“كوريدور” حبوب أم فائض محبّة؟

مدة القراءة 9 د

تستعدّ “قافلة السفن” الأوكرانية للتوغّل في مياه البحر الأسود باتّجاه المضائق التركية، ثمّ مواصلة الطريق نحو الموانىء التي تنتظر عواصمها منذ أشهر حمولة آلاف الأطنان من الحبوب والقمح للخروج من خطر أزمات غذائية ومعيشية واقتصادية أكبر. وهذا ما تفعله السفن الروسية أيضاً في إطار اتفاقية إسطنبول للإفراج عن القمح الأوكراني التي وُقّعت مساء الجمعة المنصرم في قصر “دولمه بهشه” التاريخي وسط تفاهم رباعيّ تركيّ أوكرانيّ روسيّ أمميّ.

تسير بارقة الأمل بانفراج أزمة الغذاء العالمية وسط ممرّ مائي تحيط به عشرات الألغام المرميّة من قبل قوات كييف لعرقلة أيّ تقدّم عسكري روسي بحري باتجاه الموانىء الأوكرانية. قد يتحوّل انفجار لغم واحد إلى أزمة تجمِّد العمليات التي سيشرف عليها مركز تنسيق عسكري وتقني في إسطنبول بمشاركة الأطراف الأربعة، وتؤخّر الخطة التي حدّدت مدّة 120 يوماً لها لإنجاز نقل أكثر من 20 مليون طن من القمح الأوكراني المحبوس منذ 5 أشهر.

العقبة الأهمّ أمام تمدّد روسيا الاستراتيجي ستبقى دائماً حليفتها وشريكتها الصين، وستتمحور مواجهة روسيا مع أميركا حول مَن يربح الصين إلى جانبه أو ينجح في إضعاف نفوذها الإقليمي والدولي

بعد 6 أسابيع من الحراك الدبلوماسي السرّي والعلنيّ نجحت تركيا والأمم المتحدة في صناعة اتفاقية روسيّة أوكرانية لإخراج ملايين الأطنان من الحبوب المحاصَرة في موانىء البلدين. وتحوّلت قمّةُ إسطنبول التي تساهم تركيا والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في تنفيذ قراراتها على مراحل، إلى خشبة خلاص يعوّل عليها الجميع، إثر 13 جولة تفاوضية وأسابيع من الجهود السياسية والدبلوماسية التي بُذلت على أكثر من جبهة.

تتألّف الاتفاقية من 10 بنود أساسية وملاحق أمنيّة وعسكرية وتقنيّة، وتتضمّن:

– إنشاء مقرّ عمليات رباعيّ في إسطنبول بإشراف ضابط بحري تركيّ رفيع المستوى.

– العمل الفوري لتشكيل فرق التفتيش وتعيين العاملين في مركز التنسيق المشترك.

– تفعيل 3 موانىء أوكرانية لتشارك في عمليات التعبئة والنقل.

– وقف إطلاق نار بحكم الأمر الواقع ينطبق على السفن والمنشآت التي يشملها الاتفاق والمعابر التي ستستخدمها السفن.

انتصار تركي

هو انتصار للدبلوماسية التركية بعد تراجع فرص خطط روسية أوروبية بديلة لمصلحة الخطة التركية الأممية. وبذلك تكون أنقرة قد حصلت مرّة أخرى على فرصة الجلوس إلى طاولة الملفّات الإقليمية الاستراتيجية البعد. فكيف ستحوِّل أنقرة هذا الإنجاز إلى فرص سياسية واقتصادية في علاقاتها مع العديد من الدول التي بدأت تُشيد بالجهود التركية وأهميّتها؟ الاحتمال الأقرب هو أن لا تأخذ أنقرة كثيراً بما تقوله وتريده واشنطن إذا لم نقُل إنّ العكس هو الصحيح. فأميركا كان يهمّها أكثر تفاقم الأزمة وتشعّبها في مواجهة روسيا، لكنّ رجب طيب إردوغان وفريق عمله هم الذين خيّبوا آمال واشنطن هنا وألزموها بدعم التحرّك التركي وفق مقولة “مرغم أخاك لا بطل”.

ما جرى في إسطنبول أيضاً هو أبعد من اتفاقية وصول الحبوب الأوكرانية إلى الأسواق العالمية. إذ هو فرصة لتحرّك تركي سياسي دبلوماسي جديد باتجاه دفع طرفَيْ النزاع مرّة أخرى نحو طاولة الحوار. احتمال كبير أن تطالب أنقرة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن يكون إلى جانبها هذه المرّة للحصول على دعم دولي أكبر في جهودها نحو حلحلة الشقّ السياسي من الأزمة الأوكرانية.

