ستّ سنوات إلّا ثلاثة أشهر مرّت على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية لم يتغيّر خلالها لبنان وحسب، بل والمنطقة والعالم أيضاً، ولم تكن هذه المتغيّرات عاديّة، بل هي أشبه بانقلاب الأوضاع رأساً على عقب. يرجِّح كلّ ذلك ألّا تكون انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة كسابقتها، لا من حيث نوعيّة التسوية التي ستوصل الرئيس الجديد إلى قصر بعبدا، ولا من حيث “نوعيّة” هذا الرئيس بـ”خطّه” السياسي وخريطة تحالفاته وخصوماته.
صحيح أنّ البرلمان، الذي انتخب الرئيس عون بعد سنتين ونصف سنة من تعطيل الأخير وحلفائه لجلسات الانتخاب، قد تغيّرت توازناته، ولذلك لا يمكن توقّع انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفق السيناريو السياسي نفسه الذي جرت على أساسه الانتخابات الرئاسية في خريف 2016، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ المتغيّرات في المشهد البرلماني ليست سوى انعكاسٍ لمتغيّرات سياسيّة أعمق شهدها لبنان طوال السنوات الستّ من “العهد القويّ”، ولا سيّما منذ لحظة انفجار الأزمة الاقتصادية في 17 تشرين الأوّل 2019.
كلّ هذه المتغيّرات اللبنانية والإقليمية والدولية لا تغيِّر في معطى لبناني رئيسي يتّصل بانتخابات رئاسة الجمهورية، وهو أنّ حزب الله ما يزال، كما في عام 2016، الناخب الرئاسي الأوّل
لكن على الرغم من التحوّلات الدراماتيكية في المشهد السياسي، ولعلّ أبرزها انهيار الكيان السياسي السنّيّ الذي كان طرفاً رئيسياً في التسوية التي حقّقت حلم العماد عون وأنصاره بالرئاسة الأولى، فإنّ ثمّة ثابتاً وحيداً ومهمّاً في الانتخابات الرئاسية في عام 2016 والانتخابات الرئاسية المقبلة، ألا وهو بقاء حزب الله، الطرف الثاني الرئيسي في تسوية 2016 الرئاسية، الناخب الأوّل لرئيس الجمهورية.
التغييرات في المنطقة
هذا في لبنان، أمّا في المنطقة فإنّ المتغيّرات بين خريف 2016 واليوم ليست أقلّ أهميّة ودراماتيكية من المتغيّرات اللبنانية طوال الفترة نفسها. فانتخاب عون جاء في لحظة تحوُّل إقليمي عبّرت عنه بشكل رئيسي هزيمة المعارضة السورية في حلب أمام قوّات النظام السوري والميليشيات المدعومة من إيران بمؤازرة الطائرات الحربية الروسية. ولذلك فقد دلّ سقوط حلب على أمرين أساسيّين، أوّلهما عودة موسكو إلى المنطقة عبر البوّابة السورية وتكريس نفسها لاعباً رئيسياً فيها، وثانيهما استغلال إيران فرصة اتفاقها مع واشنطن حول برنامجها النووي سنة 2015 لتعزيز نفوذها في الإقليم والانخراط أكثر في صراعاته عبر إغداق الأموال والسلاح على ميليشياتها، سواء في سوريا أو اليمن، ناهيك بالعراق.
إلى ذلك أتى انتخاب عون في لحظة تحوّل دوليّة قبل أيّام من انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وهو الذي سرعان ما انتهج سياسة أميركية مغايرة تجاه إيران وصولاً إلى الانسحاب من الاتفاق النووي معها في عام 2018، الذي أدّى إلى استئسادٍ إيراني في طول المنطقة وعرضها ودفع المواجهة الأميركية – الإيرانية في ساحاتها، ومنها لبنان، إلى أقصاها.
عليه فإنّ التسوية السياسيّة التي أوصلت الرئيس عون إلى قصر بعبدا كانت تسوية هشّة، لا لأسباب داخلية متّصلة باختلال موازين القوّة بين أطرافها الرئيسيّين وحسب، بل لأنّها لم تحظَ بغطاء دولي وعربي متين. ولذلك فهي تحوّلت إلى فوزٍ إيرانيٍ صافٍ جعلها أحد عناوين المواجهة الإيرانية مع الغرب، وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية، ومع العرب، وبالتحديد المملكة العربية السعودية.
لبنان… ووساطة العراق
أمّا الآن فثمّة مسارات إقليمية ودولية مختلفة في المنطقة ستساهم زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لكلّ من إسرائيل والسعودية في بلورتها أكثر. صحيح أنّه لم يتمّ إحياء الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن، وأنّ حظوظ إحيائه في تراجع مستمرّ، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ وتيرة المواجهة الإيرانية – الأميركية في المنطقة تشهد تراجعاً ملحوظاً، حتّى إنّ أوساطاً قريبة من محور إيران تتحدّث عن تنظيم “اللااتفاق” بين الجانبين، وهو ما سينعكس مباشرة على مناطق النزاع بينهما، ومن بينها لبنان.
