I
نهضتُ من النوم مذعوراً.
ماذا أتى بأمير إلى هنا؟
لا أذكر من ذلك المنام سوى أنني خفت، فوجدتني أقفز من السرير وأضيء زر الكهرباء.
كان يقف كأحد شخوص أيقونة بيزنطية، محاطاً بهالة ذهبية حول رأسه، لكن عينيه ممحوتان.
مشهد العيون الممحوة جعل مفاصلي ترتعش خوفاً.
كانت الأيقونة التي يحتلها أمير ملتصقة بالجدار، وسمعتُ صوتاً خافتاً يقول انظر.
أغمضت عينَيّ فتحالكت فيهما العتمة، لكنني بدلاً من أن أرى أمير رأيت صورتي تنعكس على مرآة الأيقونة.
مَن أنت يا أمير؟ وماذا أتى بك إلى ليلي؟
فتحت عينيّ فرأيت شبحاً يحمل في يده مرآة ويضعها أمام وجهي، فرأيت عينَيّ تنطفئان، واجتاحني الوجع في محجرَيهما.
وعندما نجحت في فتح عينَيّ، رأيتني أمشي كالنائم إلى أوراقي حيث كان أمير مرسوماً بالكلمات.
كلمات تتخذ أشكالاً متنوعة، وهي تحاول أن تكتب حكاية.
وسمعت صوتاً يقول لي اقرأ.
حاولت أن أقرأ الحبر، فاجتاحتني العتمة.
عتمة الحبر هي كفن الحكي.
هل أكفّن الكلام حين أروي، أم أبحث لنفسي عن قبر من كلمات؟
II
سمّيته أمير، فشكله وإيقاع خطواته ولامبالاته جعلتني أراه خارجاً من رواية كي يروي ما عجزت رواية الكاتب الإسرائيلي / العراقي سامي ميخائيل “ملجأ” (Refuge) عن قوله.
عندما التقيت به أحسست بأنني أعرفه من زمان، لكنه كان مختلفاً عن صورته في ذاكرة قراءتي.
لماذ يخرج الأبطال من الكتب؟
هل لأنهم سئموا تكرار حكاياتهم في عيون القرّاء، فقرروا أن يستأنفوا حيواتهم ويعيشوا بشكل مختلف، راسمين لأنفسهم صوراً جديدة؟ أم لأن الكلمات كبرت بهم، فقرروا أن يعيشوا ويموتوا معها؟
أغمض عينَيّ فأراه طفلاً صغيراً وشقياً، أفتحهما فأراه رجلاً في الأربعين، أغمضهما من جديد فأرى أمه تقود سيارة عسكرية إسرائيلية وتتجول في النقب، أعيد فتحهما فأراها كهلة تقيم حاجزاً للحرية أمام المحسوم (الحاجز) الإسرائيلي. أتابع لعبة إغماض عينَيّ وفتحهما إلى ما لا نهاية، فيختلط الحاضر بالذاكرة، وتتحول الذاكرة إلى خيال.
أقول لأمير إن عليه أن يتوقف عن لعبته لأنها ستقوده إلى الموت، فيجيبني بأن لعبة الحياة الوحيدة هي الموت، ففي اللحظة التي سأخاف فيها من الموت سأخاف من الحياة، وعندها سأموت أو سأعيش ميتاً.
عندما التقيت به قلت هذا مرآتي.
أمير هو المرآة التي تمنيتها لنفسي.
رجل وسيم. منذ اللحظة الأولى أسرني ضوء خفيّ كان يشع من عينيه. لا يحقّ لي أن أختصر رجلاً بهيّ الطلعة، فارع الجسم، تحيط به هالة من الرجولة الخفية التي تستدعي أنوثة الماء، بكلمة وسيم.
لم أكن أعرف مَن هو حين جاء إلى مطعم “بالم تري” مع مجموعة من طلبة الجامعة، لكنني عرفته حين سمعته وهو يروي للمحيطين به حكاية أمه، وكيف ذهبت المرأة إلى منزل الكاتب الإسرائيلي الذي شوّه حكايتها وحكاية أولادها الثلاثة، وهددته ثم قامت بطبع ورقة نعوة تحمل اسم الكاتب وألصقتها على باب بيته.
