لخّص الرئيس الأميركي جو بايدن المشهد القائم في لعبة التوازنات الغربية الروسية اليوم بقوله: “أراد بوتين تحييد كلّ أوروبا على الطريقة الفنلندية، لكنّه وصل إلى مفاجأة أطلسة أوروبا بكاملها”. أخذ بايدن أكثر ممّا كان يريد ويتوقّع بسبب الخدمة الكبيرة التي قدّمها له الرئيس الروسي في 24 شباط المنصرم بقراره مهاجمة أوكرانيا. هو دفع باريس وبرلين قبل غيرهما إلى الابتعاد مجدّداً عن مشروع بناء “الأمن الأوروبي الذاتي” الذي طُرح قبل سنوات، والعودة إلى الحضن الأميركي تحت غطاء الناتو بسرعة ومن دون تردّد.
تمكّنت واشنطن أيضاً من تسجيل انتصار سياسي دبلوماسي آخر بعدما نجحت في الالتفاف على موضوع الأزمة التركيّة مع السويد وفنلندا في مسألة تبديد قلقها الأمني قبل الموافقة على طلب ترشيحهما لعضويّة الحلف. يعتبر البعض أنّ الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ هو مَن نجح في إيجاد تسوية تُرضي الدول الثلاث عبر مخرج وثيقة التفاهم الموقّعة في مدريد قبل انطلاق أعمال القمّة. لكنّ الحقيقة هي أنّ البيت الأبيض هو مَن أدار اللعبة منذ البداية وحسم ذلك قبل ساعات من انطلاق الأعمال من خلال اتصال هاتفي بنظيره التركي رجب طيب إردوغان وإبلاغه أنّه سيكون سعيداً إذا ما عُقدت قمّة ثنائية بينهما على هامش قمّة الناتو لبحث العلاقات الثنائية والإقليمية. وبذلك يكون فريق عمل بايدن قد تمكّن من إسقاط أكثر من عصفور بحجر واحد: إرضاء أنقرة، وفتح الطريق أمام استوكهولم وهلسنكي، والانتقال بالقمّة إلى بحث وإقرار جدول الأعمال الذي تريده أميركا وتعدّ له منذ عامين تقريباً، ويتعلّق باستراتيجية الحلف للعقد المقبل.
هدف واشنطن هو بناء تكتّل أطلسي أكبر وأقوى في العقد المقبل في مواجهة روسيا والصين
أمن أوروبا الجماعي
إنّ كلمات رؤساء الوفود المشارِكة في قمّة مدريد ورسائل ستولتنبرغ الختامية ومضمون بنود استراتيجية الأمن الجماعي الأطلسي للسنوات المقبلة توجز نتائج أعمال وقرارات الدول الأعضاء في القمّة التاريخية، كما وصفها الجميع، كما يلي:
– روسيا هي المسؤول الأوّل والمباشر عن تعكير الأمن والاستقرار في أوروبا، وتحديداً لعبة التوازنات على خط بحر الشمال والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط والمناطق الواقعة بينها. وستكون مواجهة التهديد الروسي في مسائل الاختراق والتوغّل والانتشار والردّ العسكري على روسيا بين أبرز الضرورات والمتطلّبات.
– لا يمكن استبعاد احتمال استهداف روسيا للدول الأعضاء في الناتو في أيّ لحظة وتحت أيّة ذريعة. لذلك سيكون السلاح النووي بيد الشركاء، وتحديداً السلاح الأميركي، هو الضامن الأوّل والأهمّ لأمن دول الحلف.
– بين أهمّ إنجازات الحلف اليوم ما وصفه الأمين العام ينس ستولتنبرغ بـ”أكبر إصلاح شامل لقوّة دفاعنا الجماعي منذ الحرب الباردة”، الذي يقوم على زيادة عدد قوات الردّ السريع من 40 ألفاً إلى أكثر من 300 ألف جندي تكون حصّة أميركا الأولى والكبرى فيها.
– إعلان الرئيس بايدن نيّة بلاده تعزيز وجودها العسكري في القارّة الأوروبية بما يشمل إنشاء مركز قيادة عسكري دائم في بولونيا، علاوة على إرسال بوارج بحريّة عسكرية إلى إسبانيا، ومقاتلات إلى بريطانيا، وقوات برّيّة إلى رومانيا.
– تبنّي قناعة بأنّ عالماً جديداً أكثر خطورة يتشكّل، ومن الصعب التكهّن بمسار ومستقبل التوازنات فيه، وحماية الأمن الجماعي المشترك لدول الناتو وسط هذه المتغيّرات هي بين أولى الضرورات.
