“شقّة للبيع تطلّ على محور شينزو آبي”.. هكذا تتكرّر عروض العقارات أمام المشترين في القاهرة، ويكتب بعضهم كلمات الإعلان باللغة اليابانية لمزيد من لفت الانتباه!
لم يكن ممكناً مشاهدة إعلان كهذا قبل عامين، ففكرة إطلاق اسم زعيم ياباني على طريق رئيسي في القاهرة لم تخطر على بال أحد.
صديقنا في طوكيو
في خريف 2020 وجّه الرئيس عبد الفتاح السيسي بإطلاق اسم رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي على طريق يربط حيّ مدينة نصر بالقاهرة الجديدة. يمثّل “محور شينزو آبي” شرياناً رئيسياً في خريطة الطرق الحديثة بالقاهرة، ويصل عرضه إلى 37 متراً، وتعلوه أربعة جسور جرى بناء جوانبها على الطراز الياباني. الأعمدة اليابانية الزاهية باللون الأحمر، ومحطة الوقود ذات اللون الأزرق، تُشعران المارّة بأنّهم قد انتقلوا من القاهرة إلى طوكيو لمسافة ثمانية كيلومترات.
من محور شينزو آبي في القاهرة إلى مجمّع شينزو آبي في الإسكندرية، سيظلّ اسم الزعيم الياباني خالداً في بلادنا. إنّها الجملة الذهبية التي أطلقها الرئيس السيسي ذات يوم: “مصر لن تنسى مَن وقف معها، ولا مَن وقف ضدّها”
قدّم الزعيم الياباني دعماً كبيراً لمصر في حقبة ما بعد ثورة 2013 وسقوط الإخوان. وقد دعا الرئيس السيسي إلى زيارة اليابان أكثر من مرّة، وكان في جميعها حريصاً على المساندة والمساعدة، في وقت كان الغرب متأرجحاً.
في عام 2016 قام الرئيس السيسي بزيارة اليابان في أول زيارة لرئيس مصري في القرن الحادي والعشرين. وفي طوكيو ألقى الرئيس خطاباً مهمّاً أمام البرلمان الياباني، والتقى الإمبراطور أكيهيتو ورئيس الوزراء شينزو آبي، بينما وقّع الوفد المرافق 3 اتفاقيات و15 مذكّرة تفاهم، ثمّ كان التقدير الكبير من شينزو آبي للقاهرة، حين دعا مصر إلى حضور قمّة العشرين في اليابان عام 2019، حيث ألقى الرئيس السيسي كلمة مصر في ذلك المحفل العالمي المهمّ. بعد شهريْن زار الرئيس السيسي اليابان من جديد لحضور مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الإفريقية “تيكادا”.
كانت مصر ممتنّة جدّاً لذلك الودّ الشديد من قِبَل طوكيو، وقد رأى الرئيس السيسي ضرورة تكريم الزعيم الياباني بإطلاق اسمه على ذلك الطريق الحيويّ في القاهرة.
حين مرض شينزو آبي كتب الرئيس السيسي: “إنّ شينزو آبي صديق وشريك داعم لمصر، وله إسهامات عظيمة في تعزيز مسيرة علاقات الصداقة بين مصر واليابان”، ولمّا اغتيل كتب الرئيس: “لقد كان شينزو آبي صديقاً مخلصاً لمصر، محبّاً لها، داعماً في كلّ الأوقات والظروف. لن تنسى مصر ما قدّم لها، وسنعمل على تخليد اسمه كما ينبغي”.
مجمّع شينزو آبي بالإسكندريّة
في عام 2009 بدأت خطوات إنشاء “الجامعة المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا” في مدينة برج العرب بمحافظة الإسكندرية، وهي أوّل جامعة يابانية خارج اليابان.
قبل شهر قمت بزيارة الجامعة بدعوة من رئيسها الجديد الدكتور عمرو عدلي، وهو عالم مصري مرموق تولّى رئاسة الجامعة بعد رئيسها المتميّز الدكتور أحمد الجوهري.
