لم يكن حاكم مصرف لبنان حاضراً في اجتماع اللجنة الحكومية المكلّفة بمتابعة ملفّ رواتب موظّفي القطاع العام الإثنين الفائت، مع أنّ دوره في الملفّ أهمّ من أدوار المجتمعين جميعاً، ليس فقط لأنّه مَن سيطبع الأموال التي ستُعطى للمواطنين، بل لأنّ ما تبحثه اللجنة قد يهدم “السيستم” الذي بناه الرجل لتصفية خسائر الأزمة وكبح انهيار الليرة.
اللجنة الحكومية هي في الحقيقة “حكومة مصغّرة” (cabinet) تضمّ ثلث مجلس الوزراء، وتتمثّل فيها كلّ المكوّنات السياسية المشاركة في الحكومة، بمن فيها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ونائبه سعادة الشامي ووزراء الماليّة والعمل والأشغال والشؤون الاجتماعية والصحّة والصناعة، مع تمثيل لرئيس الجمهورية بشخص المدير العامّ للرئاسة أنطوان شقير، والجهتين المعنيّتين: مجلس الخدمة المدنية والإدارة العامّة لوزارة المالية. وهذا يكفي لوصف اجتماعات اللجنة بأنّه “اجتماع مصغّر لمجلس الوزراء”.
خرجت اللجنة بصيغة لرفع رواتب موظفي الدولة تتوزّع ما بين “مساعدة اجتماعية” تعادل أساس الراتب، وبدل نقل بقيمة 95 ألف ليرة عن كلّ يوم حضور، وراتب تحفيزي بقيمة 150 ألف ليرة عن كلّ يوم عمل للفئة الدنيا من الرواتب، ويصل إلى 300 ألف ليرة يوميّاً لمن تصل رواتبهم مع المساعدة الاجتماعية إلى أربعة ملايين ليرة.
سوّق رياض سلامة لخفض الكتلة النقدية على أنّه إنجاز يوفّر استقراراً نسبياً لسعر الصرف
تصل تكلفة هذه الصيغة إلى 72 مليار ليرة شهرياً، أي ما يزيد على 860 مليار ليرة سنوياً. لا يساوي هذا الرقم شيئاً قياساً بمعدّلات التضخّم المسجّلة منذ بداية الأزمة، وهو ضئيل من حيث قيمته بالدولار الأميركي (لا يتجاوز 30 مليون دولار سنوياً قياساً بالمستويات الحالية لسعر الصرف)، ولا يبدو أنّ موظّفي القطاع العام سيقبلون به، لكنّه مع ذلك يمكن أن يشكّل معضلة للنظامين المالي والنقدي اللذين أرساهما رياض سلامة في الأشهر الأخيرة.
فالاستقرار النسبي لسعر الصرف منذ بداية العام، ما خلا قفزة الدولار في فترة محدّدة بعد الانتخابات النيابية، قائم على خطّة لتقليص حجم الكتلة النقدية بالليرة (currency in circulation)، بمزيج من ضخّ الدولارات الورقية عبر التعميم 161، والسقوف على سحب الأوراق النقدية اللبنانية (البنكنوت)، وهي بمنزلة “كابيتال كونترول” استنسابيّ تنفّذه البنوك بلا سندٍ تشريعي.
“خطّة” رياض سلامة مهدّدة
نجحت خطة رياض في خفض المعروض النقدي بالمفهوم الضيّق (M1)، الذي يشمل الكتلة النقدية والودائع تحت الطلب، بشكل حادّ في الربع الأوّل من السنة، ليصل إلى 51.5 تريليون ليرة في نهاية آذار الماضي، انخفاضاً من نحو 58 تريليوناً في نهاية 2021.
وانخفضت الكتلة النقدية، وهي الأكثر تأثيراً في الطلب على الدولار بالسوق الموازية، بنحو تسعة تريليونات ليرة خلال ثلاثة أشهر فقط، لتصل إلى 32.6 تريليون ليرة، أي أنّ مصرف لبنان سحب خلال ثلاثة أشهر فقط خُمس النقد المتداول من السوق. لكن في الأشهر الأخيرة، وبفعل الإنفاق الانتخابي وتقليص الدعم الحكومي وقدوم المغتربين، عاد المعروض النقدي للارتفاع، ليصل في 14 تموز الجاري إلى 58.6 تريليون ليرة، متجاوزاً مستواه في نهاية 2021.
