لا صداقة دائمة في السياسة، ولا عداوة دائمة فيها. لكنّ ما يجعل الأمر سهلاً عندنا أنّ الذاكرة قصيرة جدّاً. فماذا لو عادت هذه الذاكرة إلى العمل؟
مرّ خبر عاديّ في الوكالة الوطنية للإعلام يوم الإثنين الماضي عن زيارة قام بها نائب رئيس مجلس النواب الياس بوصعب لدارة المصيطبة حيث استقبله الرئيس تمام سلام. لم يصرّح الأخير، بل صرّح الزائر عن تجربته في الحكومة التي رأسها سلام في أواخر عهد الرئيس ميشال سليمان عام 2014 حتى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016.
ما قاله بوصعب عن تلك التجربة هو التالي: “… أوّل ما عملت بالشأن العامّ كنت وزيراً في حكومة سلام. ولا أنكر في وقتها، كم تعلّمت في الحكومة، وكم كان دولة الرئيس واقفاً إلى جانبي بالأمور التي كنت أعمل عليها. إذ كنّا نضع الخلافات السياسية جانباً. كما كنّا نعمل لمصلحة لبنان والدولة. ورأيت أنّ دولة الرئيس إنسان وطنيّ ورجل دولة وقراره حرّ، وهذه من الصفات التي نبحث عنها نحن عندما نبحث عن قادة. لذلك لا بدّ لي من أن أقوم بزيارة لهذا البيت الكريم”.
هل هناك في تجربة بوصعب في الحكومة السلاميّة ما يمكن إضافته؟
ما هو مؤكّد أنّ جبران باسيل ما زال هو هو. ولو نال ما يطلبه حالياً، وهو مطلب العهد، من تشكيل حكومة تشبه حكومة الرئيس سلام، لعاود سيرته الأولى التي تقوم على المشاغبة
ذاكرة عبد الستار اللاز
في كتاب زميلنا الراحل عبد الستّار اللاز “الدولة المستضعَفة – تجربة حكومة “المصلحة الوطنية” وحقائق فترة الشغور الرئاسي”، توثيق لتجربة الرئيس سلام في الحكم انطلاقاً من أنّ الكاتب كان مستشاراً إعلاميّاً لرئيس الحكومة الأسبق.
بين دفّتَيْ هذا الكتاب معلومات عن الوزير السابق، قبل أن يصبح اليوم نائباً لرئيس مجلس النواب. تحت عنوان “مسرحية متلفزة” جاء في الكتاب:
“دخل جبران باسيل قاعة مجلس الوزراء كمن تأبّط شرّاً وإلى جانبه إلياس بوصعب الذي ارتضى لنفسه منذ تشكيل الحكومة دور الكومبارس المساند للنجم الأبرز محتكر أدوار البطولة.
على الرغم من لطفه وعلاقته الطيّبة مع جميع زملائه، درج بوصعب على افتعال الإشكالات داخل مجلس الوزراء ليمهّد الطريق لموقف يدلي به باسيل. يرفع صوته محتجّاً عندما يغضب وزير الخارجية، ويزايد عليه في المشاكسة والشغب، ولو بدا أداؤه، في أحيان كثيرة، مفتعَلاً ومفتقداً للجدّيّة والوقار.
لا يخفي أنّه من أصول “قومية سورية”، وأنّه تربّى على فكر أنطون سعادة. لكنّه لا يتردّد، حين يدقّ النفير العوني، في خلع رداء العلمانية التي قد تكون أبرز سمات العقيدة القومية السورية الاجتماعية، ليمتشق في وجه الخصوم أبشع أنواع الأسلحة الطائفية.
يفاخر بصداقته مع دولة الإمارات العربية المتحدة حيث أسّس الجامعة الأميركية في دبي، وصنع ثروة وأقام علاقات وثيقة مع كبار المسؤولين. ولا يرى ضيراً، في الوقت نفسه، في التحالف مع “حزب الله” الذي يتهجّم أمينه العام في كلّ مناسبة على دول الخليج العربي، ولا سيّما السعودية والإمارات.
مسرحية باسيل بكاميرا بوصعب
رفع بوصعب هاتفه الخلويّ، بمجرّد دخول المصوّرين قاعة مجلس الوزراء لأخذ بعض اللقطات قبل افتتاح الجلسة، وبدأ بتصوير المسرحية المتّفق عليها والتي شاهد اللبنانيون فصلاً منها على شاشاتهم.
