المطران الحاج: مسيرة العائلة على خطى مار شربل..

مدة القراءة 5 د

كنت أواظب على زيارة الحبيس يوحنا الخوند في محبسته التابعة لدير طاميش الواقعة في ديك المحدي في المتن الشمالي. في إحدى المرّات، وصلت، وإذ بثلاثة كهنة يصلّون في الكنيسة معه. الأول أعرفه مذ كنت تلميذاً. إنّه الخوري مكرم القزح. رجل متواضع وروحاني. الثاني هو الخوري جان عزّام، أستاذي في كلّية اللاهوت في الكسليك وأستاذ الكتاب المقدّس. أمّا الثالث فلم أعرفه. بعد الصلاة، عرّفني إليه الأب الخوند. إنّه الأب موسى الحاج من الرهبانية الانطونيّة المارونيّة. 

تلك كانت المرّة الأولى التي ألتقيه فيها. بعد ذلك التقيته مرّات عدّة. كان يأتي إلى محبسة الأب يوحنا الخوند مع رفاقه مرّة بالأسبوع ليُكملوا وضع ترجمة رعائية للعهد الجديد كلّفهم بها البطريرك الراحل نصرالله صفير. يعملون بهدوء من دون ضجيج. يجتمعون ساعات وساعات. يصلّون. يتأمّلون. يناقشون النصوص. يتوقّفون عند كلّ كلمة. هذا هو عمل موسى الحاج الأساسيّ. البحث في كلمة الله.

المطران الحاج ليس رجل أضواء. ولكن منذ أيام سُلّطت عليه الأضواء على خلفيّة توقيفه من قبل الأمن العام اللبناني بناء على قرار مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة. فمن هو هذا الرجل؟

منذ عشر سنوات، يتابع المطرن موسى الحاج رسالة سلفه المطران بولس الصيّاح. يهتمّ بأبرشيّته المارونيّة هناك. يشجّعهم على التجذّر في أرضهم

على خطى يسوع

إنّه ابن بلدة عينطورة المتنيّة التي غنّاها الرحابنة وتغنّوا بترابها. دخل الرهبانيّة الأنطونيّة المارونيّة يافعاً. بعدما أنهى دراسته اللاهوتيّة توجّه إلى روما لدراسة الكتاب المقدّس. هناك أتقن اللغة الإيطاليّة، إضافة إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة. اختار موضوعاً لأطروحته “دراسة الأماكن التي مرّ بها يسوع منذ أكثر من 2000 سنة”. فذهب في ثمانينيات القرن الماضي إلى الأراضي المقدّسة. هناك تعلّم اللغة العبريّة. فهي إلزامية لكلّ باحث في الكتاب المقدّس. تعرّف إلى جغرافية فلسطين. زار الأماكن التي مرّ بها يسوع. جمع تاريخها. عاين آثارها. تنقّل في المدن والبلدات. تعرّف إلى أهلها. دخل بيوتهم. شاركهم أفراحهم وهمومهم. عاش معاناتهم مع المحتلّ. وكان يشجّعهم على الصمود في أرضهم للحفاظ على الهويّة العربيّة لفلسطين.

بعد نيله شهادة الدكتوراه عاد الأب الحاج إلى لبنان وبقيت فلسطين المحتلّة في قلبه. عندما احتاجت بكركي راعياً لأبرشية اللاذقيّة غادر موسى الحاج ديره في لبنان وذهب لخدمة الموارنة هناك. فهو ككلّ راهب لبنانيّ، ينتمي إلى رهبانيّة متجذّرة في الأرض، لكنّه لا يتعلّق بأرض. 

في العام 2012 انتخبه مجمع الأساقفة الموارنة أسقفاً على أبرشية حيفا والأراضي المقدّسة. وعاد إلى الأرض التي عرفها، وإلى الشعب الذي أحبّ.