“أنت أمير”، قلت وأنا أمد يدي مصافحاً.
“لا، أنا نعيم”، قال، “أمير أخي الكبير”.
“لكن اسم أمير يليق بك”، قلت.
“شكراً”، أجابني ضاحكاً وهو يصافحني.
خرج أمير من رواية سامي ميخائيل “ملجأ”، وها هو أمامي بعينَيه اللتين يلتمع فيهما ضوء الحياة.
هذا الضوء كان علامة الموت، عرفت ذلك منذ لقائنا الأول. فالرجل الأربعيني كان في حركاته وارتعاشات شفتيه، يبدو كأنه يصارع من أجل أن يفكّ أغلالاً خفية ملتصقة به.
اقترب مني وطلب كأساً من النبيذ، “نحن لا نبيع الكحول هنا في المطعم”، قلت.
“مَن قال أنني أريد أن أشتري، أريد كأساً.”
دخلت إلى المطبخ وصببتُ كأسَي فودكا وعدت إليه.
رفع كأسه وقال أنه يفضل النبيذ، وشرب معي نخب العدو.
“ومَن هو العدو؟” سألته.
“أنت وهذا المطعم”، قال بالعبرية.
الكلام القليل الذي دار بيننا حتى تلك اللحظة كان بالإنجليزية، لكن أمام كأس الفودكا تلاشت الإنجليزية وظهرت العبرية.
“بلا هالحركات”، قلت بالعربية، “إنت فلسطيني زيّي”.
لكنه تابع بالعبرية كأنه لم يسمعني، “أنت تتكلم مع رقيب في قوات المظليين في جيش الدفاع الإسرائيلي.”
ضحك وضحكت. لا أدري أين اختفت مجموعة الطلبة التي كانت تحيط به، صرنا وحدنا، أنا وهذا الرجل الذي قفز من رواية كنت قد قرأتها منذ أعوام بعيدة.
“أين نتابع السهرة؟” سألني.
قلت أنني متعب، وأريد أن أذهب إلى النوم.
“لا أحد ينام في نيويورك”، قال. “أنا متوتر ولن أستطيع النوم، غداً سيُعرض فيلمي في سينما (فيلم فوروم)، هل ستأتي؟”
قلت له أنني لا أحب الأفلام الوثائقية، لأنها تشوّه الواقع وهي تدّعي أنها تقدم صورة عنه.
“فيلمي ليس وثائقياً”، قال، “إنه ليس فيلماً، تعال وسَتَرَ.”
حضرت فيلم “أولاد آرنا”، في اليوم التالي. لم يكن الفيلم شبيهاً بالأفلام، كان احتفالاً بالموت.
كيف امتلك هذا الرجل الجرأة على أن يصنع فيلماً بهذه الرهافة الوحشية؟
عندما انطفأت الشاشة وأضيئت الصالة وبدأ النقاش، رأيت نفسي أنسحب بهدوء من المكان. لم أكن مستعداً للمشاركة في أي نقاش، فالكلام لا معنى له أمام مشاهد هؤلاء الأطفال الذين تحولوا من ممثلين على خشبة مسرح صنعته لهم امرأة اسمها آرنا مير وأطلقت عليه اسم مسرح الحرية، إلى شهداء مضرجين باليأس والبطولة.
وكان الفيلم عبارة عن سيرة شهداء يتساقطون داخل طفولتهم المكتظة بالأسى.
أظهرهم الفيلم كأطفال يكتشفون المسرح ويلهون بالحياة، ثم صوّرهم وهم يموتون واحداً بعد الآخر.
لم أشاهد في حياتي موتاً حقيقياً في الأفلام. الموت في الشاشة هو تمثيل للموت، نقتنع ونحن نشاهده بأنه حقيقي ونذرف الدموع، لكننا نعرف في قرارة أنفسنا أن الذي مات لم يمت، وهذا يجعل لحزننا نكهة المتعة السينمائية.
البكاء أمام العمل الفني تطهّر أبيض بلا دماء حقيقية، لعبة للمشاعر والانفعالات، ودعوة إلى التماهي الذي يغسلنا قبل أن يدخل في تلافيف النسيان.
