لم تُدعَ دولتان عربيّتان إقليميّتان إلى مؤتمر جدّة، وهما لبنان وسوريا. سوريا باعتبارها واقعة في الحضن الروسي، ولبنان باعتبار أنّه واقع في الحضن الإيراني.
جاء الرئيس الأميركي جو بايدن إلى جدّة وفي أولويّاته السياسية قطع الجسور التي امتدّت في السنوات الأخيرة بين موسكو والعالم العربي، وهو ما يعتبره محاولة لملء الفراغ الأميركي. ففي جدّة ذاتها عُقد قبل أشهر قليلة المؤتمر الإسلامي – الروسي الذي أعلنت فيه موسكو أنّ “السعودية تشكّل المدخل الروسي إلى العالم الإسلامي”.
لم تُدعَ دولتان عربيّتان إقليميّتان إلى مؤتمر جدّة، وهما لبنان وسوريا. سوريا باعتبارها واقعة في الحضن الروسي، ولبنان باعتبار أنّه واقع في الحضن الإيراني
وعندما يقول الرئيس الأميركي جو بايدن إنّ الولايات المتحدة لن تترك فراغاً في المنطقة لتملأه روسيا، فهو لا يتحدّث عن فراغ سياسي، إنّما يتحدّث عن متغيّرات جوهرية تتّصل برِهان الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما على قيام تحالف أميركي – إيراني في مواجهة التطرّف الإسلامي “السُنّي” (القاعدة و”داعش”). وكان جو بايدن نائباً للرئيس أوباما في ذلك الوقت. تكرّس هذا الرهان في الاتفاق النووي. ولكن سرعان ما تطوّرت الأحداث في الاتجاه المعاكس. فقد أثبت الرهان الأميركي أنّه كان رهاناً قصير النظر، فاصطدم بجدار النتائج الإيجابية للمبادرات العربية التي استهدفت اقتلاع الإرهاب من جذوره الدينية المشوّهة. فكانت سلسلة المبادرات الإسلامية التي جرّدت حركات التطرّف من صدقيّتها، وكشفت عنها غطاءها المتمسّح بالدين لتظهر على حقيقتها التي تقول إنّها حركات إرهابية وحسب تستخدم الدين لأغراض سياسية.
من هذه المبادرات مؤتمرات الأزهر الشريف في القاهرة، ومؤتمرات عمّان لجمعية آل البيت الأردنية، ومؤتمر مراكش حول وثيقة المدينة المنوّرة، ومؤتمر بيروت (المقاصد) حول الحقوق الوطنية والحرّية الدينية، ومؤتمر أبو ظبي حول الأخوّة الإنسانية. وقد تُوِّجت هذه المؤتمرات والمبادرات الإسلامية بوثيقة مكّة المكرّمة التي أعدّها الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد عبد الكريم العيسى، ووافق عليها العلماء المسلمون من الأقطار الإسلامية كافّة (من إندونيسيا حتى المغرب). وهي الوثيقة التي تفتح آفاق العلاقات الإيمانية بين أهل الأديان المتعدّدة على قاعدة احترام الاختلاف، وأنّ الله يحكم بيننا يوم القيامة.
لم يقتصر الأمر على إصدار البيانات عن بُعد، بل شهدت الرياض لقاءات بين أهل الأديان المختلفة نظّمها الدكتور العيسى أيضاً، وذلك سعياً وراء فتح صفحة جديدة على قاعدة الإيمان بالله الواحد، وترجمة هذا الإيمان بوسائل متعدّدة.
لا يمكن الحكم على زيارة بايدن للمملكة العربية السعودية بكميّة النفط التي تضخّها المملكة في السوق العالمي، لكنّ الحكم على الزيارة يكون بمدى تغيير صورة الإسلام وموقعه في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط وفي العالم
فكر إسلامي جديد
هكذا من القاهرة إلى عمّان إلى أبو ظبي، ثمّ إلى الرياض ومكّة المكرّمة، تدفّق فكر إسلامي يوفّق بين التجدّد والأصالة ويقطع الطريق أمام محاولات تشويه صورة الإسلام وتوظيف هذه الصورة المشوّهة في حسابات وتحالفات سياسية. كان من بينها الرهان الأميركي الخاسر الذي تمثّل في مبادرة الرئيس جو بايدن إلى مقاطعة السعودية. وهي المبادرة التي تراجع عنها بعدما أقرّ بخطئها، فقام بزيارة المملكة وشارك في المؤتمر العربي – الأميركي في جدّة برئاسة وليّ العهد محمد بن سلمان.
لا يوجد إنسان معصوم عن الخطأ. فالعصمة لله وحده. لكنّ التمسّك بالخطأ يؤدّي إلى خطأ أكبر. وهو ما لم يفعله الرئيس بايدن، إذ بادر إلى إعادة النظر في حسابات إدارته سياسياً واستراتيجياً مع المملكة العربية السعودية ومع دول مجلس التعاون الخليجي، ومع مصر والأردن، وحتى مع السلطة الفلسطينية. ولعلّ أهمّ مظهر من مظاهر إعادة النظر يتمثّل في إسقاط نظرية أوباما بأنّ الإسلام السُنّي هو إسلام إرهابي، وأنّ من مصلحة الولايات المتحدة التحالف والتعاون مع إيران للتصدّي لهذا الإرهاب.
لقد قال الإسلام السُنّي العربي كلمته من الأزهر الشريف في القاهرة إلى مراكش في المغرب، ومن بيروت وعمّان حتى أبو ظبي. وقال الإسلام (بكلّ مذاهبه وبكلّ دوله) كلمته أيضاً من مكّة المكرمة، وذلك من خلال الوثيقة التي أقرّها أوسع مؤتمر إسلامي لعلماء المسلمين يضمّ علماء يمثّلون المذاهب والمدارس الفكرية الدينية الإسلامية المختلفة.
إقرأ أيضاً: قمّة جُدّة (1): 4 استثناءات بالثّنائيّات العربيّة – الأميركيّة
لم تكن تلك المواقف تسعى إلى إقناع الولايات المتحدة بخطأ اتّهامها الإسلام السُنّي بالإرهاب، بل كان الهدف تصحيح صورة الإسلام التي شوّهها الإرهابيون المتطرّفون الذين سمّاهم الأزهر الشريف بـ”العُصاة عن الإسلام”، وبإعادة تقديم صورة الإسلام على حقيقته، بوصفه دين السماحة والمحبّة والسلام.
من هنا، لا يمكن الحكم على زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمملكة العربية السعودية بكميّة النفط التي تضخّها المملكة في السوق العالمي، لكنّ الحكم على الزيارة يكون بمدى تغيير صورة الإسلام وموقعه في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط وفي العالم.