منذ عشر سنوات، يتابع المطرن موسى الحاج رسالة سلفه المطران بولس الصيّاح. يهتمّ بأبرشيّته المارونيّة هناك. يشجّعهم على التجذّر في أرضهم. وكما سلفه، لا يقتصر اهتمامه على المسيحيين، إنّما يشمل كلّ العرب، ومن بينهم الدروز. فهؤلاء كثر في الجليل. يعيشون مع المسيحيين والمسلمين العرب كما في جبل لبنان. ولتشجيع التقارب بينهم شيّدت المطرانيّة مركزاً للحوار ولتلاقي الشباب من الدروز والمسيحيين. لذلك وثق دروز الجليل بالمطران موسى الحاج، كما كانوا يثقون بالمطران بولس الصيّاح، وطلبوا منه نقل المساعدات لأبناء طائفتهم في لبنان. فبين دروز إسرائيل ودروز لبنان علاقات تاريخيّة واجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة أيضاً، ولو تنكّر لها المسؤولون السياسيون والدينيون اليوم لأسباب معروفة، لكن غير مبرّرة. ففي العام 2010 شارك العديد من مشايخ دروز إسرائيل، تقدّمهم الراحل الشيخ أمين طريف، في مؤتمر عن الدروز عُقِد في لبنان. وقد أتى المشايخ عبر الأراضي السوريّة حاملين جوازات سفرهم الإسرائيلية!

في العام 2012 انتخبه مجمع الأساقفة الموارنة أسقفاً على أبرشية حيفا والأراضي المقدّسة. وعاد إلى الأرض التي عرفها، وإلى الشعب الذي أحبّ

ماذا عن البيئة العائليّة التي أثّرت كثيراً في شخصية موسى الحاج؟

 

عائلة من الرهبان

ليس المطران الحاج الوحيد الذي اختار الحياة الرهبانيّة وخدمة الإنسان. شقيقه الأكبر جوزف معروف في الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة (الكسليك) بالقدّيس. يروي أحد رفاقه أنّه مع إعلان قداسة شربل (1977)، بدأ جوزف يستعدّ للحياة النسكيّة: يتناول الطعام مرّة باليوم. ينام ساعات قليلة. يضع حجراً تحت وسادته. ويلبس زنّاراً من جلد الماعز ليقهر جسده. تأثّر موسى الحاج بحياة شقيقه الذي أُصيب بالمرض ومات شابّاً (1985). عند وفاته قال رهبان دير الروسيكوم في روما حيث عاش: “مات قدّيس روما”. وقال رئيس الجامعة حيث درس (التي تأسّست في العام 1929): “لم تعرف الجامعة طالباً مثل جوزف الحاج”.

راهب آخر أثّر بالأب موسى هو عمّه يوسف. فهذا الأخير كان راهباً في رهبانيّة الكسليك أيضاً. عرفته قبل وفاته بسنوات. كانت حياته الرهبانيّة نموذجيّة. 

ابن عمّ المطران الحاج راهب أيضاً من رهبان الكسليك. إنّه الأب بديع الحاج المقيم منذ سنوات في بيت شباب يهتمّ بالمعاقين. وابنة عمّته راهبة في راهبات الصليب تهتمّ بالمرضى.

بعد ردّة الفعل القويّة الكنسيّة والسياسيّة والشعبيّة على توقيف المطران موسى الحاج، راح الطاغية وأزلامه وإعلامه يبحثون عن ملفّات يشهّرون به. لم يجدوا ملفّاً سياسياً. فهو لا يتكلّم في السياسة. راحوا يتكلّمون عن ممتلكات له، للإيحاء بعدم أمانته في نقل الأمانة من شعب فلسطين إلى شعب لبنان. ولكنّها غير موجودة. فهو راهب قبل أن يكون مطراناً. والراهب لا يملك.

إقرأ أيضاً: أهل القانون: ملفّ المطران الحاج سياسيّ ونقطة على السطر..

العاصفة التي خلّفها توقيفه لم تُخرج أسقف حيفا والأراضي المقدّسة عن هدوئه. وهي حتماً لن تُثنيه عن العودة إلى أبرشيّته وإكمال رسالته الإنسانيّة. إذا كان عمر دولة إسرائيل سبعين عاماً ونيّف، و”الطاغية” يحتفل بأربعين تأسيسه، فحضور بني مارون في الأراضي المقدّسة يعود إلى 1400 عام.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…