بعد عامين على تفجير مرفأ بيروت، بدأت تتوضّح ملابسات كثيرة عن كيفيّة إدارة التحقيق بعيداً عن الخيوط الأساسية، حول من أتى بالنتيرات ومن حمى إنزالها، ومن حافظ عليها كلّ هذه السنوات.
في هذه السلسلة وثائق تنشر للمرّة الأولى، حول تزوير في مراسلات قضائية، وحول إخفاء الشرطة العسكرية أدلّة عن اشتباه اليونفيل بالباخرة، وطمأنة الجيش إلى أنّها لا تحمل موادّ مسبوهة ؟
في الحلقة الرابعة أسئلةٌ عن مسؤوليّة قائد الجيش، وعلاقته بالمحقّق العدلي طارق البيطار، وضرورة محاسبة المسؤولين في المؤسسة العسكرية لحماية سمعتها.
بموجب قانون الأسلحة والذخائر، يحقّ للجيش اللبناني أن يرخّص مرور المعدّات والأسلحة والذخائر من الفئات الأربع الأولى عبر الأراضي اللبنانية بعد موافقة مجلس الوزراء. وهو مكلّف بمساعدة اليونيفيل في منع دخول السلاح الذي لا تسمح به الحكومة اللبنانية.
فتّش الجيش السفينة “روسوس” بطلب من اليونيفيل، حين وصلت إلى المياه الإقليمية اللبنانية، وقبل دخولها إلى مرفأ بيروت، وأبلغ القوات الدولية أنّ السّفينة “نظيفة”.
لم يخضع قهوجي للتحقيق بالشكل المفترض، وكان واضحاً للمتابعين أنّه كان محصّناً منذ البداية
يؤكّد الجيش اللبناني، بحسب مصادره في مقابلات عديدة، أنّه اكتشف خطورة النيترات في نهاية عام 2015، وأخذ عيّنات منها لمركز البحوث الصناعية، وقدّم تقريره للجهات المختصّة في مديرية الجمارك ووزراة الأشغال بتاريخ 29 كانون الثاني 2016، وأكّد التقرير يومذاك أنّ نسبة تركيز الآزوت مرتفعة (34.7)، وأنّ وجود النيترات يشكّل خطورة كبيرة. وأرسل كتاباً ثانياً بتاريخ 29 آذار 2016 إلى مديرية الجمارك كان مضمونه أنّ الجيش ليست لديه أماكن شاغرة لتخزين هذه النيترات، وليست لديه القدرة على إتلافها، مؤكّداً مجدّداً خطورة تخزينها بطريقة غير سليمة، واقترح حينذاك بيع الموادّ للشركة اللبنانية للمتفجّرات أو إعادة تصديرها إلى بلد المنشأ على نفقة مستورديها.
أعادت مصادر الشركة التأكيد، بعد التحقيق مع صاحبها مجيد شمّاس عقب انفجار المرفأ، أنّها لم تكن يوماً مهتمّة بشراء موادّ مُصادَرة، وأنّها لم تتقدّم بأيّ عرض لشراء النيترات، بل سمعت في وسائل الإعلام بورود اسمها في المراسلات بين الجيش والجمارك وقضاء العجلة.
جوزف عون والبيطار
يقول قانون الأسلحة والذخائر إنّ الجيش هو الجهة المسؤولة بالنظر إلى سلطتهم على المرفأ وصلاحياتهم هناك. لكنّ التحقيق حاذر توجيه الاتّهام إلى القيادة الحالية، فيما أطلق سراح قائد الجيش السابق جان قهوجي بعد جلسات الاستماع لإفادته.
تتحدّث مصادر مواكبة لعمل المحقق العدلي وسير التحقيقات عن تواطؤ قضائي مع المؤسسة العسكرية، ولا سيّما بعد انتشار خبر اجتماع تمّ بين المحقّق العدلي في ملفّ تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، وقائد الجيش جوزف عون، الذي وفّر الحماية لمنزله ومكتبه.
ما ضاعف الشكوك أنّ التقرير الفنّي للجيش لم يُنشر حتّى اليوم بذريعة أنّ الجيش ليس جهة قضائية لينشره، وأنّ العميد في مخابرات الجيش أنطوان سلوم الموقوف رهن التحقيق طُلب منه القول إنّه لم يكن يحوّل المراسلات التي كان يتسلّمها بخصوص الموادّ المتفجّرة إلى المسؤولين، وأنّ قائد الجيش لم يكن على علم مسبق بالنيترات.
اكتفى المحقّق العدلي بما قاله سلّوم وتوقّف تحقيقه عند هذا الحدّ. ومنعاً للمسّ بالقيادة العسكرية حمت القيادة الحالية العماد جان قهوجي وضمنت عدم المسّ به، بغطاء قضائي سياسي ديني. وكان القصد من توقيف سلوم التأكيد أنّ الجيش يتعاون مع المحقّقين. لكنّ كلمة السرّ هي “ممنوع المسّ بالجيش” حسب ما ينقل مقربون اطلعوا على حيثية التحقيق مع قهوجي.