لكنهم كانوا يموتون على الشاشة أمامنا.
وعندما أضيئت صالة السينما، صعد المخرج وحده إلى المسرح وسط عاصفة من التصفيق. توقعت أن يدعو المخرج الممثلين إلى الصعود معه، لكنه بقي وحيداً، وكان يمسح دموعه بمنديل ورقي. تكلم المخرج عن أبطال فيلمه الذين ماتوا في الحقيقة وليس على الشاشة مثلما يحدث في الأفلام، لكنني رفضت أن أقتنع.
تسمرت في مكاني وأنا أنتظر.
ودار النقاش الذي لم أستطع متابعته، فخرجت من قاعة السينما، وأنا مصاب بالذهول.
لم يعد هناك تمثيل، لأن الموت صار الممثل الوحيد.
لا أدري هل دلّه أحد على مكاني في مقهى لانتيرنا، أم جاء عن طريق المصادفة؟
كنت أجلس وحيداً في البار الجديد في الطبقة السفلية من المقهى. فيلم “أولاد آرنا” لجوليانو مير خميس قادني ليلة أمس إلى إعادة قراءة رواية سامي ميخائيل. لم أنم طوال الليل وأنا أتنقل بين صفحات الرواية وبين مشاهد الفيلم. قلت في نفسي إن هذا الروائي الإسرائيلي أضاع في روايته شخصية كبرى تستحق أن يُكتب لأجلها رواية كاملة تتغلغل في ثنايا حكايتها وتحمل دلالات إنسانية وتراجيدية، هي شخصية آرنا مير.
هربت من الرواية والفيلم إلى هذا المقهى النيويوركي، كي أعود إلى المدينة التي هاجرتُ إليها هرباً من الأشباح التي استحضرتها الكتابة، فإذا بي أجد نفسي أمام نسخة جديدة من هذا الماضي الذي قرر ألّا يمضي، وظهر لي مؤخراً على شكل شيطان أو جنيّ أمسكني من يدي، وأخذني مرغماً إلى حكايات هربت منها.
أنا لا علاقة لي بجنين ومذبحة مخيمها، إلّي فيني بكفيني. تكفيني مذبحة اللد، ويكفيني ليلي الذي احتله شبح هذا القسيس الأنكليكاني الذي أعادني إلى حيث قررت ألّا أعود.
مشى الرجل مباشرة إلى طاولتي.
“أهلاً أمير، تفضل.”
“أعتذرـ اضطريت أن أتأخر عن الموعد بسبب سماجة صحافي أميركي جاء ليقابلني، فتحولت المقابلة إلى ما يشبه العراك. هو يقول إن علاء ورفاقه إرهابيون، وأنا أقول إن الإرهابي هو مَن دمّر المخيم. أعتذر، أنا في العادة لا أتأخر عن مواعيدي.”
لم أدرِ بماذا أجيب، فأنا لم أهاتف الرجل وأتفق معه على موعد، كما أنني لا أملك رقم هاتفه كي أتصل به وأدعوه إلى كأس.
“كان صوتك مضطرباً ليل أمس حين اتصلت بي، وأنا تلبكت، إنت فاهم عليّ، كانت الساعة 11 ونص بالليل، وأنا كنت سكران ومعاي حدا، عشان هيك سكّرت الخط بسرعة.”
“مين علاء؟” سألته، وأنا عاجز عن التركيز. مَن اتصل به بالأمس؟ هل فقدتُ ذاكرتي، أم إن ذاكرتي صارت لعبة بيد شخص مجهول لا أعلم مَن هو؟
“علاء الصبّاغ، الشهيد بالفيلم”، قال. “معقول! حد بقول عن علاء يلّي هدم الجيش الإسرائيلي بيتو وهو عُمْرو تسع سنين، إنو إرهابي؟”
“أيوا”، قلت، وأنا أشعر بأنني في منام.
“شو عم تشرب”، سألني، “أُطلبلي كاس، ما لك زي السكران؟”
طلبت له كأس نبيذ أبيض، فكرعه دفعة واحدة، “إيش هادا، النبيذ يجب أن يكون أحمر بلون الدم.” رفع يده وطلب من النادلة كأسَي نبيذ فرنسي أحمر.