على أنّ المؤشّر الأكثر إثارة لقلق مصرف لبنان هو قفزة الكتلة النقدية في الأسبوعين الأوّلين من تموز بنحو 2.3 تريليون ليرة، لتصل إلى 41.2 تريليون ليرة. وهذا في الغالب يعود إلى تصريف المغتربين للدولارات التي حملوها معهم من الخارج. إذ إنّ حجم الزيادة لا يتعدّى 80 مليون دولار على متوسّط سعر صرف 29 ألف ليرة.
سوّق رياض سلامة لخفض الكتلة النقدية على أنّه إنجاز يوفّر استقراراً نسبياً لسعر الصرف. لكنّ التطوّرين الأخيرين، المتمثّلين بعودة الكتلة النقدية إلى الارتفاع والاتّجاه لرفع رواتب القطاع العامّ، يضعان “السيستم” الذي بناه على شفيرٍ خطر، ويهدّدان بنوبة أخرى من جنون الدولار.
وما يعزّز هذه المخاوف أنّ تدفّق العملة الصعبة من الخارج ليس بالحجم الكافي لاستعادة التوازن النقدي، وهذا ما يظهر من تراجع احتياطات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية في النصف الأوّل من تموز بنحو 224 مليون دولار، فيما البلاد في ذروة موسم الاصطياف.
نهاية “لعبة” مصرف لبنان
وصلت لعبة سحب الليرة إلى منتهاها. فأسعار السلع والخدمات تخضع بالتدريج للتعديل وفق سعر الصرف الجديد، وهذا يعني أنّه لم يعد بالإمكان تسيير الاقتصاد بالكميّة الضئيلة من النقد التي يوفّرها مصرف لبنان للسوق.
من العبث مقارنة حجم الكتلة النقدية بمستوياتها قبل انهيار الليرة حين كانت لا تتجاوز خمسة أو ستة تريليونات ليرة. فتلك الكتلة كانت تعادل بقوّتها الشرائية نحو أربعة مليارات دولار، فيما تعادل الكتلة النقدية اليوم نحو 1.4 مليار دولار وفق سعر الصرف “الحقيقي”، وهذا يعني أنّ الاقتصاد يسيّر نفسه بثلث الكتلة النقدية الحقيقية التي كانت متوافرة قبل الأزمة. ومن البديهيّ أنّ النقد لا يُقاس بقيمته الاسمية، بل بما يعادله من سلع وخدمات.
على مدار ثلاث سنوات، لعب رياض سلامة دوراً يتجاوز بكثير منصبه. فهو في واقع الحال: الحكومة الظلّ، ووزير الماليّة الظلّ، ووزير الطاقة الظلّ، ووزير الصحّة الظلّ. هو من يوفّر التمويل للدولة، ويوفّر الدولارات للدعم، ويقرّر كيف يقبض موظّفو القطاع العامّ رواتبهم، وكاد أن يقرّر وحده زيادة رواتب القضاة دون سواهم، بمالٍ يطبعه بحكم سلطته، من دون أيّ دور للسلطتين التنفيذية والتشريعية.
إقرأ أيضاً: والآن.. كيف “يلمّ” مصرف لبنان دولارات المغتربين؟
قرّر رياض سلامة أنّ استقرار الليرة يتطلّب خنق وتجفيف السوق من الليرة، وهذا يعني في المباشر الطلب إلى الناس خفض إنفاقهم إلى أقلّ من الحدّ الأدنى الكافي لاستمرار الحياة. وقرّر أيضاً أن يتلازم ذلك مع إعادة تسعير كلّ شيء وفقاً لسعر الصرف الواقعي نتيجة لرفع الدعم. وقد أتت لحظة الحقيقة التي يُقال فيها إنّ تعديل أسعار السلع والخدمات وفق الدولار الجديد مع إبقاء الرواتب على الدولار القديم، ليس تكتيكاً في إدارة النقد، بل وصفة إعدام للناس.