يمكن أن ينعكس أيضاً تقدُّم المحادثات بين الرياض وطهران بوساطة عراقية على لبنان، وتحديداً في انتخابات رئاسة الجمهورية بوصفها الاستحقاق الأكثر أهميّة الآن بالنظر إلى أنّ “نوعيّة” الرئيس الجديد ستحدّد ملامح المرحلة اللبنانية المقبلة. فإمّا أن تكون “شخصية” الرئيس الجديد ترجمةً للمناخات الإقليمية والدولية الجديدة في حال تبلورت أكثر، وإمّا أن تكون تعبيراً عن بقاء لبنان في دائرة المواجهة الإيرانية مع واشنطن والرياض، وهو أمر يبدو مستبعداً حتّى الآن وإن كان من الصعب توقّع مآلات التطوّرات في المنطقة. لكنّ الأكيد أنّ وتيرة المواجهة بين طهران من جهة، وواشنطن والرياض من جهة ثانية، لم تعد، كما في السنوات السابقة، في أعلى مستوياتها، وهذا ما تشير إليه بشكل أساسي الهدنة المستمرّة في اليمن منذ نحو ثلاثة أشهر.
يخضع الاستحقاق الرئاسي، من حيث إتمامه ضمن المهلة الدستورية المحدّدة له، ومن حيث طول أمد الفراغ في حال وقع، بالدرجة الأولى لمعايير حزب الله، سواء في “نوعيّة” الرئيس أو طبيعة التسوية التي ستأتي به
الناخب الأوّل
بيد أنّ كلّ هذه المتغيّرات اللبنانية والإقليمية والدولية لا تغيِّر في معطى لبناني رئيسي يتّصل بانتخابات رئاسة الجمهورية، وهو أنّ حزب الله ما يزال، كما في عام 2016، الناخب الرئاسي الأوّل. هذا يعني أنّه أيّاً تكن حسابات الحزب في ما يخصّ هذه الانتخابات بالنظر إلى المسارات الدولية والإقليمية الجديدة، وبالنظر أيضاً إلى وطأة الانهيار الاقتصادي الداخلي وشلل الدولة، فهو لا يمكنه القبول برئيس جديد لا يواليه في الملفّات الرئيسية طوال الولاية الرئاسية حتّى لو لم يكن هذا الرئيس من حلفاء الحزب المقرّبين. فإذا كان من الممكن للحزب أن يقبل بمرشّح “أقلّ ولاءً” من العماد عون، فهو بالتأكيد يريد رئيساً “أكثر ولاءً” من العماد ميشال سليمان!
لذلك يخضع الاستحقاق الرئاسي، من حيث إتمامه ضمن المهلة الدستورية المحدّدة له، ومن حيث طول أمد الفراغ في حال وقع، بالدرجة الأولى لمعايير حزب الله، سواء في “نوعيّة” الرئيس أو طبيعة التسوية التي ستأتي به، ولا سيّما أنّ أيّ تسوية رئاسية لا بدّ أن تشمل ترتيبات السلطة في مطلع العهد الجديد بدءاً من تشكيل الحكومة الجديدة.
لكنّ ثمّة سؤالاً يطرح نفسه هنا عن شركاء الحزب المحتملين في التسوية الرئاسية، ولا سيّما بعد “غياب” الرئيس سعد الحريري شريكه الأساسي في تسوية 2016 والذي لا يمكن أن يعوّض غيابه أيٌّ من الأفرقاء السياسيّين، لا بالنظر إلى شخص الحريري نفسه وإنّما باعتبار أنّ مركزَيْ الثقل السياسي – الطائفي في النظام اللبناني بعد الحرب هما “المكوّنان” السنّيّ والشيعي، فإذا بالأوّل ينهار أو يكاد، بينما الثاني يزداد قوّة وتماسكاً. لذلك لن تكون التسوية الرئاسية هذه المرّة داخليّة مئة في المئة، أو بالأحرى لن تكون عناصرها الداخلية مكتملة، بل ستكون تسوية هجينة داخلية – خارجية، مع ترجيح أن تلعب فرنسا دوراً رئيسياً فيها بأن تكون وسيطاً بين الحزب ومن ورائه إيران وبين واشنطن والرياض، على أن تكون لهذه التسوية بطبيعة الحال انعكاسات مباشرة داخل البرلمان لجهة خيارات النوّاب.
إقرأ أيضاً: لقاء قريب بين “فرنجية الرئيس” و”باسيل المختار”؟
يبقى أن لا شيء يضمن حصول تسوية كهذه على إجماع داخلي متين حتّى لو حظيت بتغطية عربية ودولية أفضل من تسوية 2016. وكما سبق القول ليست خارجيةً وحسب دوافعُ الحزب إلى الدخول في تسوية من هذا النوع، بل إنّ دوافعه الداخلية توازي أو حتى تتقدّم على دوافعه الخارجية باعتبار أنّ الحزب يحاول تقديم نفسه لاعباً إيجابياً على الساحة اللبنانية يسعى إلى إخراج لبنان من أزمته، وهو ما يؤكّده سلوكه وخطابه في ملفّ ترسيم الحدود البحرية جنوباً. لكنّ الحزب في المقابل لا يستطيع أن يغيّر، على نحو تامّ، سلوكه السياسي الداخلي الذي تطغى عليه ممارسات وأدبيّات الغلبة بوصفها أدوات تدلّ على حجم نفوذه في لبنان. وما دام هذا النفوذ لم يُترجَم في قلب الدستور والنظام، فإنّ الصراع في لبنان وعليه مستمرّ حتّى لو سلك مسارات أقلّ حدّة!