“يا نبيذ فرنسي أو لا نبيذ”، قال.
لا أذكر كم شربنا، لكنه بدأ النقاش بتصحيح معلوماتي.
“اسمع أنا ما اسمي أمير ولا نعيم، أنا جوليانو”، قال.
“بعرف”، قلت، “بس أنا أول مرة التقيت فيك كانت برواية سامي ميخائيل (ملجأ). أعدت قراءتها أمس بالإنجليزية لأنني لم أعثر على النسخة العبرية هنا، وعرفت فوراً أن المقصود هو صليبا خميس وزوجته آرنا وأولادهما الثلاثة، وفي الرواية كان اسمك أمير.”
“لا كان اسمي نعيم، أمير هو أخي.”
“أمير، نعيم، جوليانو، كله بيمشي.”
“لا بيمشيش”. التفت إليّ وقال: “صحيح، إنت إيش اسمك؟ هادي أول مرة بصادق فيها حدا من دون ما أعرف اسمو، أو من دون ما أكون متأكد من الاسم.”
“سمّيني زي ما بدك”، قلت، “كلّو بيمشي”.
“فهمت منك إنو اسمك آدم، صحيح؟”
“صحيح”، قلت، “محسوبك آدم، آدم دنون.”
“آدم! هادا اسم حقيقي أو اسم مستعار؟ قلّي الحقيقة.”
“الحقيقة أنا اسمي الياس خوري.”
نظر إليّ بتعجب، “إنت جايي تتخوت عليّ؟ الياس خوري بعرفو، وامبارح شربت معاه كاس في صالة السينما، وعمل تحليل غريب عن الفيلم، قال إن الفيلم مش عن جنين، الفيلم عن بيروت، وقال إن الفلسطينيين أخدوا معهم بيروت وحطوها بكل محل وإسّا ما عدش فيه بيروت ببيروت، وقال إنو عم يكتب رواية عن هادا الموضوع، وإشي من هالشكل.”
قلت له أنني أستطيع أن أكون مَن أشاء. ثم ما معنى الأسماء؟
“اسمع”، قال، “الأسماء بتتغير بمحلَّين بالأدب وبالسياسة، الكتّاب بغيروا أسماء الأبطال حتى يقدروا يلعبوا فيهم زي ما بدهم، هيك عمل فينا سامي ميخائيل. أمّا بالسياسة قصدي بالمقاومة فيا زلمي بتتعرف على واحد بقلك اسمو وبعد شوي بتكتشف إنو اسمو إشي تاني، هاي بسمّوها جماعتنا الفلسطينيين أسماء حركية، كأن الثورة بتصير قناع. تخيّل معي زعيم فلسطين ياسر عرفات لا اسمو ياسر ولا من دار عرفات، وهو بقول إنن من دار الحسيني، الله أعلم. وأفظع إشي إنو زعيم فلسطين بحكيش باللهجة الفلسطينية بيحكي مصري.”
“أحسنت”، أجبته، “بس إنت ناسي إشي تاني مهم، أولاد عمنا يهود إسرائيل لما أجوا على فلسطين تيأسّسوا دولتهم، كلهم غيروا أساميهم، قال بدهم أسماء عبرية، فضاعت العيل والسلالات، وما عاد تعرف مين هو مين. حتى اسم صاحبك سامي ميخائيل مش حقيقي، كان اسمو بالعراق كمال صلاح، وصار سمير مارد وقت كان يكتب باللغة العربية بجريدة (الاتحاد) بحيفا، ورجع غيّر لمّا قرر يصير إسرائيلي، بعد سنوات من الهجرة إلى إسرائيل.”
“هو كمان!” قال أمير أو جوليانو ضاحكاً، “العمى معدش فينا نصدق إشي.”
“حتى بيروت صارت مش ببيروت، على رأي صاحبك الكاتب اللبناني، ما فيش إشي حقيقي”، أجبته.
