عام 1988 طُلِب من البطريرك مار نصرالله بطرس صفير التدخّل وتسمية اسم لرئاسة الجمهورية. لم تنجح يومذاك التسميات التي قدّمتها بكركي، فدخلت البلاد في ظروفها المعقّدة وفي حرب انتهت بانتخاب رينيه معوّض ثمّ اغتياله، ثمّ انتخاب الياس الهراوي الذي افتتح عهد الطائف.
منذ ذلك الحين لم تتدخّل بكركي في تسمية الرؤساء، بل كانت على الضفة الأخرى في الموقف السياسي.
بعد انتهاء عهد الرئيس إميل لحود، بالتزامن مع عودة ميشال عون من المنفى وخروج سمير جعجع من السجن، عادت بكركي إلى رأيها وموقفها السابقين، فلم يكن يومئذٍ صفير متحمّساً لميشال عون، وفضّل شخصية أقلّ استفزازاً للرئاسة. ثم حلّ السابع من أيّار 2008 بكلّ ما حمل من تداعيات في الدوحة، فاتفق الجميع على ميشال سليمان رئيساً.
انتهى عهد صفير في بكركي، وحلّ عهد البطريرك بشارة الراعي، الذي دعم وصول ميشال عون إلى الرئاسة وأعطاه مظلّة وموافقة وبركة المرجعية المارونية الأولى في البلاد.
وذلك بعد الاجتماع الشهير الذي جمع خلاله الراعي كلّاً من جعجع وعون وسليمان فرنجية وأمين الجميّل، باعتبار أن رئيس جمهورية لبنان يجب أن يكون واحداً من هؤلاء الأقوياء.
وتحت عنوان وصول “الرئيس القويّ” في بيئته احتفلت بكركي بوصول عون إلى بعبدا.
تبحث بكركي عن اسم مختلف هذه المرّة. وتؤكّد مصادرها أنّ كلّ من سرّب وكتب عن أسماء تدعمها بكركي، مثل كميل أبو سليمان وزياد بارود وغيرهما غير صحيح
فما الذي تغيّر اليوم حتى عادت بكركي نفسها وأسقطت ما اعتُبر “عودة مسيحية” إلى الحياة السياسية اللبنانية من خلال وصول “الرئيس الماروني القويّ إلى بعبدا”؟!
الراعي يغيّر المعادلة
“نرفض مع شعبنا التلاعب باستحقاق رئاسة الجمهوريّة. إنّنا نتمسّك بضرورة احترام هذا الاستحقاق في وقته الدستوريّ، وانتخاب رئيسٍ متمرِّسٍ سياسيّاً وصاحب خبرة، محترم وشجاع ومتجرِّد، رجل دولة حياديّ في نزاهته وملتزم في وطنيّته. ويكون فوق الاصطفافات والمحاور والأحزاب، ولا يشكّل تحدّياً لأحد، ويكون قادراً على ممارسة دور المرجعيّة الوطنيّة والدستوريّة والأخلاقيّة، وعلى جمع المتنازعين والشروع في وضع البلاد على طريق الإنقاذ الحقيقيِّ والتغيير الإيجابيّ. وتقتضي ظروف البلاد أن يتمّ انتخاب هذا الرئيس في بداية المهلة الدستوريّة لا في نهايتها ليطمئنّ الشعب وتستكين النفوس وتنتعش الآمال”.
بهذه الكلمات التي تضمّنتها عظة البطريرك أمس الأحد من الديمان، حدّد الراعي ثوابت بكركي في الاستحقاق الرئاسي المقبل… وكأنّ العظة كانت دفتر شروط على الرئيس المقبل أن يتطابق معها.
لا يتطابق دفتر الشروط هذا مع “بروفايل” رؤساء الأحزاب المسيحية، سمير جعجع وجبران باسيل وسليمان فرنجية وسامي الجميل. بل هو يلائم شخصية تسوويّة تكون قادرة على التفاهم مع الجميع، مؤمنة بضرورة تحييد لبنان عن الصراعات الخارجية، وهو الطرح الذي طالما دعت بكركي إلى تبنّيه داخلياً وخارجياً.
في المقبل من الأيام سنشهد ولادة مجموعة من الشخصيات النيابية والسياسية تحمل مبادرة “حياد لبنان”. على أن تعمل على مشروعها في لوبي داخلي وخارجي على حدّ سواء.
لا تريد بكركي للرئيس المقبل أن يكون بعيداً عن مبادئها التي سبق أن أكّدتها في أكثر من مناسبة منذ افترقت عن رئيس الجمهورية ميشال عون في مقاربة المشهد اللبناني.
اقتنعت بكركي أنّ تجربة عون فشلت لأنّه لم يكن على مسافة واحدة من الجميع، وسقط بوقوفه إلى جانب محور في مواجهة محور آخر. ولبكركي في الأساس ثوابت تتعلّق بالانفتاح اللبناني على محيطه العربي والخليجي وعلى الغرب، ولذلك اتّسعت حدود الشرخ مع سياسة عون.
بكركي لم تسمِّ أحداً
من هذا المنطلق، تبحث بكركي عن اسم مختلف هذه المرّة. وتؤكّد مصادرها أنّ كلّ من سرّب وكتب عن أسماء تدعمها بكركي، مثل كميل أبو سليمان وزياد بارود وغيرهما غير صحيح. فهي حتى الساعة لم تدخل في طرح الأسماء. بل هي تؤكّد على ما سبق أن أعلنه الراعي في مقابلة أجريت معه منذ حوالي عام ونصف العام على قناة “الجديد”، من سقوط مقولة الرئيس القويّ لأنّها أثبتت فشلها.
أمّا التمسّك بالمهل الدستورية، فهذا يقلّل من حظوظ قائد الجيش جوزيف عون بالوصول إلى الرئاسة لأن لا أحد يريد الدخول في تعديل دستوري.
إقرأ أيضاً: باسيل وفرنجيّة: “ماراتون بعبدا” يبدأ من اللقلوق!
أمّا في حال الدخول في فراغ فلن يحتاج عون إلى تعديل.
هكذا فتحت البطريركية المارونية المعركة الرئاسية من بابها العريض واضعةً دفتر شروط، فمن سيطابق المواصفات؟
بدأت رحلة البحث من دون أن تحطّ بعد على أيّ اسم.