دخل لبنان في مدار الانتخابات الرئاسية. سيكون الاستحقاق المقبل هو الأهمّ في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف. لبنان في قلب صراع على وجوده والحفاظ على هويّته السياسية والاقتصادية. المنطقة على مشارف اصطفاف سياسي عموديّ قد لا يخلو من التصعيد. وسواء اتّجهت منطقة الشرق الأوسط نحو التسوية أو إبرام الصفقات الكبرى، أم استمرّ الاستنزاف الذي يتخلّله تصعيد سياسي وأمنيّ واقتصادي بين قوى الإقليم، فإنّ لبنان سيكون أحد أكبر المتأثّرين بتداعيات ما سيحصل.
في كلّ استحقاق رئاسي، لا بدّ للمسيحيين الموارنة في البلاد أن يميّزوا أنفسهم عن الآخرين على قاعدة أنّهم المعنيّون بالأمر. وعليه هناك سقف ماروني للانتخابات الرئاسية إلى جانب السقف الوطني.
مارونيّاً، تتعدّد أسقف المرشّحين للموقع الرئاسي. في الدرجة الأولى يحلّ المرشّحون التقليديّون، الذين يرأسون الأحزاب الكبرى. وفي الدرجة الثانية تحلّ الشخصيّات التي تُعتبر تسوويّة أو توافقية من الفئات العليا في الدولة. أمّا الدرجة الثالثة فتحلّ فيها شخصيات تتمتّع بعلاقات متعدّدة داخلياً وخارجياً، وقد تكون تحظى بتمثيل نيابي معيّن، أو بدعم نوّاب مستقلّين
لا يمكن لفرنجية أن يصل إلى موقع رئاسة الجمهورية نظراً إلى علاقته مع النظام السوري، ومع الإيرانيين وحزب الله، ومع روسيا أيضاً
أمّا وطنياً فتدخل اعتبارات مختلفة عن اعتبارات الموارنة في المقاربات الرئاسية. تبحث القوى السياسية والطائفية الكبرى عن تسويات تتمكّن من خلالها أن تدير الحكم وتنجز التوافق في الانتخابات الرئاسية وفي ما يليها من تشكيل حكومة وغيره من استحقاقات طوال سنوات العهد.
كما تبرز مواقف متعدّدة لقوى عديدة، ومنها حزب الله أحد أكبر المؤثّرين في الاستحقاق إلى جانب رئيس مجلس النواب نبيه بري. في المقابل، هناك تأثير مسيحي ماروني وغير ماروني معطوف على تأثير وموقف الدروز الذين لطالما كانوا مؤثّرين إلى حدود بعيدة في الاستحقاقات الرئاسية.
المشكلة الأساسية في هذا الاستحقاق أنّ ميزان التوازن الوطني مكسور على حساب السُنّة الذين يجدون أنفسهم مشتّتين، فيما كانوا هم الفيصل في القرار في العهود والولايات الرئاسية السابقة.
تغيير موقف بكركي
تمتلك البطريركية المارونية ورقة تأثير معنوية في مثل هذا الاستحقاق. ففي الاستحقاق السابق كرّست بكركي مبدأ “الرئيس القويّ” في الاجتماع الذي عُقد بين الزعماء الموارنة الأربعة. وهو ما فتح الطريق أمام رئاسة ميشال عون. حاليّاً أقلعت بكركي عن هذه الفكرة، وذلك كما ظهر في مواقف متعدّدة للبطريرك الماروني بشارة الراعي شدّد خلالها على ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية يكون وسطيّاً وقادراً على الجمع لا التفريق، ويُخرج لبنان من عباءة الممانعة من أجل إعادة نسج علاقات لبنان العربية والدولية.