جميل أن يكون بوصعب وفياً لرجل دولة مثل الرئيس سلام. لكن الأجمل لو كان اعتذر، وإن في غرفة مقفلة، عن “مسرحيات باسيل”، التي شارك بوصعب مراراً فيها
باغت باسيل رئيس الوزراء بالقول:
“دولة الرئيس، بموجب الدستور الفقرة 1-11 من المادة الـ 53 أطرح موضوع التعدّي على صلاحيات رئيس الجمهورية”.
“فوجئ رئيس الوزراء والوزراء. أدرك الصحافيون أنّهم أمام حدث غير عادي مختلِف عن البدايات التقليدية لمجلس الوزراء، فركّزوا كاميراتهم على مصدر الصوت. حاول سلام منع وزير الخارجية من المضيّ في ما يفعل، قائلاً إنّه لم يفتتح الجلسة بعد، ولم يعطه الإذن بالكلام، لكنّ باسيل لم يأبه وواصل عرضه. عندها ضرب سلام ضربته الشهيرة على الطاولة وقال غاضباً: “… رجاء أن تتمتّع بالأدب. لا مكان للمشاغبين بيننا….”.
“عند هذا الحدّ، أُخرج المصوّرون من القاعة لينقلوا إلى محطاتهم التلفزيونية على الفور وقائع هذا السجال الحادّ غير المسبوق. وما إن انتشر خبر الاشتباك تحرّك عشرات المحازبين العونيين، الذين كانوا ينتظرون الإشارة من مقرّهم في مبنى ميرنا الشالوحي…
“خلف الأبواب المغلقة، قال الرئيس سلام في الجلسة نفسها: “بالأمس من على منبر رسمي (وزارة الخارجية) أنتَ (باسيل) اتّهمت رئيس الحكومة بأنّه سارق موصوف. عيب عليك. إستحِ. إعرف حدودك.. احترمتك كثيراً… أنت تجعّر. تفضّل توجّه بهذا الجعير لجماهيرك وليس في مجلس الوزراء. لا مكان للجعير في مجلس الوزراء. عيب”.
تسوية الوزير نهاد المشنوق
“على الرغم من كلّ هذه الحماوة، انتهت الجلسة بتسوية ساهم في صنعها وزير الداخلية نهاد المشنوق، قضت بإقرار أحد بنود جدول الأعمال منعاً لكسر كلمة رئيس الوزراء، مقابل وعد أُعطيَ للوزراء العونيين بمناقشة آلية العمل داخل مجلس الوزراء في جلسة تُعقد بعد أسبوعين.
“جبران باسيل، في عرف سلام، هو الشخصية السياسية الأكثر إثارة للنفور في البلاد. الكلّ مجمع على ذلك، إلا الوصوليين الذين يريدون الإفادة من وجوده في مركز نفوذ”.
انتهت رواية كتاب “الدولة المستضعَفة” التي ترقى إلى مستوى المحضر. أغلب الظنّ أنّ دولة نائب رئيس مجلس النواب لم يقرأ كتاب الزميل عبد الستار اللاز. كما أنّ سلام، وفقاً لأصول الضيافة، ترك زائره يعبّر عن تجربته في تلك الحكومة. لكنّ هناك واقعة لم تسقط بمرور الزمن.
إقرأ أيضاً:
ماذا يُستفاد من هذه الواقعة؟
ما هو مؤكّد أنّ جبران باسيل ما زال هو هو. ولو نال ما يطلبه حالياً، وهو مطلب العهد، من تشكيل حكومة تشبه حكومة الرئيس سلام، لعاود سيرته الأولى التي تقوم على المشاغبة.
يبقى القول إنّ من أفضال الذاكرة والكتب، التي من بينها كتاب “الدولة المستضعَفة”، أنّها يجب أن تجنّبنا السقوط في الحفرة ذاتها مرّتين.
جميل أن يكون بوصعب وفياً لرجل دولة مثل الرئيس سلام. لكن الأجمل لو كان اعتذر، وإن في غرفة مقفلة، عن “مسرحيات باسيل”، التي شارك بوصعب مراراً فيها.