زهرةُ الدّين: بين الرحيق… والعقص

مدة القراءة 5 د

هل يمكن أن يكون خطاب الكراهية خطاباً دينيّاً؟

وهل يمكن أن يكون الدين داعياً إلى الإرهاب ومحرّضاً عليه؟

في الإسلام كان ابن عربي يقول: “الحبّ ديني وإيماني”، وكان أبو بكر البغدادي يقتل ويدمّر على الهويّة الدينية.

في المسيحية يرفع البابا فرنسيس لواء الأخوّة الإنسانية مع إمام الأزهر، فيما دعا البابا أوربان الثاني إلى الحروب الصليبية.

في الهندوسيّة كان المهاتما غاندي يرفع شعار الـ”لاعنف” حتى ذهب ضحيّته على يد ممارِسي العنف، فيما يدعو زعيم الحزب الهندوسي نارندا مودي اليوم إلى استثناء المسلمين الهنود من حقّ المواطنة.

أثبتت الوقائع أنّه عندما تُقلَع أشواك الدبابير هنا وهناك وهنالك، تتحوّل العلاقات بين أهل الأديان إلى علاقات حبّ وصفاء

في البوذيّة يرفع مرجعها الروحي في التيبت شعارات المحبّة والتسامح واحترام كرامة الإنسان، فيما القيادة العسكرية في ميانمار، التي ارتكبت جريمة ضدّ الإنسانية بحقّ المسلمين، تواصل فصول هذه الجريمة بحقّ بقيّة أبناء الشعب المعارضين للحكم العسكري.

فأين الدين بين السلوك الإنساني المترفّع ونقيضه؟

يبدو الدين مثل زهرة فوّاحة يمتصّ رحيقَها العذبَ النحلُ والدبابير. تصنع النحلة من هذا الرحيق عسلاً فيه شفاء للناس. ويمدّ الرحيق ذاته الدبابير بالقوّة للعقص وإيذاء الناس. الزهرة واحدة. والرحيق واحد. كذلك الدين واحد وتعاليمه واحدة. ولكنّ النحلة ليست دبّوراً. كذلك فإنّ ابن عربي ليس بن لادن.

من هنا، ليست المشكلة في الدين الزهرة المعطاء، لكنّ المشكلة تكمن في التوظيف السيّء لهذا العطاء. وهو ما يتمثّل بقاعدة تقويله ما لم يقُله.

 

الرحيق.. والعقص

إنّ القاعدة العامّة هي تحويل الرحيق إلى عسل. والشواذ عن القاعدة، الذي يبقى جزءاً منها على الرغم من كونه شاذّاً، هو العقص، بمعناه الإرهابي وترجمته العدوانية، الذي عانت منه الإنسانية على مدى تاريخها، وما تزال حتى اليوم. يبدو أنّها ستبقى تواجه هذه المعاناة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. فالدبابير لن تتوقّف عن العقص. ومقوّلو الدين لن يتوقّفوا عن تحريف تعاليمه وتقويلها ما لم تقُله. إلّا أنّ ذلك لن يغيّر من طبيعة الرحيق الذي يتحوّل إلى عسل، ومن حاجة الإنسان إلى هذا الرحيق الديني لبلورة إنسانيّته والسموّ بها.

عندما تسيطر الدبابير على الزهرة الفوّاحة، يدعو بابا إلى الحروب الصليبية، ويرسم آخر خطّ اقتسام العالم القديم بين إسبانيا والبرتغال. ولكن عندما تعود الأولويّة للنحل المنتج للعسل، ترتفع نداءات المحبّة والأخوّة واحترام كرامة الإنسان، على النحو الذي حدث مع البابا يوحنا بولس الثاني الذي دعا المسيحيّين في لبنان إلى مشاركة المسلمين في صيام اليوم الأوّل من رمضان تكريساً للمشاركة الوطنية، ثمّ مع البابا الحالي فرنسيس، وقبلهما مع المجمع الفاتيكاني الثاني. وفي كلّ هذه الحالات كان الدين هو الدين، وكانت الزهرة هي الزهرة، وكان الرحيق هو الرحيق.

كذلك هو الأمر عندما تسيطر مثل هذه الدبابير على زهرة الإسلام الفوّاحة، إذ ينبري بن لادن لارتكاب جريمة التدمير الرهيب في نيويورك (مبنى التجارة العالمية)، وفي واشنطن (مبنى البنتاغون)، قاتلاً آلاف الأبرياء بصورة عشوائية، مع علمه (هل كان يعلم بالفعل؟) أنّ الإسلام يقول إنّ }من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً{ ]سورة المائدة، الآية 32[.

وينبري أيضاً أبو بكر البغدادي بعد سيطرته على الموصل وإعلان نفسه خليفة على المسلمين لسفك دماء الأبرياء من المسلمين ومن أهل الأديان الأخرى الذين استباح أرواحهم وممتلكاتهم ودور عباداتهم، مع علمه (وهل كان هو أيضاً يعلم حقّاً؟) أن لا إيمان بالإسلام مع إنكار المسيحية رسالة من عند الله، وأن لا إكراه في الدين، وأنّ الله، والله وحده، هو الذي يحكم بين الناس، ويوم القيامة فقط.

لقد أثبتت الوقائع أنّه عندما تُقلَع أشواك الدبابير هنا وهناك وهنالك، تتحوّل العلاقات بين أهل الأديان إلى علاقات حبّ وصفاء عذب. وهذا ما يجري اليوم تكريسه من خلال وثيقة الأخوّة الإنسانية التي وُقّعت بين بابا الفاتيكان فرنسيس، وإمام الأزهر الشيخ أحمد الطيّب. وكذلك من خلال الدعوة الإحيائية للمشترَك الإبراهيمي بين الإسلام والمسيحية واليهوديّة التي كرّسها البابا فرنسيس بزيارة مدينة أور في العراق، مسقط رأس خليل الله إبراهيم، عليه السلام.

يوجد في مدينة نابلس بالضفة الغربية من فلسطين مقام إبراهيم، عليه السلام، حيث يؤدّي الصلاة مؤمنون مسلمون ويهود يفصل بينهما جدار سميك من دبابير الكراهية والرفض، علماً بأنّ إبراهيم عليه السلام ما أعطى سوى العسل الصافي من الإيمان بالله الواحد، وكان مثلاً أعلى في التضحية حتى بأعزّ ما عنده تقرّباً وزلفى إلى الله.

غير أنّ العسل الإبراهيمي الجامع ما يزال يواجه عقص دبابير الكراهية والتطرّف الإلغائي للآخر.

إقرأ أيضاً: قصّة موسى وهارون.. قراءة جديدة في الدين والدولة

هنا أيضاً ليست المشكلة في زهرة الدين الفوّاحة بعطر الإيمان والرحمة والمحبّة، لكنّ المشكلة تكمن في الدبابير التي تعتقد أنّها تُحسن صنعاً بمحاولاتها احتكار هذا الرحيق. فبدلاً من التضحية كما مارسها إبراهيم، عليه السلام، تسود الكراهية إلى حدّ الإلغائية.

يبدأ فكّ الارتباط بين الدين والإرهاب بالتمييز بين مهمّة النحل ودور الدبابير حتى يصل عسل الإيمان إلى الناس جميعاً.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…