الفيروس رفيق الإنسان

يبدو أنّ الإنسان لا يتعلّم إلا القليل من تجاربه ومآسيه. لقد دفع ثمن الحرب العالمية الأولى 17 مليون ضحيّة. ودفع ثمن الحرب العالمية الثانية 60 مليون ضحية أخرى. وهو يقف اليوم على حافة حرب عالمية ثالثة يُخشى أن تنفجر على خلفيّة الصراع الاقتصادي الأميركي – الصيني، والتنافس النووي الأميركي – الروسي.

ومع الحربين العالميّتين انتشر وباء في عام 1918، وحصد وحده من البشر ما مجموعه 50 مليوناً. وهناك تقديرات ترفع الرقم إلى الضعفين، أي إلى مئة مليون، بحيث يكون عدد ضحايا الوباء، الذي هو شبيه بوباء كوفيد-19 المنتشر اليوم، أكثر من عدد ضحايا الحربين العالميّتين معاً.

كلّ ما هو ثابت الآن أنّ الوباء انتقل من جبهة القتال الغربية في أوروبا إلى الشرق الأقصى، وأنّه مرّ بعدّة مراحل من المتغيّرات، تماماً كما يحدث اليوم مع الوباء الحالي كوفيد-19

عُرف الوباء باسم الإنفلونزا الإسبانية. ولكنّه لم يكن إسبانيّاً حصراً، أو حتى منشأً. في ذلك الوقت كانت الحرب مشتعلة في أوروبا والشرق الأقصى. وحدها إسبانيا من بين الدول الأوروبية كانت على الحياد. ولمّا ظهرت الإصابات بين الإسبان، اعتقدَ وزير الصحّة يومذاك مارتن سالازار أنّ الدول الأخرى كانت سليمة، وأنّ الوباء غير موجود في أيٍّ منها. وكان على خطأ. لقد كانت الصحافة المحليّة في إسبانيا تتمتّع بالحرّية، فنشرت الأنباء عن انتشار الوباء، بينما كانت الصحافة في الدول الأخرى المتحاربة ممنوعة من نشر أيّ خبر عن الوباء للمحافظة على المعنويّات العامّة. ومن هنا اكتسب الوباء اسمه “الإنفلونزا الإسبانية”. إلا أنّه في ذلك الوقت ظهرت إصابات بمئات الآلاف في الولايات المتحدة والشرق الأقصى وأوروبا، وحتّى أستراليا.

ربع سكّان الكوكب

في عام 1918 أصاب الوباء نصف مليار إنسان حول العالم. ويُعتقد أنّ ربع سكّان الكرة الأرضيّة أُصيبوا به بشكل أو بآخر. كانت نسبة الوفيات من الإنفلونزا العاديّة حوالي 0.6 في المئة، أمّا الإنفلونزا الإسبانية فقد رفعت نسبة الوفيات إلى ما بين 5 و10 في المئة.

لعلّ أوّل إصابة هي تلك التي ظهرت في القاعدة العسكرية الأميركية “كامب فانستون” في 14 آذار من عام 1918. ثمّ توالى ظهور الإصابات في المعسكرات الحربية البريطانية والفرنسية في الجبهة القتالية مع ألمانيا.

كان انتشار الوباء سريعاً جدّاً بين الجنود المتجمّعين (أو المتكدّسين) في الخنادق: وجهاً لوجه، وأنفاً لأنف. ثمّ ظهر بين العمّال الصينيين في كندا. وهناك وثائق تؤكّد أنّ الظهور المبكر للوباء كان في عام 1917، لكن يومئذٍ اعتقد الأطبّاء أنّه  التهاب رئويّ وحسب، مصدره الصين.

في ذلك الوقت لم تكن الصين طرفاً في الحرب، لكنّها مدّت الحلفاء بأعداد كبيرة من العمّال للمساعدة في الأعمال في الصفوف الخلفيّة. ومن هنا كان ربط الوباء بأولئك العمّال، ثمّ بالصين. استمرّ انتشار الوباء حتى وصل إلى الذروة في خريف عام 1918. وكما يحدث اليوم، تتالت موجات الوباء الواحدة تلو الأخرى. حتى إذا اعتقدت دولة ما أنّها تخلّصت منه، يعود للظهور مرّة أخرى بصيغة معدّلة ذاتيّاً، تماماً كما يحدث اليوم أيضاً.

