لعلّ الأجهزة القضائية حول العالم لم تعرف سابقة كتلك التي أرستها المدّعية العامّة لجبل لبنان القاضية غادة عون قبل أيام: قاضية تأخذ دور الضابطة العدلية وترافق عناصر دورية “أمن الدولة” إلى خارج نطاق صلاحيّاتها القضائية ضمن جبل لبنان، تحديداً إلى حرم “مصرف لبنان”، في شارع الحمرا بقلب بيروت، وذلك للبحث في أروقة المصرف وغرفه وخزائنه وأدراجه عن حاكمٍ فارٍّ من وجه عدالة قد تكون مشكوكاً بدوافعها، مثل ذلك الكلام الحقّ الذي يُراد منه باطل.
العهد الذي يتوق ويتعطّش لأيّ إنجاز يرى في رياض سلامة هدفاً سهلاً يمكن من خلاله تحقيق إنجاز يُنسب إلى عهد ميشال عون الآفل، فيُبنى عليه ويُنفخ ويُروّج إعلاميّاً على أنّ العهد تمكّن من تحقيق ما عجزت عنه أجهزة قضائية حول العالم.
إضراب موظّفو مصرف لبنان قد بدأ يوم الأربعاء وسيستمرّ حتّى اليوم الجمعة، لكنّه فعليّاً سيستمرّ حتّى يوم الإثنين بسبب عطلة نهاية الأسبوع. وهذا سيعني حكماً أنّ منصة “صيرفة” ستستمرّ بالإقفال طوال هذه المدّة
أمّا ردّ رياض سلامة فلم يتأخّر كثيراً وأتى بالمستوى نفسه. جاء الردّ بأسلوب تصعيدي جديد ومبتكر، سلوك كأنّه ينقل عن لسان حال الحاكم قوله مخاطباً “العهد”: “تريدون تسييس القضاء؟ فليكن، أنا سأسيّس مصرف لبنان وأجعل من إضراب موظّفيه لمدّة 3 أيام (عمليّاً 5 أيام لأنّها متّصلة بالسبت والأحد) ورقة ضغط إضافية لأساومكم بمفاعيلها… والعين بالعين وما حدا أحسن من حدا”.
الإضراب يرفع الدولار
في المضمون، فإنّ إضراب موظّفي مصرف لبنان قد بدأ يوم الأربعاء وسيستمرّ حتّى اليوم الجمعة، لكنّه فعليّاً سيستمرّ حتّى يوم الإثنين بسبب عطلة نهاية الأسبوع. وهذا سيعني حكماً أنّ منصة “صيرفة” ستستمرّ بالإقفال طوال هذه المدّة، وأنّ التجّار والمستوردين لن يتمكّنوا من الحصول على الدولارات عبر المنصّة المذكورة لعمليات التجارة والاستيراد، وهو ما سيدفع المحتاج منهم إلى الدولارات إلى الحصول عليها من “السوق السوداء” من أجل تلبية حاجاته من العملة الصعبة، وهذا ما قد يشكّل ضغطاً إضافياً على سعر الصرف الذي ربّما يتحرّك صعوداً من اليوم حتّى صباح الإثنين.
سيعني الإضراب أيضاً وقف العمل بغرف المقاصّة داخل “المركزي”، الخاصة بتسديد الشيكات بالليرة والدولار، وسيعطّل حركة التحويلات وفتح الاعتمادات، والإجراءات المتعلّقة بالتعاميم مثل التعميمين 158 و151 الخاص بآليّة دفع “اللولارات” للمودعين بالليرة اللبنانية على سعر 8,000، لأنّ المصارف ستجد في هذا الإضراب “شحمة ع فطيرة” لتتحجّج بعدم حصولها على الليرات اللبنانية من المصرف المركزي بسبب إضراب موظفيه. ولا يُستبعد أن تمتدّ مفاعيل الإضراب إلى قطاعات أخرى مثل قطاع المحروقات، خصوصاً إذا تأخّر توقيع أو فتح الاعتمادات الخاصة بمادّتي البنزين والمازوت، أو اعتمادات القمح، فتعود الطوابير مرّة أخرى إلى المحطات والأفران التي “لا تلقى غمزة”. وقد يؤخّر هذا الإضراب رواتب القطاع العام والقوى العسكرية.
كان الإضراب بمنزلة خطوة تحذيرية، اتّخذها موظّفو “المركزي” بالنيابة عن حاكمهم ووجّهوها إلى رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره الباحث عن الخلافة. وقد جاءت الخطوة لتذكّرنا بعمق الانقسام العمودي الحادّ الذي وصلنا إليه، وحجم الأزمات التي تعصف بنا، فأمسى القضاء الساكت عن سلوك القاضية غادة عون السياسي، وعن إضراب موظّفي المصرف المركزي، شريكاً في رحلة “العصفورية” التي دعانا إليها رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي.
لم يتعرّض قانون العمل لموضوع الإضراب، لكنّ قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم ألمح إلى الإضراب، بعدما أوجب اللجوء أوّلاً إلى التحكيم
هل الإضراب حقّ؟ ومتى؟
أمّا في الشكل فيمكن القول إنّ إضراب الموظّفين هدفه الضغط على ربّ العمل من أجل تحسين شروط العمل. هو حقّ مشروع قانوناً ونصّت عليها دساتير وتشريعات دولية عديدة، مثل الدساتير الفرنسي والإيطالي والبلجيكي. وتجيزه المادة 31 من الميثاق الاجتماعي الأوروبي (1916) واتفاقية العهد العالمية (1966) الخاصّة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي صادق عليها لبنان سنة 1972، إذ تعترف مادّتها الثامنة بحقّ الإضراب ضمن الضوابط القانونية.
أمّا لبنانياً، فلم ينصّ الدستور على حقّ الإضراب بشكل صريح، وقد حرّمه قانون العقوبات اللبناني في المواد 340 إلى 344 تحت عنوان “جرائم الاغتصاب والتعدّي على حرّية العمل”، معتبراً أنّ “التوقّف عن الشغل من قبل المستخدمين أو العمّال بقصد الضغط على السلطات العامّة أو احتجاجاً على قرار أو تدبير صادرين عنها، جريمة يُعاقَب عليها بالحبس أو بالإقامة الجبرية والغرامة” (نقلاً عن دراسة أجراها موقع “الجيش اللبناني”).
لم يتعرّض قانون العمل لموضوع الإضراب، لكنّ قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم ألمح إلى الإضراب، بعدما أوجب اللجوء أوّلاً إلى التحكيم وبعد انقضاء 15 يوماً على الأقلّ من تاريخ التوقّف الجماعي عن العمل بسبب نزاع.
إقرأ أيضاً: “اللبنانيّ الحربوق” يدخل على خطّ المضاربة باليورو
إذاً التوقّف عن العمل في لبنان حمّال أوجه، وقد يُعدّ “غير شرعيّ” إذا لم تسبقه مرحلة وساطة أو تحكيم. فماذا سيكون موضوع الوساطة في حالة موظّفي مصرف لبنان ومع مَن ومن أجل ماذا؟ وما هو نوع التحكيم؟ وما هي المطالب التي يرفعها موظّفو المركزي بوجه السلطة؟ هل هي مطالب تخصّ تحسين شروط العمل أو زيادة رواتب أو ما شابه؟ شكلاً هم يطالبون “سلطة قضائية مغتصبة” باحترامهم بما هم موظّفون، أي هم يشتكون ممّن يُفترض أن يكون الحَكَم بين اللبنانيين جميعاً.