ألأنّ الرسّام ليس ملاكاً مقيماً في السماء كما كنّا نتوهّم؟
كان ذلك نوعاً من التهريج الذي صدّقناه في لحظة اختلطت فيها الحقائق علينا.
لقد توسّمنا في الفنّ، باعتباره مهنة نبيلة، الخيرَ كلّه. لم يكن ذلك فهماً صحيحاً. وهو ما تحقّق مع بداية الألفية الثالثة. يومذاك صحا المال ليجد مجالاً استثمارياً جديداً مفتوحاً أمامه. كان عليه أن يفتك بكلّ القيم التي توارثناها ليزيد من أرصدته. فرح رسّامون حين صارت لوحاتهم تُباع بأسعار هي ليست أسعارها الواقعية ولم يحتاطوا للمستقبل. تلك لعبة تجّار ضربت عرض الحائط بواقع كنّا نتعامل معه بهدوء ورويّة. لم تكن هناك سوق فنّيّة في العالم العربي حين حلّت المزادات العالمية لتكون وسيطاً بين الرسّامين ومقتني الأعمال الفنّية الذين كان جلّهم من العرب، وقد قرّروا أن ينتقلوا إلى الاستثمار في الفنّ، وهو فضاء اقتصادي جديد مجهول
صار الرسّام يوجّه أعماله إلى فئة بعينها. وهي فئة لا تنظر إلى الفن باعتباره موجِّهاً، بل هي تنظر إليه على أساس أنّه بضاعة
فجأة اكتشف الرسّام العربي أنّ رسومه يمكن أن تدرّ أموالاً هائلة في الوقت الذي كان كلّ شيء من حوله في حالة انهيار. لقد صار عليه أن يرسم من أجل سوق افتراضية بغية جذب مقتنين لا ينتمون إلى ثقافته. فَهُم أبناء سوق أخرى انتقلوا إلى الفنّ باعتباره مجالاً جديداً للاستثمار بمشورة من خبراء المزادات العالمية الذين أحدثوا فوضى في الأسعار لا يمكن التمييز من خلالها بين الصالح والطالح في ظلّ غياب نظرية نقدية عربية. فالنقد هُزِم في معركته مع المال، الخبراء الأجانب قرّروا أن يمحوا كلّ أثر لأيّة محاولة للنقد الفنّي يقوم بها كاتب عربي. ذلك لأنّ المسألة تتعلّق بالمال وليس بالجماليّات. لذلك شهدت العشرون سنة الماضية تسويق أعمال فنّية، الكثير منها لا يمثّل الرسم في العالم العربي في أرقى حالاته.
جعلوا الرسم “صنعة”
كان هناك الكثير من الخداع. وهو ما انعكس سلباً على المشهد، حيث صار الرسّامون بمنزلة صنّاع لدى أصحاب القاعات الفنّية، ينفّذون ما يُطلب منهم بناء على ما يحتاج إليه السوق. لقد فَقَد الرسّام حرّيته. هنا تألّق نجم رسّامين هم في الحقيقة قد تخلّوا عن دور المبدع الطليعي المتمرّد ليكون الواحد منهم صانعاً يلبّي طلبات صاحب القاعة الذي صار يمثّل في تلك الحالة المقتنين أو المستثمرين الذين كانت عيونهم تنظر إلى أموالهم أكثر ممّا تنظر إلى الأعمال الفنيّة. لا يهمّ ما تحدثه تلك الأعمال من استياء على مستوى التلقّي العامّ. فالجمهور بمعناه القديم لم يعُد موجوداً إلا في حدود الترويج للشائعات التي تتعلّق بمَن من الرسّامين يبيع أكثر من الآخرين ومَن تحظى أعماله بأعلى الأسعار. لقد انتقلت سلطة تحديد قيمة العمل الفنّي من النقّاد والجمهور إلى مجموعة ضيّقة من البشر الذين غالباً ما يديرون ظهورهم إلى الأعمال الفنيّة التي هي جزء من الفضاء الفنّي العامّ.
صار الرسّام يوجّه أعماله إلى فئة بعينها. وهي فئة لا تنظر إلى الفن باعتباره موجِّهاً، بل هي تنظر إليه على أساس أنّه بضاعة.
لقد تمّ تسويق الفنّانين على أساس كونهم مكمّلين وليسوا بناة. “هناك ما ينقصنا في الوجاهة، وما على الفنّانين سوى أن يقوموا بملئه”، ذلك هو المطلب الذي صار أصحاب القاعات يعملون على تنفيذه. هل كانت هناك حاجة إلى لوحات تُرى من أجل أن يتحقّق معنى جديد للحياة كما لو أنّ أحداً لم يعشه من قبل؟
إقرأ أيضاً: “أنت تشرق.. أنت تضيء”: رواية مصرية عن الغموض الفرعوني..
أعتقد أنّنا عدنا إلى مرحلة تكون فيها اللوحة ديكوراً ملحقاً بأثاث المنزل وحسب. بغضّ النظر عن الاستثمار فإنّ اللوحات لن تذهب إلى المصارف. هناك بيوت تتشبّه بالمصارف. يبالغ البعض اليوم بأهميّة مقتنياته الفنيّة وهو يدرك أنّ جزءاً من خزين الذاكرة الفنيّة العربية صار بين يديه من غير أن يفكّر في مصير الرسم.
“للحديث بقيّة”.
* كاتب عراقي