إنّه موقف واضح من الكنيسة المارونية يضع فيتو على أيّ مرشّح مشابه لميشال عون في الخيارات السياسية. ما تعلمه بكركي وما شهدته من وقائع انهيارية لكلّ المرتكزات التي قام عليها النظام اللبناني في عهد ميشال عون، يعلمه الآخرون من الطوائف الأخرى، الذين يعتبرون أنّ كلّ معارك إيصال الرؤساء الأقوياء من الموارنة إلى قصر بعبدا كانت تنتهي بحروب وانهيارات، فيما كان إنجاز الاستحقاقات الرئاسية بناءً على تسوية وتوافقات يحقّق إنجازات.
مواقف البطريرك واضحة بعدم الذهاب إلى اختيار أيّ طرف، فهو يقول بشكل بيِّن إنّه لا بدّ من انتخاب رئيس قادر على استعادة علاقات لبنان العربية والدولية، ويحفظ التوازن، وهو ما يعني إخراج البلاد وموقع الرئاسة من خانة الاحتساب على محور ضدّ آخر.
يركّز البطريرك على رئيس يتبنّى مبدأ “الحياد”، المرفوض من قبل حزب الله. وفيما تتسرّب أجواء عن تبنّي الحزب لترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وقيامه بمحاولات لإقناع جبران باسيل بذلك، تؤكّد مصادر محسوبة على محور الممانعة أنّ تبنّي خيار فرنجية لا يعني فرضه أو إيصاله، لأنّه لا قدرة لأحد على تكرار تجربة انتخاب ميشال عون لرئاسة الجمهورية. وتستبعد هذه المصادر أن تتمكّن قوى الممانعة من فرض الرئيس الذي تريده، وأن يكون من السهل إقناع وليد جنبلاط بالسير بفرنجية في حال تبنّى حزب الله ترشيحه، لأنّ الواقع اليوم مختلف عمّا كان عليه قبل ستّ سنوات.
صعوبة وصول فرنجية
لا يمكن لفرنجية أن يصل إلى موقع رئاسة الجمهورية نظراً إلى علاقته مع النظام السوري، ومع الإيرانيين وحزب الله، ومع روسيا أيضاً، خصوصاً أنّه قبل فترة زار موسكو في عزّ الحرب الروسية على أوكرانيا فيما تعيش موسكو عزلة دولية. وهذا ينعكس سلباً على وضع فرنجية، فلا الأميركيون مستعدّين لمنح الغطاء لمرشّح محسوب على بشار الأسد أو الروس، ولا العرب يمكن أن يوفّروا الغطاء لحليف الأسد وحزب الله والإيرانيين، ولا يمكن لسليمان فرنجية أن يكون مرشّح تسوية. ما ينطبق على فرنجية يسري على باسيل وجعجع أيضاً. وعليه سيتركّز البحث في الفترة المقبلة على شخصية تسوويّة.
في هذه الحال سيكون لبنان أمام احتمالين:
– الأوّل هو الذهاب إلى إبرام تسوية مشابهة لتسوية الدوحة تنتج الاتفاق على شخصية من داخل الدولة لرئاسة الجمهورية.
– أمّا الاحتمال الثاني فهو الوصول إلى تسوية تقضي بانتخاب رئيس من الصفّ الثالث لا يكون مصطفّاً في أيّ محور. ويفتح هذا الاحتمال المجال أمام مروحة واسعة من الأسماء التي يتمّ التداول بها، بعضها في سبيل الإحراق، وبعضها الآخر في سبيل جسّ النبض.
إقرأ أيضاً: باسيل وفرنجيّة: “ماراتون بعبدا” يبدأ من اللقلوق!
إذاً سيكون لبنان أمام خيار من اثنين، إمّا السعي إلى حلّ الأزمات بانتخاب رئيس تسوية يحظى بموافقة إقليمية ودولية، وإمّا الذهاب إلى ما هو أسوأ واستمرار الانهيار والعزلة من خلال محاولة طرف فرض مرشّحه على الطرف الآخر، إذ يفكّر البعض في تكرار تجربة الـ 65 صوتاً في حال لم يتمّ تعطيل نصاب جلسة الانتخاب.