تثير الزيارة التي ينوي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان القيام بها لطهران بتاريخ 19 تموز الحالي، وتستمرّ ليوم واحد، الكثير من التساؤلات عن أهدافها وأبعادها، ولا سيّما من ناحية التوقيت والتأزّم الحاصل في العلاقات الثنائية والأجواء الإقليمية التي تواكبها. الخلافات السياسية والأمنية على رأس اللائحة، لكنّ الهدف الأوّل قد يكون محاولة رفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين الذي كان يُراد له أن يصل إلى 30 مليار دولار فذهب بالاتجاه المعاكس وخيّب آمال البلدين في الأعوام الاخيرة.
تأتي الزيارة أوّلاً بعد أيام فقط على مغادرة الرئيس الأميركي جو بايدن المنطقة، وثانياً في ظلّ توتّر العلاقات بين البلدين على إثر حرب التصريحات المتبادلة والانتقادات التي وجّهها إردوغان إلى الدور الإيراني في تأجيج أزمات المنطقة، والاصطفاف إلى جانب أرمينيا في حرب قره باغ قبل عامين، وبيوت الشعر التي قرأها عن نهر أراس وأغضبت القيادة الإيرانية، وثالثاً متزامنةً مع تطوّرات إقليمية حادّة ستكون لها تأثيراتها على خريطة التوازنات في المنطقة.
تبحث إيران لنفسها عن فرص جديدة، وأنقرة حذرة بعد صفحة العلاقات التي بنتها أخيراً مع دول الإقليم. الجامع المشترك، كما يُقال، هو البحث عن إنشاء آليّات تعاون مشتركة متعلّقة بالممرّات التجارية بين البلدين
أين تركيا من “الحلف الجوّي”؟
يقصد إردوغان طهران لبحث العلاقات الثنائية والملفّات الإقليمية، وبايدن ينهي زيارة ولقاءات مع قيادات فاعلة في الإقليم محورها الأول هو طهران وسياساتها التصعيدية في ملفّات سياسية وأمنية تُقلق أكثر من لاعب وتهدّد مصالحهم. يناقش الرئيس الأميركي خيارات وسبل إنشاء حلف أمني عسكري يجمع الدول المؤثّرة في المنطقة في مواجهة إيران، والرئيس التركي يزور طهران وسط حالة من الترقّب الحذر في رسم السياسات الجديدة حيالها. هو امتحان العلاقة مع طهران التي تسعى إلى لعب دور أكبر في المنطقة مستقويةً بتمدّدها ونفوذها في الإقليم.
كيف ستتصرّف القيادات التركية في المرحلة المقبلة حيال طهران التي تتسبّب بخلاف “أزمة كرم العنب” التي لا تنتهي وتفاعلت ووصلت إلى دول الشرق الأوسط والخليج وجنوب القوقاز وشرق المتوسط؟ كيف ستتصرّف أنقرة حيال الاصطفاف الجديد ضدّ إيران بتنسيق بين بعض العواصم العربية وإسرائيل وبرعاية أميركية؟ ألا يُقلق الصعود النووي الإيراني تركيا أيضاً، ويدفعها إلى الاستعداد لأخطار هذه المرحلة تماماً كما تفعل روسيا اليوم التي تلوّح في وجه الجميع بورقتها النووية للردّ على من يحاول اعتراض طريقها في أوكرانيا؟ ألا يزعجها أكثر أن ترى إسرائيل وإيران تلوّحان بمثل هذه الأوراق الاستراتيجية بينما هي والعديد من العواصم العربية تكتفي بالمناورة السياسية على خط طهران – تل أبيب؟
يظهر “حلف بغداد” بصناعة أميركية إلى العلن، لكن ضدّ إيران وليس ضدّ روسيا هذه المرّة. تركيا مطالَبة بحسم موقفها حيال ما يجري، وتحديد خياراتها لتأخذ من قطعة الجبن حصّتها.
لم يكن مسار العلاقات التركية الإيرانية موضع قلق وتساؤل بقدر ما هو عليه اليوم. لم تكن العلاقات عدائيّة ربّما، بل كان العكس هو الصحيح قبل 7 عقود في إطار “حلف بغداد” البريطاني، لكنّ سقوط نظام الشاه ووصول حكم الخميني إلى السلطة في أواخر السبعينيّات وما واكبه من تحوّلات في سياسات إيران الداخلية والخارجية وحالة الانسداد الحاصل مع قياداتها السياسية في ضوء لعبة التوازنات والمتغيّرات والاصطفافات في المنطقة، دفعت العلاقات نحو توتّر على أكثر من جبهة.