– الناتو سيفتح أبوابه أمام الراغبين في الانضمام من الدول شرط تبنّيها وقبولها لبنود ميثاقه المعلنة، وبحسب أولويّات وتراتبيّات حاجة الحلف إلى هذه العواصم.
أخطاء بوتين الحاسمة
لم تكن مسائل عضويّة السويد وفنلندا وميثاق حلف الناتو الجديد والتوازنات الإقليمية والدولية المرتقبة لتحظى بكلّ هذا الاهتمام والقلق لولا الخدمة الجبّارة التي قدّمها بوتين لبايدن قبل 4 أشهر عبر التوغّل في أراضي الجار الأوكراني. لو لم تنتشر القوات الروسية في العمق الأوكراني على هذا النحو لَما كانت استوكهولم وهلسنكي تراجعتا عن مواقفهما المعلنة في 25 شباط على لسان رئيسة الوزراء السويدية ماغدالينا آندرسون التي قالت إنّ بلادها لا تفكّر في العضوية الأطلسية، وفي 20 آذار على لسان الرئيس الفنلندي ساولي نينستو الذي قال إنّ التحاق بلاده بالحلف سيعقّد الأمور في أوروبا أكثر فأكثر.
كان مفاجئاً أن تغيّر أنقرة من مواقفها بهذا الشكل السريع وتتخلّى عن التشدّد الرافض لقبول عضوية السويد وفنلندا في الناتو قبل تجاوب البلدين مع جملة من الشروط والمطالب التي أعلنتها. فهل هو فعلاً مضمون الوثيقة الثلاثية، التي وُقّعت في العاصمة الإسبانية قبل ساعات فقط من انطلاق أعمال القمّة، الذي وصفه إردوغان بـ”انتصار الدبلوماسية”، بعد مقايضة الاستجابة لمطلب فتح الطريق أمام العضوية مقابل تعهّد سويديّ فنلنديّ بالتعامل بجدّيّة مع المطالب التركية قبل الدخول إلى قاعة التصويت النهائي على التوسعة؟ أم هي الوساطة الأطلسيّة التي أشرف عليها الأمين العامّ للحلف ينس ستولتنبرغ وأدّت إلى الطاولة الرباعية التي عُقدت على خط بروكسل – مدريد قبل القمّة بساعات على الرغم من أنّ الأمين العامّ لم يكن طرفاً في النص الموقّع بين الدول الثلاث؟
النسر الأميركي في حقول روسيا
كانت قناعتنا في أواخر أيار المنصرم أنّ ما يُنهي الأزمة بين أنقرة من جهة، والسويد وفنلندا من جهة أخرى، ليس دخول الأمين العامّ للحلف على الخطّ، بل الحوار التركي الأميركي المباشر في كلّ هذه النقاط الخلافية العالقة بينهما، وهذا ما حصل. من خلال الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي مع نظيره التركي بناءً على رغبة الأول. فقد أعقبه تفاهم على عقد لقاء ثنائي على هامش قمّة الناتو لبحث الكثير من الملفّات الثنائية والإقليمية. وبرزت قناعة تركية أخذت بنصيحة بايدن باستغلال الفرصة الاستراتيجية السانحة أمام تركيا لأخذ أكثر من مطلب وعدم إطالة مواجهة رغبة 29 دولة في التكتّل تريد أن ترى استوكهولم وهلسنكي تحت سقف واحد إلى جانبها في إطار استراتيجية أطلسيّة أمنيّة وعسكرية وسياسية جديدة لا يجوز لتركيا أن تعرقلها. هذا ما أوصل الجميع إلى الوقوف أمام قالب الحلوى والتقاط الصورة التذكارية لهذه اللحظات السعيدة.
لا يمكن إنكار جهود الكرملين، وبوتين تحديداً، في توحيد المواقف وتقريب وجهات النظر المتباعدة بين حلفاء الأطلسي. فالكرملين هو الذي يتحمّل مسؤولية إخراج الدبّ الروسي من غابته ليسهّل دخول النسر الأميركي إلى مزارع وحقول ومساحات استراتيجيّة جديدة مجاورة لروسيا. بوتين وحده يتحمّل مسؤولية إلزام شركاء وحلفاء أميركا بالتراجع عن فكرة الابتعاد عنها وتسهيل هيمنتها على القرار الأمني والسياسي الأوروبي، وإجلاسها، بعد عقود من الجهود والخطط الأوروبية من أجل استقلالية القرار، على رأس هرم البنية الأوروبية الاقتصادية والمالية والعسكرية لعقود طويلة مقبلة.
