“العقليّة السياسية في لبنان كانت وما تزال متمحورة حول المصالح الفردية التي وحدها تشكّل دافع الموالاة والمعارضة”.
صائب سلام
تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من فرسان استقلاله.
أيضاً تصدر المذكرات في زمن استباحة مقام رئاسة الحكومة. وهو الذي كان واحداً من أشدّ رؤساء الحكومات حرصاً عليه وعلى صلاحياته، وهو ما جعله يصطدم بكل رؤساء الجمهورية المتعاقبين ويدخل معهم في منازلات سياسية قاسية من الندّ للندّ.
نظراً إلى الكمّ الهائل من الوقائع الواردة في المذكّرات، ينشر “أساس” حلقتين. في الحلقة الثانية مرور على روايته حول صراعه المفتوح مع رؤساء الجمهورية، وأسباب إصراره على أن تكون الاستشارات النيابية “ملزمة”، وحكايات الفساد منذ تأسيس الجمهورية، الذي غذّاه “الأجانب” واستفادوا منه.
للرئيس صائب سلام تجربة طويلة ومريرة مع الاستشارات النيابية. ربّما لذلك كان من المتشدّدين في جعلها إلزامية في اتّفاق الطائف، مع عدم تقييد الرئيس المكلّف بمهلة زمنية لحماية صلاحيّاته من تسلّط رؤساء الجمهورية.
فقد حصل سلام على الأكثرية في الاستشارات النيابية 4 مرّات في عهد بشارة الخوري، لكنّ الأخير كان يكلّف شخصية أخرى، حتّى أصبح موضوع تكليفه حديث كلّ الأوساط من سياسيّين وصحافيّين ومختلف فئات الرأي العام. ثمّ تكرّرت معه القصة من جديد مع الرئيس شارل الحلو حين حصل على أكثريّة أصوات النوّاب، لكنّ الحلو كلّف عبد الله اليافي وقتذاك.
كان سلام حريصاً جدّاً على رئاسة الحكومة ودورها في النظام وصلاحيّاتها، وهو ما جعله في صراع دائم مع رؤساء الجمهورية، ويقول في هذا الصدد: “يأخذ عليّ البعض طبعي التصادمي مع رؤساء الجمهورية، لكنّ هذا غير صحيح. فقد كنت أحاول معهم طوال وجودي في رئاسة الحكومة متحمّلاً ما لا يتحمّله سوى الراغبين في الحكم بأيّ ثمن. وكنت أسمّي عيشتي معهم المصارعة اليابانية ولا أستقيل إلّا عندما يصبح الصراع مكشوفاً وحسّاساً”.
حكاية الفساد في لبنان من عمر الاستقلال، بحسب الرئيس صائب سلام. وقد غذّاه الأميركيون، واستفاد منه الأجانب لتحقيق الأرباح، فضربوا الاقتصاد الوطني وحالوا دون تأسيس اقتصاد منتج وسليم
ويروي أنّه أصرّ على رفض قيام رؤساء الجمهورية بالتواصل مع المديرين العامّين من دون المرور بالوزراء المختصّين أو حتّى إعلامهم. وفي عهد الرئيس فؤاد شهاب قام بإبعاد مساعده الفرنسي المنتدب الذي كان يعتبره عماد الدولة ومراقباً حتّى على رئيس الوزراء، ومنع الياس سركيس مدير غرفة رئاسة الجمهورية من حضور جلسات مجلس الوزراء لأنّه لا يحقّ لأحد أنْ يحضرها سوى الأمين العام للمجلس فقط. ورفض أيضاً بشكل قاطع التواصل المباشر بين أمين سرّ فؤاد شهاب وبعض الوزراء.
