غادر الرئيس جو بايدن المنطقة. كانت زيارته للمملكة العربيّة السعودية، التي سبقتها زيارة لإسرائيل شملت توقّفاً في بيت لحم، مناسبةً لتأكيد أمر في غاية الأهمّية. يتمثّل هذا الأمر في أنّ أمن الطاقة على الصعيد العالمي يمرّ في الخليج العربي من جهة، ويحتاج إلى موقف رادع للمشروع التوسّعي الإيراني من جهة أخرى.
مرّة أخرى ظهرت على الصعيد الإقليمي، من خلال جولة بايدن والقمم التي انعقدت في جدّة، أهمّية العراق، صاحب الثروة النفطية الكبيرة، وخطورة الخلل الناجم عن غياب هذا البلد عن منظومة الردع الخليجية للطموحات الإيرانيّة. لا يزال العراق رهينة إيرانيّة على الرغم من أنّ أكثريّة الشعب العراقي تسعى في كلّ يوم إلى تأكيد رفضها لهذا الواقع.
مرّة أخرى ظهرت على الصعيد الإقليمي، من خلال جولة بايدن والقمم التي انعقدت في جدّة، أهمّية العراق، صاحب الثروة النفطية الكبيرة
ليس أفضل من مقتدى الصدر في التعبير عن هذا الرفض، خصوصاً عندما يقول إنّه لا مجال لقيام دولة في العراق ما دامت هناك ميليشيات تابعة لإيران منضوية تحت ما يسمّى “الحشد الشعبي”!
كان العراق حاضراً في قمّة جدّة. لا شكّ أنّ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي امتلك الكثير من اللباقة والدبلوماسيّة في خطابه السياسي، إن في جدّة أو قبل مغادرته بغداد إلى السعوديّة. شدّد في كلّ وقت على الدور الإقليمي للعراق كقوّة ترفض أن تكون في أيّ محور من المحاور، لكنّ السؤال: هل يُعتبر ذلك كافياً كي تتّخذ “الجمهوريّة الإسلاميّة” موقفاً إيجابياً يعترف بأنّ إيران هي إيران، وأنّ العراق هو العراق؟
من الواضح أنّ مجيء الكاظمي إلى جدّة حدث في غاية الأهمّية. لكنّ ذلك لا يُغني عن الاعتراف بأنّ الوصول إلى القرار العراقي المستقلّ مسألة في غاية الصعوبة في ظلّ التوجّه الإيراني الذي لا هدف له سوى تأكيد أنّ هناك أمراً واقعاً لا مجال لتجاوزه. يتمثّل هذا الأمر الواقع في أنّ العراق بات تحت الهيمنة الإيرانيّة منذ سلّمته إدارة جورج بوش الابن، في ربيع عام 2003، إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة”. لا يعود ذلك إلى السذاجة وقصر النظر اللذين تمتّع بهما بوش الابن وفريق عمله فحسب، بل إلى نظام عراقي تحكّم به كلّيّاً صدّام حسين، بعد عام 1979 أيضاً. لم يدرك صدّام شيئاً في يوم من الأيّام عن طبيعة التوازنات الإقليميّة والدوليّة. لم يعرف يوماً ماذا يدور في المنطقة وماذا يدور في العالم. ذهب العراق ضحيّة الجهل الأميركي والعقل التبسيطي لرجل جاء من الريف إلى المدينة ورفض أن يتعلّم شيئاً عن حقيقة ما يدور في المنطقة والعالم وكيف التعاطي مع الأحداث…
يستطيع مصطفى الكاظمي، من دون شكّ، لعب دور الوسيط بين إيران والسعوديّة واستضافة لقاءات بين الجانبين في بغداد، لكنّ الواضح أنّه لم يتمكّن، أقلّه إلى الآن من تحقيق أيّ خطوة كبيرة إلى أمام في العلاقة بين المملكة و”الجمهوريّة الإسلاميّة”
اللافت في مرحلة ما بعد التطوّرات الكبيرة التي يشهدها العالم منذ حرب أوكرانيا، زيادة العدوانية الإيرانيّة في كلّ الاتّجاهات. يأتي ذلك في وقت لم يعد سرّاً أنّ فلاديمير بوتين بات في حاجة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” أكثر من أيّ وقت وفي غير مكان وعلى غير صعيد.