هناك من يتحدّث عن تواطؤ قضائي مع المؤسسة العسكرية، ولا سيّما بعد انتشار خبر اجتماع تمّ بين المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار، وقائد الجيش جوزف عون، الذي وفّر الحماية لمنزله ومكتبه
يؤكّد هؤلاء أنّ ثمّة تقاطع عند كلمة سرّ مفادها “عدم المسّ بالجيش”. والدليل هو ما حصل خلال التحقيق مع قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي الذي لم يخضع للتحقيق إلا مرّة واحدة. وعلى الرغم من إرجاء جلسة كانت مخصّصة للاستماع لإفادته في 28 أيلول 2021 بسبب تبلّغ البيطار بتقديم طلب لردّه عن متابعة النظر في الملفّ، إلا أنّ استئناف البيطار التحقيقات في ما بعد لم يشمل جلسة الاستماع إلى قهوجي، المؤجّلة سابقاً.
لم يخضع قهوجي للتحقيق بالشكل المفترض، وكان واضحاً للمتابعين أنّه كان محصّناً منذ البداية. والوحيد الذي لا يزال موقوفاً هو ضابط المخابرات سلّوم، الذي قال في إفادته إنّه لم يبلّغ قيادته عن وجود الموادّ الخطرة. في حين أنّ الوقائع تشير إلى تبلّغها سابقاً، وعند أكثر من محطّة، إن من خلال تقرير اليونيفيل، أو تقرير الخبيرة الكيميائية ميراي مكرزل الذي تسلّمه رئيس أركان الجيش السابق اللواء وليد سلمان، وأجاب الجيش عليه، أو الإجابة على إحدى المراسلات التي طلبت التصرّف بالموادّ وقال الجيش إنّه لا حاجة له بها، ولاحقاً من خلال طلب مولّدات كهرباء من العنبر، حيث كانت النيترات مخزّنة، في بداية عهد جوزف عون، وتبلّغ الجيش عدم إمكانية سحب المولّدات بسبب وجود النيترات. يؤكّد المتحدث باسم الاهالي وليام نون أنّ البحث لا يزال جارياً عن مراسلات تثبت وجود مسؤولية الجيش على رأس القيادة الحالية سيعلن عنها فور العثور عنها.
محاسبة المسؤولين.. لحماية الجيش
مضى عامان على انفجار مرفأ بيروت والتحقيق مجمّد والحقيقة محبوسة، والسبب في ذلك أنّ تعيين قضاة محاكم التمييز معطّل لأسباب سياسية، أبرزها ملفّ المرفأ. بعد أخذ ورد حول مرسوم تعيينهم ورده لعدم مراعاته التوزيع الطائفي أعاد وزير العدل المرسوم إلى مجلس القضاء الاعلى لتصبح الكرة في ملعب رئيسه سهيل عبود المتعاطف إلى أقصى الحدود مع المحقق العدلي حسب ما تنقل مصادر وزارية معنية بهذا الملف.
استمرار الجمود في البحث عن المسؤوليّات وتحديدها في ما خصّ وجود موادّ متفجّرة سيُبقي الملف عالقاً في وقت يُجمع خبراء قانونيون على أنّ مسؤولية السماح وإعطاء الإذن بإدخال موادّ قابلة للتفجير تقع حصراً على مديرية المخابرات في الجيش.
منذ اليوم الأول وبعد وقوع الانفجار جرى تباعاً التعتيم على هذه النقطة تحت عنوان “حماية المؤسسة العسكرية”. واستُخدمت شخصيات سياسية كبش فداء أمام الرأي العام. ولم يُفتح باب التحقيق مع مديري المخابرات الذين تعاقبوا منذ العام 2013، تاريخ وصول الباخرة إلى مرفأ بيروت.
وفق القانون العسكري، فإنّ ضباط مخابرات الجيش هم أوائل من كان يجب التحقيق معهم حول مدى معرفتهم وموافقتهم على إدخال موادّ قابلة للتفجير إلى مرفأ العاصمة المدني، الموجود بين الأحياء السكنية، خصوصاً أنّ هذا الملف لم يكن سرّيّاً، إذ كان مدير الجمارك يدلّل على البضاعة، وتواصل مع الجيش، والرسائل موجودة.
إقرأ أيضاً: تفجير المرفأ بعد عامين (3): لغز قتل جو بجّاني
يَفترِض الحريصون على سمعة المؤسّسة العسكرية أنّ الشفافية توجب محاسبة المسؤولين لا التصرّف تحت شعار “أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”، فتكون الحماية على حساب سمعة المؤسسة، وعلى حساب مرفأ البلاد، وعلى حساب أهالي الضحايا، وعلى حساب كلّ من تعرّض للظلم في هذا الملفّ.
فهل يجرؤ الجيش على محاسبة من أخطأ من عناصره؟ أم تعمّد بالفعل إغفال التحقيق وفرض نوع من الحُرُم لحماية المقصّرين ممّن كانوا يتولّون المسؤولية؟
من يريد أن يُؤتمن على الكثير، الأحرى أن يُؤتمن على القليل.