في المقابل، يأخذ على رؤساء الحكومات تساهلهم ومجاراتهم لرؤساء الجمهورية، مثل الرئيس رشيد كرامي الذي “تعوّد مجاراة (فؤاد) شهاب مثل ما كان عليه مع الأسف أكثر رؤساء الوزارات المسلمين مع كلّ الرؤساء المسيحيّين، وهو ما أضرّ بنظري بمصلحة لبنان بمسلميه ومسيحيّيه”. أما الرئيس حسين العويني الذي رافق الرئيس شارل حلو في جولة خارجية عام 1965 يقول عنه سلام: “أثار امتعاض المسلمين أنّ العويني بدا طوال الجولة كأنّه تابع لا شأن له ولا مركز، مذكّراً بحالة بعض المسؤولين المسلمين مثله حين كانوا في رئاسة الحكومة فيخسرون أنفسهم ويخسّرون المنصب نفسه”.
نادي رؤساء الحكومات
ليست تجربة نادي رؤساء الحكومات جديدة في الحياة السياسية في لبنان. يروي سلام أنّه “بعد انتخاب الرئيس فؤاد شهاب، جمعت كلّاً من اليافي والعويني ورشيد كرامي لتوحيد الكلمة لجهة تسمية رئيس الوزراء، بدلاً من أنْ يصبح هذا الموضوع مجالاً للاختلاف بيننا. وكنت أرمي إلى تبديد الفكرة السائدة لواقع مرير، وهو تسابق كلّ زعيم مسلم لنيل رئاسة الحكومة بأيّ ثمن. ومع أنّني كنت المرشّح الأقوى إلّا أنّني تجاوزت ذلك واقترحت أنْ نتمثّل بشخص واحد هو رشيد كرامي. وكانت تلك المرّة الأولى في لبنان التي يُختار فيها ممثّل للمسلمين جميعاً برئاسة الحكومة. وقد منح هذا الاجتماع الرئيس كرامي قوّة جماعية لم نتقن استعمالها مع الأسف”.
كان سلام حريصاً جدّاً على التوازنات وعلى دور السُنّة في النظام، وعلى الحدّ من الهيمنة المسيحية. ومن الأمثلة التي يذكرها انتخابات عام 1947 التي شكّل فيها لائحة مع هنري فرعون اشترط فيها الأخير عدم ترشيح سامي الصلح، وترشيح أمين بيْهم صديق طفولة سلام، لكن “لم أقبل الخضوع لإملاءات فرعون، وصعُب عليّ أنْ يتحكّم فرعون بمسألة ترشيح شخصية إسلاميّة كسامي الصلح على الرغم من الخلافات الشخصية بيننا”.
في انتخابات 1964، رفض عبد الله اليافي، شريك صائب سلام في اللائحة، ضمّ الصحافي البارز عبد الله المشنوق على عكس رغبة سلام. وكان اليافي يقول عن المشنوق إنّه “مسلم زيادة”، وهو الوصف الذي تناقله الكثيرون في بيروت، ولا سيّما في الأوساط المسيحية. لكنّ هذا التعبير الذي أشاعه اليافي أفاد المشنوق كثيراً خلال الانتخابات وأسهم في فوزه بالمقعد النيابي”.
عندما زاره وفد كتائبي لتسويق ترشيح بيار الجميل لرئاسة الجمهورية عام 1970 قال أمامه: “إنّ المسلمين يشعرون بالمرارة إزاء الكثير من الأمور. إنّنا نحن معشر المسلمين أعطينا المسيحيين كلّ شيء يوم اتفقنا معهم في عام 1943 على قيام لبنان، لاعتقادنا بأنّه أمر يرضيهم أنْ تكون لهم دولة مستقلّة تضمّنا معاً، وترفع عنهم خوف الذوبان في محيط إسلامي وعربي واسع. لذلك بقي عليهم أنْ يعطوا المسلمين ما يرفع الغبن عنهم، يرفع الظلم، والظلم الواقع على المسلمين كبير”.
اغتيل الصحافي صاحب ورئيس تحرير صحيفة “التلغراف” نسيب المتني ليل الخميس 8 أيّار 1958، وكان معارضاً بشدّة للرئيس كميل شمعون. كان هذا الاغتيال الشرارة التي أشعلت ثورة 1958 ضدّ حكم شمعون
الفساد الذي غذّاه الأميركيون
حكاية الفساد في لبنان من عمر الاستقلال، بحسب الرئيس صائب سلام. وقد غذّاه الأميركيون، واستفاد منه الأجانب لتحقيق الأرباح، فضربوا الاقتصاد الوطني وحالوا دون تأسيس اقتصاد منتج وسليم.
