تل أبيب بين قمّة جُدّة… وقمّة طهران

مدة القراءة 6 د

مشاهد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للسعودية والمنطقة تمثّل بداية التأريخ لفصول الإمبراطورية الأميركية الختامية في الشرق الأوسط.

لا يعني هذا أنّ نهاية الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط كقوة عظمى باتت وشيكة في المدى القريب أو المتوسّط، بل يعني أنّ النفوذ الذي كان للولايات المتحدة في وقت ما لم يعُد كما كان، وأنّ إمكانية التمرّد عليها أصبحت ممكنة ومتاحة خلافاً لِما كان سابقاً، وأنّ ولاءات زعماء الخليج لم تبقَ على حالها، والكلام للكاتب حسن خضر في جريدة “الأيام” الفلسطينية قبل يومين.

ثمّة حاجة ملحّة إلى المقارنة بين الحفاوة البالغة التي لاقاها الرئيس دونالد ترامب من القادة السعوديين في أثناء زيارته للمملكة، ومشهد رقصة السيف الشهيرة، وبين مشهديّة التلامس بالقبضات بين وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي جو بايدن، لأنّها تكشف وجهاً آخر من وجوه الإمبراطورية الأميركية في خواتيمها. فقد عثر مستشاروه على صيغة رمزية هي التلامس بالقبضات بحجّة فيروس كورونا، وذلك لإيجاد تخريجة تجمع بين وعد الرئيس بايدن سابقاً بعدم لقاء بن سلمان والامتناع عن مصافحته، وبين اضطراره إلى فعل ذلك على وقع الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة وحاجته إلى المملكة.

يقول الكاتب الإسرائيلي نداف ايال من صحيفة “يديعوت”  إنّ “زيارة بايدن بلا معنى، إذ  يأتي المرء أحياناً إلى أماكن كي يمحو فقط الانطباع بما سيأتي بعد ذلك

على مسافة غير بعيدة، تراقب إسرائيل ما يجري في المنطقة باندهاش، وتبدو لها المنطقة وكأنّها تتعرّف عليها للمرّة الأولى. فما جرى في جدّة يعبّر عن استفاقة مهمّة للعرب، في ضوء التطوّرات الدولية الجارية والمرتقبة،  تنطوي على إعطاء الأولويّة للمصالح العربية، وعلى ثقة أكبر للعرب بأنفسهم وبقدرتهم على التأثير في السياسات والمتغيّرات الدولية، وبأن يكونوا شركاء في هندسة النظام الدولي الجديد.

إسرائيل “حاملة طائرات”

صحيح أنّ زيارة بايدن لتل أبيب رسّخت مكانة إسرائيل الخاصة في المنطقة، كحاملة طائرات أميركية بدون جنود أميركيين، إذ نصّ “إعلان القدس”، الذي وقّعه جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، على ضمان الأمن الإسرائيلي بشكل قاطع والتفوّق النوعي لإسرائيل، بما في ذلك تعزيز القدرات التكنولوجية الإسرائيلية وإشراك إسرائيل في المعلومات التكنولوجية الأميركية. وتعهّد الرئيس بايدن في وثيقة “إعلان القدس” بتنفيذ بنود “مذكّرة التفاهم” التي وُقّعت في 2016 وتنصّ على تقديم مساعدات أميركية سنوية بقيمة 3.8 مليارات دولار لمدّة عشرة أعوام، إلى جانب التزام واشنطن بالسعي إلى حصول تل أبيب على مساعدة إضافية، وهي مرتبطة بتطوير منظومات الدفاع الصاروخية، وستصل إلى معدّل مليار دولار سنوياً.

صحيح أيضاً أنّ ما جاء في وثيقة “إعلان القدس” هو صفعة وجّهها بايدن للجناح اليساري المناهض لإسرائيل ولشطره اللاسامي في الحزب الديمقراطي الذي يعارض كلّ مساعدة أمنيّة لإسرائيل، وأنّ زيارة بايدن لإسرائيل شملت المشاركة في افتتاح دورة ألعاب “المكابياه” التي توصف بأنّها أولمبياد رياضية عنصرية قائمة على أساس “طهارة العرق اليهودي”، وتنظّمها حركة “مكابي”، ويشترك فيها رياضيون يهود من جميع الجاليات في العالم… لكنّ في إسرائيل أصواتاً تتحدّث عن أنّ زيارة بايدن لإسرائيل عديمة الجدوى.

1- يقول الكاتب الإسرائيلي نداف ايال من صحيفة “يديعوت”  إنّ “زيارة بايدن بلا معنى، إذ  يأتي المرء أحياناً إلى أماكن كي يمحو فقط الانطباع بما سيأتي بعد ذلك. جاء الرئيس الأميركي إلى إسرائيل لأنّه عرف، على ما يبدو، ما سيمرّ به في السعودية، وأراد أن يحصل على المحبّة والإحساس بالانتماء الذي ستمنحه إسرائيل بسرور لكلّ زعيم أميركي، قبل لحظة من تلقين السعوديّين له درساً قاسياً في الواقعية السياسية”.