تُظهر إيران عدوانيّتها في العراق أكثر من أيّ مكان آخر. يظلّ العراق بالنسبة إليها الجائزة الكبرى التي لا تستطيع التخلّي عنها بأيّ شكل. عطّلت إيران الحياة السياسيّة في العراق منذ نحو تسعة أشهر، أي منذ إجراء انتخابات نيابيّة لم ترُق لها نتائجها.
يستطيع مصطفى الكاظمي، من دون شكّ، لعب دور الوسيط بين إيران والسعوديّة واستضافة لقاءات بين الجانبين في بغداد، لكنّ الواضح أنّه لم يتمكّن، أقلّه إلى الآن، من تحقيق أيّ خطوة كبيرة إلى أمام في العلاقة بين المملكة و”الجمهوريّة الإسلاميّة”. جعل ذلك اللقاءات السعوديّة – الإيرانيّة أقرب إلى مفاوضات من أجل المفاوضات في ظلّ رغبة إيرانيّة في كسب الوقت ليس إلّا.
لم يكن مجيء رئيس الوزراء العراقي إلى جدّة تعبيراً عن رغبة عربيّة في استعادة العراق فقط. كان أيضاً تعبيراً عن خطوة أميركية تستهدف تصحيح خطأ تاريخي ارتكبه جورج بوش الابن واستكمله باراك أوباما. هناك سؤالان مطروحان في هذه المرحلة بالذات. يتعلّق السؤال الأوّل بهامش المناورة الذي يمتلكه مصطفى الكاظمي الحريص، في ما يبدو، على لعب العراق لدور متوازن على الصعيد الإقليمي. يتعلّق السؤال الآخر بمدى جدّيّة إدارة جو بايدن في وضع حدود لعدوانيّة إيران.
ليس سرّاً أنّ الكاظمي يواجه وضعاً عراقياً معقّداً على رأس حكومة مستقيلة منذ تسعة أشهر في ظلّ تجاذبات سياسيّة تعبّر عن حال من الفوضى لا تستفيد منها سوى إيران. ليست التسريبات الأخيرة لكلام صادر عن نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، سوى دليل على عمق التجاذبات الداخليّة العراقيّة. لم يكتفِ المالكي، وهو موالٍ لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” بتوجيه انتقادات شديدة إلى مقتدى الصدر ومهاجمة السنّة والأكراد. ذهب إلى أبعد من ذلك عندما اعترف بأنّه وراء إنشاء “الحشد الشعبي”، وأنّ الهدف من ذلك تكرار تجربة “الحرس الثوري” في إيران.
بوجود الإدارة الأميركيّة الحالية، يُخشى من غياب جدّيّة في التصدّي لإيران ومشروعها التوسّعي، خصوصاً أنّ بايدن نفسه سيجد نفسه في وضع لا يُحسد عليه بعد انتخابات مجلسَيْ الكونغرس في تشرين الثاني المقبل. توجد في واشنطن إدارة متردّدة لم تعِ يوماً خطورة المشروع التوسّعي الإيراني. لم تستفِق على أهمّية الخليج ودوره إلّا بعد حرب أوكرانيا ونشوء أزمة الطاقة العالميّة.
إقرأ أيضاً: أيّ أميركا عادت إلى المنطقة؟
في المقابل، يدعو إلى بعض التفاؤل وجود إرادة خليجية في لعب دور مستقلّ بعيداً عن نيّات إيران وما تثيره من تحدّيات. تصبّ هذه الإرادة الخليجية المدعومة من مصر والأردن بالسعي إلى استعادة العراق من دون إثارة الحساسيّات الإيرانيّة. ليس مشروع ربط العراق بشبكة الكهرباء الخليجية سوى دليل على تسهيل مهمّة الكاظمي، وهو شخص غير معادٍ لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، وتوسيع هامش المناورة العراقي تجاه طهران. هل مثل هذا الرهان على العراق ودوره المتوازن في محلّه؟ تصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال في وقت ستبذل إيران، عبر ميليشياتها العراقيّة، كلّ ما تستطيع كي يبقى البلد رهينة أخرى لديها على غرار حال سوريا ولبنان وجزء من اليمن…