أُقيمت الجامعة اليابانية بمعايير رفيعة، وقد شاهدت في حرم الجامعة عدداً كبيراً من الطلاب الأفارقة والعرب، واستمعتُ إلى خطط الجامعة لاستكمال مراحلها التي تمتدّ على مساحة 200 فدّان، أي قرابة مليون متر مربّع.
في خريف عام 2020 وجّه الرئيس السيسي بإطلاق اسم شينزو آبي على المجمّع الأكاديمي بالجامعة المصرية اليابانية، ليصبح اسم شينزو آبي حاضراً في المدينتيْن الكبيرتيْن: القاهرة والإسكندرية.
في نعيها لشينزو آبي عقب اغتياله، قالت الجامعة إنّ “مجمّع شينزو آبي الأكاديمي سيظلّ رمزاً للدعم الكبير الذي قدّمه الفقيد آبي للجامعة خلال فترة إنشائها، وعبر مراحل تطوّرها”.
شراء الأرواح
بالنسبة إلى المصريين، كان نبأ استقالة شينزو آبي حزيناً، وجاء نبأ اغتياله صادماً. في عام 2019 زرتُ اليابان والتقيتُ عدداً من المسؤولين وغير المسؤولين. وكان مستوى الأمن الاجتماعي وشبه انعدام الجريمة من أبرز ما يميّز كوكب اليابان.
أدَّت صدمة الاغتيال إلى البحث في أسباب الجريمة، ثمّ البحث أكثر في الجانب الديني المتعلّق بكنيسة التوحيد، التي اعتقد المتّهم بأنّ آبي ينتمي إليها.
ثمّة أمر اقتصادي ديني يخصّ المتّهم، ذلك أنّ والدته قد تبرّعت بأموال كثيرة لتلك الكنيسة، الأمر الذي أدّى إلى تدهور وضع العائلة، وقد اعتقد المتّهم بأنّ شينزو آبي يدعم الجماعة فقرّر اغتياله. لكنّ المثير في الأمر أنّ عدداً كبيراً من الناس رفع دعاوى ضدّ قادة الكنيسة في اليابان بتهمة الاستيلاء على أموالهم عبر خداعهم بشراء الأرواح.
جاء في مضمون الاتّهام حسب موقع “BBC”: يقوم أعضاء هذه الطائفة بقراءة صفحة الوفيات في الصحف، ثمّ يذهبون إلى أهالي المتوفّين، ويقولون لهم إنّ الفقيد غير سعيد في عالم الأرواح، وعليكم دفع 50 ألف دولار ثمن “ترقية المتوفّى في عالم الأرواح”.
من المذهل أنّ قصصاً كهذه يمكنها النجاح في مجتمع متعلّم ومتحضّر كالمجتمع الياباني. من قبل قامت طائفة “أوم” الدينية المتطرّفة بقتل الناس في مترو طوكيو والتجهيز ليوم القيامة. وكان هناك آلاف المعتنقين لأفكارها العبثية والعدميّة. وعلى الرغم من إعدام 13 من قادتها، فإنّ البعض ما يزال يؤمن بأفكارها.
لم يكن شينزو آبي عضواً في كنيسة التوحيد، لكنّ اعتقاد المتّهم بغير ذلك قاده إلى جريمته.
إقرأ أيضاً: حين هتف الشابّ خالد: يسقط تشي جيفارا
شكراً شينزو
قبل عقود دعمت اليابان إنشاء دار الأوبرا الجديدة بالقاهرة، وقبل سنوات دعمت اليابان بناء المتحف الكبير، الذي سيكون الأكبر في العالم. يقول السفير الياباني في القاهرة إنّ القرض الياباني لبناء المتحف، الذي تبلغ قيمته 800 مليون دولار، هو مبلغ غير مسبوق في تاريخ المعونات اليابانية للمشاريع الثقافية.
من محور شينزو آبي في القاهرة إلى مجمّع شينزو آبي في الإسكندرية، سيظلّ اسم الزعيم الياباني خالداً في بلادنا. إنّها الجملة الذهبية التي أطلقها الرئيس السيسي ذات يوم: “مصر لن تنسى مَن وقف معها، ولا مَن وقف ضدّها”.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.