تقرّب المضائق التركية، بما لها من أهميّة جيوستراتيجية، السواحل الأوكرانية والروسية بعضها من البعض الآخر، وتُعيد الهدوء إلى أسعار القمح والحبوب، وتخفّف معاناة حوالي 100 مليون إنسان متضرّر بسبب ارتدادات الحرب في أوكرانيا، بينهم نحو 37 مليون شخص وصلوا إلى مرحلة “الجوع الشديد” بسبب تبعات هذه الحرب، كما تقول التقارير الدولية.

يعزّز إنجاز إسطنبول مكانة تركيا كلاعب مؤثّر في القضايا الإقليمية الدولية، ويقنع الغرب أكثر فأكثر باستحالة تخلّيه عن الموقع والدور التركيَّين. لكنّ الرسالة الأهمّ هي أنّ وصول تركيا إلى هذا الإنجاز تمّت من خلال محافظتها على علاقاتها المتوازنة ودفء الحوار مع كييف وموسكو على الرغم من الضغوطات الأميركية التي تعرّضت لها.

يعتبر بعض المحلّلين الروس أنّ أثر هزيمة بلادهم في أوكرانيا ستكون كارثية لأنّها حرب تقرير مصير وخسارتها تعني فتح الأبواب أمام كلّ أنواع العقاب والعواقب المتوقّعة وغير المتوقّعة. ولذلك لا خيار آخر أمام موسكو سوى الخروج رابحة من المواجهة.

روسيا تكسر الحصار

نجحت روسيا حتى الآن في كسر الحصار الغربي المفروض على بضائعها وسلعها، وأثبتت أنّها هي مَن سيقرّر خيارات السلم والحرب في الملف الأوكراني، بدليل أنّها لم تتردّد كثيراً في التوجّه إلى طاولة الحوار والدبلوماسية في إسطنبول وتوقيع اتفاقيات على تسويات مع أوكرانيا تفتح الطريق أمام تراجع أسعار الحبوب العالمية.

لم تحقّق روسيا أيّاً من أهدافها الثلاثة المعلنة في وجه الغرب وهي تعطي الأوامر لقوّاتها المسلّحة بمهاجمة أوكرانيا في أواخر شهر شباط المنصرم، لكنّها نجحت في الذهاب وراء ما هو أبعد وأهمّ من ذلك:

 – تمكّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تجيير ورقة الحبوب لمصلحته بعدما جيّش المجتمع الدولي والملايين المهدّدين بالجوع في العالم وراء دعم خطة إيصال الحبوب إلى محتاجيها في آسيا وإفريقيا وأوروبا في مواجهة التصعيد والتحدّي الغربي.

– حذّرت موسكو الحلف الأطلسي من الاقتراب من حدودها عبر أوكرانيا، ثمّ أضافت هدفين آخرين، هما نزع سلاح أوكرانيا وتطهيرها من النازية. لكنّها اليوم فرضت نفسها على منطقة التوتّر في القرم والبحر الأسود وشرق أوروبا عبر تغيير أسلوب اللعب الكلاسيكي مع الغرب.

– وصلت روسيا إلى ما تريده في إطار صفقات سياسية واقتصادية. وذلك عبر استراتيجية إطلاق المفاجآت السياسية والأمنيّة والاقتصادية ومحاربة الحلف الأطلسي في عقر داره من خلال شركاء أو خصوم للحلف.

– أثبتت روسيا أنّها معنيّة بالأزمة الغذائية العاصفة بأكثر من دولة ومنطقة عبر خطوة إسطنبول وبعكس ما يُقال، وأنّها تريد الوصول إلى تفاهمات ينتظرها ويريدها العالم بعكس ما تقوله أميركا حول الاستثمار السياسي والأمني الروسي في ملفّ الأزمة، وأنّها هي التي دفعت الغرب إلى تخفيف قرارات الحظر والمقاطعة حيال البضائع الروسية لإنقاذ القمح الأوكراني.

ستقرّب اتفاقية الحبوب أكثر فأكثر بين تركيا وروسيا في الملفّات الثنائية والإقليمية، وستقلق العديد من القوى التي ستشعر أنّ حساباتها ومصالحها قد تتراجع وتتضرّر في الإقليم

تقارب تركي روسي

ستقرّب اتفاقية الحبوب أكثر فأكثر بين تركيا وروسيا في الملفّات الثنائية والإقليمية، وستقلق العديد من القوى التي ستشعر أنّ حساباتها ومصالحها قد تتراجع وتتضرّر في الإقليم. الخطة الأميركية البديلة لنقل الحبوب الأوكرانية عبر الأنهر والسكك الحديدية والطرق البرّية هي حلقة في عمليّة الردّ على ما جرى في إسطنبول ونتيجة شعور واشنطن بأنّها ستكون الخاسر والمتضرّر الأوّل في هذا الشأن.