2- انتقدت الصحافة الإسرائيلية موجة الحديث العلني المبالَغ فيها عن منظومة دفاع إقليمي مشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة ودول المنطقة، أو ما يُقال عن “ناتو عربي”، وذلك بعدما جاء الردّ خلال زيارة بايدن الخليجية، حين أعلن المستشار السياسي لرئيس الإمارات أنور قرقاش أنّ دولته لا تدعم أيّ حلف إقليمي موجّه ضدّ دولة في الإقليم، وبالتأكيد لن تدعم حلفاً ضدّ إيران التي تعمل على بناء جسور معها، وقامت بتعيين سفير لها في طهران.

3- كتب تامر هايمن مدير معهد دراسات الأمن القومي: “في نهاية زيارة الرئيس بايدن إلى المنطقة نتساءل: هل تمّ تعزيز الردع الإسرائيلي ضدّ إيران؟ أم إضعافه؟ وهل موجة الحديث عن منظومة إقليمية، كان هناك شكوك أصلاً في احتمالات إقامتها اليوم، ساعدت على الدفع قدماً بالفكرة أم أبعدتها؟ يبدو أنّ من الأفضل العودة إلى طرق العمل القديمة، التي تركّزت على تطوير المصالح الأمنيّة المشتركة بين إسرائيل ودول المنطقة، تحت الرادار”.

حذّر وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، من “امتلاك” إيران لأكبر ترسانة طائرات مسيّرة وصواريخ في منطقة الشرق الأوسط

انتقد هايمن أيضاً الحديث في إسرائيل عن أنّ القضية الفلسطينية لم تعد مهمّة لدول المنطقة، وأنّها لم تعد تؤجّل التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، معتبراً أنّه يقوّي “سردية الخيانة” التي تنشرها السلطة الفلسطينية. وتنتشر هذه السردية بين الجماهير في دول المنطقة، ومن المؤكّد أنّها لا تساهم في خلق الأجواء التي تسمح بنقل العلاقات مع إسرائيل إلى المستوى العلني.

تبقى أعين إسرائيل مفتوحة على الحدث الأهمّ، وهي قمّة طهران، التي شارك فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والرئيس التركي رجب طيب إردوغان. إذ يوجد قلق كبير في أوساط المحافل الأمنية والسياسية في تل أبيب من هذه القمّة، وخشية إسرائيلية من بيع إيران مئات الطائرات المسيّرة إلى موسكو. وحسب منشورات جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، فإنّ إيران تعتزم أن تنقل إلى روسيا مئات المُسيّرات، بما فيها مسيّرات “انتحارية”، بهدف استخدامها في الحرب في أوكرانيا. وعلى حدّ قوله، ستدرّب طهران جنوداً روسيين على استخدام المنظومات الجديدة.

تخشى تل أبيب أن تجعل هذه الصفقة من إيران مورّدة سلاح لروسيا، إذ ستكون نتيجة ذلك التزام موسكو أكثر بالمصالح الإيرانية في الشرق الأوسط، بما فيها تلك المتعلّقة بإسرائيل، وستؤثّر على قدرة تل أبيب على شنّ هجمات في سورية تستهدف التموضع الإيراني فيها. حسب وجهة النظر الإسرائيلية، يمكن للإيرانيين أن يطلبوا في مقابل الطائرات المسيّرة أن يقيّد الروس نشاط سلاح الجوّ الإسرائيلي في سورية ضدّ قواتهم.

إقرأ أيضاً: بعد زيارة بايدن: موقع “الإسلام” في استراتيجة أميركا

وفي هذا الإطار، حذّر وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، من “امتلاك” إيران لأكبر ترسانة طائرات مسيّرة وصواريخ في منطقة الشرق الأوسط. وقال بيرنز خلال منتدى “أسبن” الأمني الذي يعقد بولاية كولورادو الأمريكية، إنّ الصواريخ والمسيّرات الإيرانية “تشكل تهديداً متزايد الأهمية”، معتبراً أنّ الاهتمام الروسي بشراء مسيّرات من إيران “أمر مقلق”.

مواضيع ذات صلة

“دوخة” نيابيّة: جلسة من دون فرنجيّة وجعجع!

“الوضع بدوّخ. المعطيات مُتضاربة ومُتغيّرة كالبورصة. ولا توافق سياسيّاً بالحدّ الأدنى حتى الآن على أيّ اسم لرئاسة الجمهورية”. هي حصيلة مختصرة للمداولات الرئاسية في الأيّام…

جعجع في عين التّينة لإنضاج الرّئاسة؟!

عاثرٌ جدّاً حظّ سليمان فرنجية. مرةً، واثنتيْن وثلاث مرّات، بلغت الرئاسة حلقه، لتُسحب في اللحظات الأخيرة، فيقف على أعتاب القصر عاجزاً عن دخوله، ويعود أدراجه…

يومٌ في دمشق: فرحٌ ممزوج بالقلق

مرّت 14 سنة بالتّمام والكمال عن المرّة الأخيرة التي زُرتُ فيها العاصمة السّوريّة دِمشق، في كانون الأوّل من عام 2010، أي قبل 4 أشهر من…

برّي والرّئاسة: Now or Never

ما كادت تمرّ أيّام قليلة على الإطاحة بالنظام السوري، حتى ظهرت أوّل تداعيات “الانقلاب الكبير” على الرقعة اللبنانية، في شقّها الرئاسي: انقلبت أدوار القوى السياسية،…