موسكو أيضاً تتحمّل مسؤولية فتح الطريق أمام مراجعة العقيدة الاستراتيجية للحلف، والتوغّل الأميركي من جديد في إيجه وشرق المتوسّط، وتفعيل اصطفافات المحاور في شرق أوروبا، وإشعال الضوء الأخضر أمام السويد وفنلندا، وإنجاز إكمال كلّ ذلك بالتحاق جورجيا بالحلف. فهل من تواطؤ أميركي روسي في ذلك؟
تفريق تركيا وروسيا وإيران
هدّدت روسيا العواصم الغربية بأنّ العالم سيتغيّر بعد خطوة قبول انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، وكان هناك حديث مشابه في معظم العواصم الغربية. لكنّ واشنطن هي من تحسم السجال مرّة أخرى: “لا حاجة إلى إطالة النقاش، فالخصوم والأعداء يتربّصون بنا، ولا مهرب من وضع روسيا على لوحة الأهداف في حقل الرماية الأطلسي، وستتبعها الصين في القريب العاجل في إطار اصطفاف دولي جديد”.
كان مفاجئاً أن تغيّر أنقرة من مواقفها بهذا الشكل السريع وتتخلّى عن التشدّد الرافض لقبول عضوية السويد وفنلندا في الناتو قبل تجاوب البلدين مع جملة من الشروط والمطالب التي أعلنتها
هدف واشنطن هو بناء تكتّل أطلسي أكبر وأقوى في العقد المقبل في مواجهة روسيا والصين: تسليح نوعيّ متطوّر جديد، غطاء نووي أوسع، جبهة شرقية أقوى على الحدود الروسية، إبعاد أنقرة أكثر فأكثر عن موسكو، تنسيق أمني استراتيجي أوسع مع إسرائيل واليابان، تحييد “البعبع” الإيراني في المنطقة. يبحث البيت الأبيض عن شركاء ومتعاونين جدد في إطار التوسعة الأطلسية باتجاه الجنوب لتحقيق أهداف العقيدة الأمنية الجديدة للحلف في منطقتنا هذه المرّة.
أمّا الطريق إلى ذلك فيمرّ عبر توتير العلاقات التركية الروسية والتركية الإيرانية بأسرع ما يكون، وإسقاط فرص التنسيق والتعاون بين الدول الثلاث في الملفّات الإقليمية، وهذا ما سيحاول أن يفعله بايدن خلال جولته المرتقبة في المنطقة. إنّ القمم واللقاءات الثنائية المتلاحقة، وإعلان طهران مبادرة تسوية سياسية بين أنقرة ودمشق، ونقل روسيا للمزيد من قوّاتها المظلّية إلى القامشلي، وتمسّك أنقرة بعمليّتها العسكرية الخامسة في شرق الفرات لحسم مسألة سلاح قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وسجون داعش في الحسكة، هي جزئيّات في محاولة مواجهة السياسة الأميركية. لكنّ واشنطن ستردّ على الردّ، وساحات المواجهة كثيرة ومتعدّدة حيث تتداخل المصالح والنفوذ مع العديد من دول الجوار الملزمة بخيارين لا ثالث لهما: إمّا التوجّه إلى الحضن الأميركي أو تحمّل أعباء ما سيجري.
دهاء كيسنجر مجدّداً
تُطلق بعض التحليلات الغربية توصيف “11 أيلول الأوروبي” على الحرب الروسية الأوكرانية. سيكون العقد المقبل في العلاقات الدولية أبعد من لعبة التوازنات الأميركية الروسية الكلاسيكية وسيناريوهات العودة إلى الحرب الباردة. هناك ملفّات الأمن الغذائي وأمن الطاقة والأمن العالمي. والعديد من القوى المؤثّرة في العالم ستبحث عن حماية مصالحها ونفوذها وسط خلط الأوراق الجديد. السيناريوهات السياسية والعسكرية والميدانية كثيرة ومتنوّعة، وهدفها هو توسيع رقعة الجبهات بأكثر من اتجاه. لن يكتفي الناتو بالقربان الأوكراني المقدَّم كضحيّة أولى في المواجهة الأميركية الروسية. فالبحث جارٍ عن ضحيّة ثانية وثالثة، والكثير من الأطراف يتحسّبون لهذه اللحظة.
إقرأ أيضاً: تركيا ولعبة شدّ الحبل الأطلسيّة
من هنا دخل الدبلوماسي الأميركي المخضرم هنري كيسنجر ونظريّته في دهاء التفاوض والمساومة “الغموض البنّاء” (Constructive Ambiguity) على الخطّ الآن. يحاول كلّ طرف أن يحمي موقعه أمام الطاولة ولا يريد التفريط بما في يده من أوراق من خلال عرض عضلاته ورفع مستوى الرهانات ملوّحاً بأنّه سيفاجىء الجميع.