سيكون مستقبل العلاقات التركية الإيرانية، شئنا أم أبينا، تحت تأثير الملفّات الإقليمية السياسية والأمنيّة والاقتصادية قبل أن يكون تحت تأثير الخيارات والقرارات الثنائية. هناك معادلات وتوازنات جديدة تتشكّل، وهي تعني أنقرة وطهران في جميع الأحوال.
تركيا وإيران.. خصوم في سوريا
سيكون الملفّ السوري بين أبرز الملفّات التي تنتظر، وسيكون على رأس القضايا المطروحة على الطاولة. وقد أبدت طهران معارضتها لأيّ عملية عسكرية محتملة للجيش التركي في شمال سورية، معتبرة أنّها تُهدّد وحدة الأراضي السورية. وهناك ما ردّده وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته تركيا قبل أسبوعين، إذ قال إنّ بلاده جاهزة للوساطة بين تركيا والنظام السوري بعد زيارتين متتاليتين لدمشق وأنقرة. هناك أيضاً التحوّلات العربية والإقليمية في التعامل مع الملف السوري في ضوء التقارب التركي مع العديد من العواصم العربية التي تتابع عن قرب ما يجري في سوريا، مثل الإمارات والسعودية ومصر، والتقارب التركي الإسرائيلي الأخير الذي تُرجم عمليّاً على الأرض في مواجهة التمدّد الإيراني، والذي قد ينتقل إلى سوريا على الجبهتين الشمالية والجنوبية.
تبحث إيران لنفسها عن فرص جديدة، وأنقرة حذرة بعد صفحة العلاقات التي بنتها أخيراً مع دول الإقليم. الجامع المشترك، كما يُقال، هو البحث عن إنشاء آليّات تعاون مشتركة متعلّقة بالممرّات التجارية بين البلدين، والطريق التجاري الممتدّ من الإمارات إلى ميناء الإسكندرونة في تركيا عبر إيران، وخفض مدّة الشحن من 21 يوماً إلى أسبوع.
تجنّبت تركيا وإيران الصدام فيما بينهما على الرغم من خلافات ثنائية وإقليمية كثيرة. لكنّ تباعد المصالح الإقليمية الذي يسير باتجاه الالتحاق بمنظومات جديدة تتشكّل على الأرض، ولا سيّما في العلاقات التركية العربية والتركية الإسرائيلية، هو الذي سيحسم مسار العلاقات ومستقبلها، كما يبدو.
توغّل إيراني داخل تركيا
تميّزت العلاقات التركية – الإيرانية بصعودها وهبوطها، تحت رحمة أكثر من عامل حدّد لها مسارها ومستقبلها، لكن لا يمكن إنكار أنّ أجواء الزيارة تأتي مرفقة بظروف تختلف كثيراً عن الزيارات المتبادلة السابقة، إذ إنّها مرتبطة بتطوّرات الأوضاع في الشمال السوري وسط حديث عن ترقّب لعملية عسكرية تركيّة ضدّ مجموعات “قسد”.
يريد الداخل السياسي التركي أن يتأكّد ممّا ستقوم به القيادة الإيرانية أمام تطوّرات وتعقيدات المشهد السياسي والاقتصادي في البلدين، فهل تكون على استعداد لمراجعة سياساتها أم ستبدّد عشرات السنين من التنسيق والتعاون بين الجانبين اللذين وفّرا لهما الكثير من الفرص التجارية والماليّة والسياسية؟
تتمسّك طهران وأنقرة بصلابة العلاقات، لكنّ ملفّات وأزمات تطاردهما من كل صوب تقول عكس ذلك.
هل تنقذ تصريحات وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان التي أطلقها من تركيا في أواخر الشهر المنصرم عن أنّ “أمن تركيا من أمن إيران”، وأنّ طهران “لا تُكنُّ سوى التمنّيات الطيّبة للمنطقة، ولتركيا الصديقة والشقيقة”، المرحلة المقبلة من مسار العلاقات بين البلدين؟
طبعاً ليس هذا واحداً من الاحتمالات السهلة، على الرغم من الكثير من البراغماتية والالتفافات في العلاقات بين جارين تتقدّم الأمور بينهما وسط حقل من الألغام السياسية والأمنيّة والعقائدية وترجيحات التحالفات الصعبة.