وصل الوباء شرقاً حتّى اليابان، وجنوباً حتى البيرو في عام 1920. أمّا كيف وصل الوباء إلى جزر معزولة في المحيط الهادئ (مثل كاليدونيا الجديدة)، فإنّ الجواب العلميّ لم يتوافر حتّى اليوم.

يبدو أنّ الفيروس لن يدير ظهره للإنسان. سيبقى مرافقاً له. ولذلك على الإنسان أن يتعلّم من الدروس السابقة ليعرف كيف يصنع طريق السلامة

كلّ ما هو ثابت الآن أنّ الوباء انتقل من جبهة القتال الغربية في أوروبا إلى الشرق الأقصى، وأنّه مرّ بعدّة مراحل من المتغيّرات، تماماً كما يحدث اليوم مع الوباء الحالي كوفيد-19.

إلا أنّ المؤرّخين يُجمعون على أنّ الوباء انتقل عبر خنادق القتال حيث كان الجنود ينقلون العدوى بعضهم إلى بعضٍ بسرعة. وهم الذين نقلوها أيضاً إلى عائلاتهم أثناء أيام الاستراحة التي كانوا يتمتّعون بها.

الهدنة… نقلت الوباء

يقول المؤرّخون أيضاً إنّ هدنة  تشرين الثاني 1918 وضعت حدّاً لمشاركة القوات الأميركية والكندية والأسترالية والنيوزيلندية التي عادت إلى بلادها حاملةً معها الفيروس الفتّاك، أوّلاً على متن البواخر، ثمّ إلى الأهل، ومنهم إلى بقيّة السكّان.

وحدث الأمر ذاته مع القوات التي استُقدمت من المستعمرات الإفريقية والآسيوية. لقد كانت الهدنة وبالاً على هؤلاء جميعاً.

منذ عام 1918 عندما بلغ الوباء الذروة، ارتفع عدد سكّان الكرة الأرضية أربعة أضعاف. يعيش نصف هؤلاء اليوم في مدن مكتظّة، على خلاف ما كان عليه الأمر في السابق عندما كانت أكثريّة الناس تعيش في الأرياف المترامية الأطراف.

إقرأ أيضاً: كورونا يعود بقوّة: زيادة الوفيات 78% في الشرق الأوسط

لقد تعلّم الطبّ من التجارب السابقة كيف يواجه انتشار العدوى بالتباعد الاجتماعي، والنظافة، وأخيراً بالعقاقير والحقن المضادّة للفيروس.

مع ذلك يبدو أنّ الفيروس لن يدير ظهره للإنسان. سيبقى مرافقاً له. ولذلك على الإنسان أن يتعلّم من الدروس السابقة ليعرف كيف يصنع طريق السلامة.

مواضيع ذات صلة

لبنان بالخيار: حرب مفتوحة أم فصل المسارات؟

هو أشبه بفيلم رعب عاشه اللبنانيون منذ يوم الثلاثاء الفائت. في الوقت الذي بدأ الحزب بتحقيقاته الداخلية للوقوف على أسباب الخرق ومن يقف خلفه، تستعدّ…

ماذا أرادَ نتنياهو من عمليّة “البيجر”؟

دخلَت المواجهة المُستمرّة بين الحزب وإسرائيل منعطفاً هو الأخطر في تاريخ المواجهات بين الجانبَيْن بعد ما عُرِفَ بـ”مجزرة البيجر”. فقد جاءَت العمليّة الأمنيّة التي تخطّى…

ما بعد 17 أيلول: المدنيّون في مرمى الحزب؟

دقائق قليلة من التفجيرات المتزامنة في مناطق الضاحية والجنوب والبقاع على مدى يومين شكّلت منعطفاً أساسياً ليس فقط في مسار حرب إسناد غزة بل في تاريخ الصراع…

ألغام تُزَنّر الحكومة: التّمديد في المجلس أم السراي؟

ثلاثة ألغام تُزنّر الحكومة و”تدفشها” أكثر باتّجاه فتح جبهات مع الناقمين على أدائها وسط ورشتها المفتوحة لإقرار الموازنة: 1- ملفّ تعليم السوريين المقيمين بشكل غير…