لكن يبقى السؤال: ما الذي تعدّ موسكو له من مفاجآت أخرى، ولا سيّما مع تزايد عدد المحلّلين والمراقبين الذين يقولون إنّ هدف روسيا النهائي في الحرب الأوكرانية أبعد من إسقاط زيلينسكي وقد يصل إلى تقسيم أوكرانيا إذا ما ساعدها الحلف الأطلسي على ذلك؟

للتأكيد فقط فإنّ من الواضح تماماً أنّ مسار ومستقبل الأزمة الأوكرانية هما اللذان سيحدّدان شكل العلاقة بين الغرب وروسيا في المرحلة المقبلة، لكنّ الواضح أكثر أنّ تفاعلات الأزمة وتشابكها سيفتحان الطريق أمام بناء اصطفافات وتحالفات إقليمية وعالمية جديدة تختلف عن المشهد القائم ما قبل شهر شباط المنصرم لحظة تحرّك القوات الروسية نحو الداخل الأوكراني.

كان هدف واشنطن التضحية بأوكرانيا لمصلحة توحيد الغرب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً من ورائها، لكنّها لم تكن تتوقّع أن تلعب موسكو ورقة المجتمع الدولي والأمم المتحدة وتركيا ضدّها لتسهيل الوصول إلى اتفاقية الممرّ الآمن للحبوب. على البيت الأبيض أن يبذل جهوداً مضاعفة لمواجهة روسيا، لكنّه سيجد نفسه أمام لحظة حسم قراره حيال صعود واستقلالية القرار التركي الإقليمي. إيران أيضاً هي بين القلِقين في المنطقة. فهي تجلس بحثاً عن الخروج من عزلتها الإقليمية والدولية، فيما تركيا تقود ملفّاً إنسانياً عالمياً يعزّز من نفوذها. فهل يقرّب ذلك بين واشنطن وطهران وإسرائيل المتململة من المواقف الروسية الأخيرة حيالها في سوريا؟

جاء الردّ الأميركي-الإيراني-الإسرائيلي الخاطف والسريع عبر العراق وسوريا وتل أبيب قبل أيام. فاعتداء دهوك يتمّ بتخطيط إيراني وتنفيذ أدوات محلّية، فيما واشنطن تبرق “معزّية” بقتلى “قسد” نتيجة الاستهداف التركي في سوريا، وإسرائيل بدأت تتّهم موسكو بتغيير طبيعة التحالفات التاريخية القديمة.

معركة الصين… الروسية

العقبة الأهمّ أمام تمدّد روسيا الاستراتيجي ستبقى دائماً حليفتها وشريكتها الصين، وستتمحور مواجهة روسيا مع أميركا حول مَن يربح الصين إلى جانبه أو ينجح في إضعاف نفوذها الإقليمي والدولي. تملك بكين يوماً بعد آخر المزيد من أوراق الضغط الاقتصادي والتكنولوجي والمالي ضدّ روسيا. هي لن تساوم الغرب على ذلك، لكنّها ستلزم موسكو بإعطائها ما تريد في العقد المقبل لأنّ نبرة التلويح بالسلاح النووي لن تنفع معها كما حدث مع الغرب. ستكون خيارات روسيا محدودة وضيّقة خلال بحث خطط تقاسم النفوذ والمصالح في العالم ومع مَن ستفعل ذلك. فإمّا أن تتفاهم مع الغرب في مناطق نفوذ مشتركة تتداخل فيها المصالح، وإمّا أن تفعل ذلك مع الصين، وهو ما قد يتحوّل إلى سير في المجهول لأنّ بكين المارد تريد ابتلاع كلّ شيء حتى لو كان الجالس أمامها شريكها وحليفها الروسي.

إقرأ أيضاً: أحلام قمّة طهران لم تتحقّق

في الشقّ التركي هناك أيضاً مَن يدعو حكومة العدالة والتنمية إلى الحذر وعدم تكرار الأخطاء. يقول لنا مصطفى بالباي، أحد أبرز أقلام المعارضة التركية، إنّ “أنقرة اختارت أن تكون حيادية في الحرب الأوكرانية. لكنّها تبنّت سياسة الحياد الإيجابي، وهو ما فتح الطريق أمامها لتلعب دور الوسيط والمسهّل في تسوية ملفّات خلافية بين طرفَيْ النزاع”. ويتابع: “لا يمكن تصوّر الأرباح الاستراتيجية التي كانت ستجنيها تركيا لو أنّها تبنّت سياسة مماثلة في التعامل مع ملفّات إقليمية يتقدّمها الملفات السوري والليبي والعراقي والمصري”.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…