يظهر “حلف بغداد” بصناعة أميركية إلى العلن، لكن ضدّ إيران وليس ضدّ روسيا هذه المرّة. تركيا مطالَبة بحسم موقفها حيال ما يجري، وتحديد خياراتها لتأخذ من قطعة الجبن حصّتها
تتحدّث أنقرة عن وجود تقارير أمنيّة تشير إلى تحرّك إيراني عدائي داخل الأراضي التركية عبر تحريك خلايا تجسّس والتخطيط لعمليّات تهدف إلى الضغط عليها بأكثر من اتجاه. وما زالت تقول طهران إنّ علاقات القوّتين ستظلّ بعيدة عن الخلافات والاختلافات والصدام المباشر.
لم يعُد مطروحاً اليوم السؤال: هل تنجح أنقرة في مساعدة طهران في تجاوز البرنامج النووي الإيراني وإيصاله إلى برّ الأمان؟ فأنقرة لم تعُد تعتمد دبلوماسية “اليد الممدودة” التي أصرّت عليها في الحوار الأميركي الإيراني لتجنيب المنطقة شبح الحرب. لم تُحسم المواجهة التركية الإيرانية في سوريا والعراق وفي ملفّات إقليمية حسّاسة، ولم تنتهِ. العكس هو الصحيح اليوم. باتت تركيا مقتنعة بأنّ إيران تستغلّ نفوذها بما يخالف مصالح الجميع في الإقليم، وأصبحت أسباب التصعيد لا تُعدّ. مَن سيقف إلى جانب مَن في مواجهة تركية إيرانية كانت تدور حتى الأمس القريب بشكل غير مباشر، وقد تتحوّل هذه المرّة إلى مواجهة كبيرة؟
تباعد في رؤية حرب أوكرانيا
تردّد طهران أنّ “تطوّرات كثيرة تشهدها المنطقة تفرض عليها التحرّك لمنع اشتعال أزمات جديدة”، لكنّ أنقرة هي التي اتّهمت إيران أكثر من مرّة بصبّ الزيت فوق النار، وبالوقوف وراء تأجيج هذه الأزمات. تكشف آخر الأنباء النقاب عن استعدادات إيرانية لبيع عشرات المسيَّرات لروسيا وتدريب جنودها على استخدامها في الحرب ضدّ أوكرانيا. لم تعُد الجغرافيا القريبة ساحة المنافسة والتباعد وتضارب المصالح.
هناك من يريد استرداد العلاقة مع أنقرة في الإقليم، لكنّ المسألة لا تنطبق على طهران. تريد أنقرة حماية مصالحها وعلاقاتها مع روسيا، لكنّ طهران اليوم هي الشريك والحليف الأقرب إلى موسكو في ملفّات سياسية واقتصادية وأمنيّة، مستفيدةً من التباعد والتوتّر الروسي مع الكثير من دول العالم.
فكيف ستحسم تركيا موقفها الجديد في لعبة خلط الأوراق؟
إقرأ أيضاً: بايدن يغازل الحزب… في الواشنطن بوست
ربما يشكّل قرار القمّة الثلاثية الروسية التركية الإيرانية المرتقبة في طهران، خلال زيارة الرئيس إردوغان، مفاجأةً قد تُبعد انفجار الجبهات مجدّداً في الشمال السوري، وقد ترفع من أسهم ما وُصف إيرانيّاً بوساطة على خط أنقرة – دمشق سترحّب بها روسيا حتماً. وربّما ستحمل معها المزيد من التعاون التجاري الإقليمي بين الدول الثلاث يخفّف حالة العزلة والمقاطعة التي يعاني منها الروس والإيرانيون. لكنّ خارطة التحالفات والاصطفافات التي تنتمي إليها تركيا والتي ثبّتتها قمّة الأطلسي وجولة بايدن وتضع البلدين أمام لوحة “انتبه منعطف خطر”، لن تساعد أنقرة على المضيّ وراء محاولة الدفع بالأمور بعيداً عن الحراك الذي اعتمدته في سياستها الخارجية الجديدة وعن جملة من المتغيّرات والتحوّلات الإقليمية والدولية التي حصلت في الأشهر الأخيرة.