب يمارسها وكلاء هم أشباه دويلات، وهو ما يأخذنا إلى حالة شبه استسلام للأمر الواقع.
كلّ ذلك يتمّ في عمليات استفزاز وتصعيد وعقوبات لعالم هو في حالة “شبه حافة هاوية”!!