لا بدّ أنّ الثنائي الشيعي في لبنان يراقب باهتمام وقلق تطوّرات الوضع المتصاعد في العراق. ولا بدّ أنّ حزب الله بالذات ينظر بعين الريبة إلى هذا الصراع الشيعي-الشيعي في العراق وما يمكن أن ينتهي إليه من مآلات ذات عدوى قد تتسرّب إلى لبنان.
وإذا ما كانت “حرب الأخوة” بين حزب الله وحركة أمل في الثمانينيّات قد توقّفت عبر صفقة تمّت بين دمشق وطهران ضمنت نفوذ العاصمتين وتحالفهما، فإنّ أيّ تطاحن محتمل بين المكوّنات الشيعية في العراق يمثّل تحدّياً حقيقيّاً لنفوذ طهران وحدها وتهديداً للسطوة التي تمتلكها إيران على العراق.
والحال أنّ حزب الله منخرط ومعنيّ باللعبة السياسية في العراق، فهو معنيّ أيضاً بقوّة نفوذ إيران في هذا البلد، ومعنيّ بالحفاظ على ديمومة الوصاية التي تملكها طهران في بغداد والتي تشكّل من طهران إلى بيروت مروراً بدمشق قوس وهج نفوذ الجمهورية الإسلامية على المنطقة.
ولئن كان تردّدَ اسم الشيخ محمد كوثراني مسؤولاً عن الملفّ العراقي في حزب الله، واشتهر بجولاته ووساطاته هناك، فإنّ قادة الشيعيّة السياسية في العراق، ومنهم نوري المالكي والسيّد مقتدى الصدر، لطالما زاروا “الضاحية” في لبنان وطلبوا، بناءً على نصائح طهران، استشارة زعيم حزب الله والرجوع إليه.
صحيح أنّ الصراع الشيعي-الشيعي في العراق ينال من نفوذ إيران، لكنّه قد لا يهدّد “وجودها” في العراق وإن حملت هتافات الصدريّين أعراض رفضهم لطهران
وإذا ما جمع شهر تشرين الأول من عام 2019 “الثورة” التي انفجرت ضدّ منظومة الحكم في البلدين، فإنّ “ثورة تشرين” العراقية قامت على عبق شيعيّ يمثّل انتفاضة داخل الطائفة ضدّ الشيعية السياسية ومكوّناتها وما ارتكبوه طوال السنوات التي تلت غزو عام 2003. بالمقابل فإنّ “الثورة” في لبنان كانت شاملة عابرة للطوائف والمناطق، نشطت بشكل لافت أيضاً في المناطق التي يسيطر عليها “الثنائي”، وقوبلت من قبل “الشيعية السياسية” بالعداء والقمع والمواجهة.
“شيعة شيعة شيعة”… واغتيالات
اعتبار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أنّ حراك “تشرين” في لبنان مشبوه ومرتبط بأجندات السفارات الأجنبية ناهياً “جمهور المقاومة” عن رجسه، هو توجُّه متّسق تماماً مع موقف المرشد في إيران السيد علي خامنئي الذي وسم “تشرين” العراق بالشبهة والعمالة واعتبره “شغباً” تديره أميركا وإسرائيل. وإذا ما تولّت “القمصان السود” في لبنان الاعتداء على المتظاهرين يتقدّمها هتاف “شيعة شيعة شيعة”، فإنّ ثوار العراق تعرّضوا لتصفيات دموية قنصاً واغتيالاً على نحو علنيّ مكشوف.
تجاوزت كوارث لبنان “تشرين” 2019، وبات الانهيار منذ انفجار مرفأ بيروت في آب 2020 غير قابل للكبح عبر ثورة في الشارع. ولئن امتصّت الانتخابات البرلمانية الأخيرة حوافز التحرّك الشعبي العامّ، فإنّ ما يجري في العراق يكشف عن استمرار حراك الشارع، وعلى نحو أكثر خطورة، متأسّساً على صراع مفاهيم شيعي-شيعي لا يمكن للشيعة في لبنان إلا أن يتأثّروا بمآلاته.
لا جدل داخل “البيت الشيعي” السياسي اللبناني الذي يمثّله تحالف حزب الله وحركة أمل على غرار ذلك الدائر بين “الإطار التنسيقي” والتيار الصدري في العراق. غير أنّ لبنان بات يحتاج إلى جدل من هذا النوع، ذلك أنّ نهايات هذا السجال، كما نهاياته في العراق، ستحدّد مسار لبنان ومصيره ووجهة هويّته وبوصلة توجّهاته.
وما يُقلق حزب الله هو أنّ مكانة إيران في العراق بدأت تُظهر تآكلاً، سواء في ظاهرة “تشرين” الخطيرة منذ ثلاث سنوات أو في ظاهرة مقتدى الصدر القديمة-الجديدة العصيّة على مقاربات قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني، وقبله قاسم سليماني.
كيف سينعكس على لبنان؟
إذا ما كان النقاش يجري داخل “البيت الشيعي” في العراق حول الدولة وإدانة السلاح غير الشرعي والخلاص من سطوة الميليشيات، وإذا ما كان السجال يدور بين الولاء للعراق والولاء لإيران والحرس الثوري والوليّ الفقيه، فإنّ تلك “الثيمات” حاضرة بقوّة في السجال اللبناني. والأرجح أنّ حالة النزاع العراقي، التي قد تأخذ أشكالاً دراماتيكية متصاعدة، ستفضي، في أيّ نتائج، إلى تداعيات في لبنان وداخل بيئة “الثنائي”، وربّما بين طرفَيْه.
يمثّل العراق بالنسبة إلى الشيعة في لبنان “قبلة سياسية”، ويعتبرونه جزءاً من يوميّاتهم. الأمر ينسحب على الموالين لإيران والمتطلّعين إلى مصير الجمهورية الإسلامية، وينسحب أيضاً على الشيعة اللبنانيين المعارضين لطهران والمناوئين لحزبها في لبنان.
يجد ولائيّو لبنان مشترَكاً في المصير والمسار مع ولائيّي العراق الذين عبّرت “تسريبات” نوري المالكي عن أولويّاتهم وهواجسهم وحاجتهم إلى موالاة إيران والحرس الثوري والوليّ الفقيه.
ويجد المعارضون الشيعة في لبنان مشترَكاً آخر في المصير والمسار مع الاعتراض الشيعي في العراق، ذلك أنّ اهتزاز نموذج الولاية في العراق، سيجد لدى شيعة لبنان أصداء تطرح أسئلة بشأن الوجود والبقاء وتفرّد الشيعية السياسية اللبنانية بنهج ينهار في العراق ولن يعود أبداً إلى سابق عهده.
إقرأ أيضاً: رائحة حرب أهليّة في العراق
صحيح أنّ الصراع الشيعي-الشيعي في العراق ينال من نفوذ إيران، لكنّه قد لا يهدّد “وجودها” في العراق وإن حملت هتافات الصدريّين أعراض رفضهم لطهران. وإذا ما كانت المعركة تدور بين “نوري” و”مقتدى”، فإنّ طهران تمتلك من الأوراق ما قد يمكّنها من التعامل مع أيّ وضع جديد حتى لو بشّر الصدر بدولة تحتكر السلاح وتُوالي العراق وحده. وإذ لا يقلق حزب الله من مستقبل نفوذ إيران في العراق، غير أنّ غلبة المنهج الصدريّ تهدّد بنيويّاً منهج الحزب الذي لا يقوم إلا على فكرة الدويلة وسلاحها العتيد.
*كاتب لبناني مقيم في لندن