“لم يكد يمرّ سوى سنوات قليلة على نيل الاستقلال حتّى بدأ التفلّت يضرب أوصال الحكم مع جنوح الزعماء وكبار السياسيين إلى استغلال نفوذهم للتدخّل في القضاء وضرب استقلاليّته وتقديم الحماية إلى قبضايات الشوارع الذين كان بعضهم يحتمي بمنازل الزعماء الذين يوالونهم. وكذلك التدخّل أيضاً في أعمال قوى الأمن والتوظيفات، وفتح قنوات مع كبار الصحافيّين حينذاك وتحريضهم على مسؤولين معيّنين”. ويشير إلى سيطرة السياسيّين على النقابات العمّالية منذ الاستقلال: “فمن أصل 23 نقابة كان هنري فرعون وخليل بشارة الخوري يسيطران على 17 نقابة”.
“التفريط بالحقوق الوطنية نابع من كون غالبية المسؤولين، وخاصة النواب، من المحامين ووكلاء لسفارات ومصالح وشركات أجنبية”، يقول الرئيس سلام، ويعطي مثلاً قصّة شركة “التابلاين” الأميركية عندما تقدّمت مطلع الخمسينيات بطلب إنشاء مصفاة للبترول في لبنان: “لكنّ أحد رجالات الاستقلال حبيب أبي شهلا بفصاحته وبلاغته المعهودة ألقى كلمة من العيار الثقيل في المجلس النيابي حول حقوق لبنان المهدورة في الاتفاق، مصوِّراً عملية مدّ أنابيب “التابلاين” في الأراضي اللبنانية بقوله:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
بعد هذا قال لي سفير أميركا “وودزورث” إنّ البعض أشار عليه بأنْ يكون أبي شهلا وكيلاً لـ”التابلاين”. وعندما حصل أبي شهلا على الوكالة نسي العيس والبيداء ومنح الأميركيين أكثر ممّا كانوا يطالبون به”.
يتطرّق سلام إلى “الأكذوبة الكبرى بأنّ الفوضى في لبنان هي أهمّ أسباب نجاحه، التي نسبها المستفيدون من الفوضى الاقتصادية إلى الخبير البلجيكي “فان زيلند” أحد أهمّ الخبراء العالميين في التخطيط الاقتصادي، وزعموا أنّه نصحهم بالاستمرار فيها. وعملوا على نشر الأكذوبة واقتنع بها الكثير من اللبنانيين، لكنّهم أضاعوا فرصة بناء اقتصاد وطني بكلّ ما للكلمة من معنى”.
من اغتال نسيب المتني؟
اغتيل الصحافي صاحب ورئيس تحرير صحيفة “التلغراف” نسيب المتني ليل الخميس 8 أيّار 1958، وكان معارضاً بشدّة للرئيس كميل شمعون. كان هذا الاغتيال الشرارة التي أشعلت ثورة 1958 ضدّ حكم شمعون.
إقرأ أيضاً: مذكّرات صائب بك (1): الموارنة رفضوا إلغاء الطائفية في 1924
يكشف سلام هويّة القاتل، وكيف عرف في منزله بتفاصيل العملية. في هوامش أحد الفصول يروي التالي: “في عام 1983 حضر إلى منزلي شخص ملقّب بـ”الشاويش”، وهو قبضاي من القبضايات، ويملك محطة محروقات على كورنيش التلفزيون قرب ثانوية رمل الظريف، واعترف لي بأنّ جماعة شمعون اتّصلوا به وأغروه بالمال لتنفيذ الجريمة. واعترف أيضاً بأنّ كلّ هذه الاتّصالات تمّت بالقصر الجمهوري، وبمعرفة وإشراف كميل شمعون شخصيّاً، وأنّه نفّذ جريمته بعدما راقب المتني ولاحقه في ظلمة الليل بعدما غادر مكتبه في صحيفة “التلغراف”، حيث استفرد به في أحد الشوارع المظلمة في محلّة “الغلغول” وأطلق عليه الرصاص”.