سكت جوليانو وسكتُّ، أحسست بأن هذا الحوار يقود إلى لامكان. ماذا أتى بهذا الرجل إلى المقهى؟ أنا لا أحب لقاء الأدباء والفنانين، فهم يصيبونك دائماً بخيبة أمل، ولا كاتب بيشبه الكتّاب، ولا ممثل بيعرف يحكي إلّا إذا كان عم بيمثّل. لكن كي أكون صادقاً يجب أن أقول إن هذا الرجل أدهشني، فهو أجمل من فيلمه، هذا إذا كان في استطاعتي أن أقول إن فيلم “أولاد آرنا” جميل، أو إنه فيلم.
“بلى”، قال، “هناك حقيقة واحدة اسمها الموت، موتنا هو حقيقتنا الوحيدة.”
قلت له إن فيلمه مجنون، “كيف يعني، ماذا أردت أن تقول؟”
حدّق جوليانو في عينيّ وقال: “اسمع، ما كان بدي أقول إشي، الفيلم هو رسالة حب لأمي، كان بدي أقلها إني اكتشفت بعد ما ماتت أني بحبها بشكل هستيري.”
وفجأة انتقل إلى الكلام بالعبرية:
“أَحْري شِهِي مِتا هِ?انتي شِأَهَ?ْتي أوتا بِتْسوراه هِسْتيريت”
“حَشَ?ْتي شِأَتا كوتِ? هِسْتورْيَا”، أجبته.
“هِسْتورْيَا أو هِسْتيرْيَا، زو هَشْئِلاه”، قال، وانفجر ضاحكاً.
انزلاقنا إلى العبرية سمح للحوار بأن يتخذ مساراً عبثياً، ففي العبرية كما في الإنجليزية هناك ما يشبه الجناس بين كلمتَي هستيريا وتاريخ (هيستوريا). تكلم الرجل عن اكتشافه حبّه الهستيري لأمه كدافع أساسي إلى صناعة فيلمه، بينما أوحى لي الفيلم بأنه محاولة لتأريخ تجربة الشباب في مخيم جنين، الذين انتقلوا من طفولة المسرح إلى مسرح الموت، خلال حصار المخيم وتدميره في سنة 2002. قال جوليانو إن الحب كان دافعه الوحيد إلى تأريخ حكاية أمه، ووضعها في سياق النضال ضد اللوثة الهستيرية التي ضربت هذه البلاد.
ضحك جوليانو حين حدثته عن التاريخ، وأعاد صوغ جملة هاملت بطريقة جديدة: “الهستوريا أو الهستيريا، هذا هو السؤال.”
ذهبنا من الفيلم إلى علاقة التاريخ بالهستيريا في بلادنا، وأنا في الحقيقة لا أوافق على تشبيه التاريخ بالهستيريا. صحيح أن هناك لحظات هستيرية في تاريخ العالم، وإلّا كيف نفسر الظاهرة النازية أو العنصرية البيضاء ضد سكان البلاد الأصليين في جنوب أفريقيا، أو الحروب الصليبية أو الحروب الدينية في أوروبا أو الغزوة الصهيونية لفلسطين أو إلى آخر ما لا آخر له؟ لكن الهستيريا لا تلخص التاريخ، فالتاريخ هو كناية عن صراع مديد من أجل الكرامة الإنسانية.
الحقيقة أنني لم أعد متأكداً من شيء، فحين روى جوليانو عن الكاتب اللبناني الذي طلع بنظرية عن انتقال بيروت إلى مخيم جنين، تيقنت بأننا نعيش في لحظة تحتلها الهستيريا.
“صاحبك الكاتب اللبناني مهستر، إيش علاقة جنين ببيروت؟” قلت.
“خيال”، قال، “هيك الأدب، أمّا أنا فلا علاقة لفيلمي بالخيال، فيلم حقيقي يخبّر الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان، عشان هيك رح يكون هادا فيلمي الأول والأخير، وإنت شو علاقتك بهالكاتب، وليش انتحلت اسمو؟”
لم أُجب لأني لا أعرف الجواب، الفكرة الوحيدة التي خطرت في بالي هي أن أقول إن الياس خوري هو مجرد اسم مستعار.
“اسم مستعار! إنت انجنيت، امبارح وهو عم يحكيني عن بيروت، جاب سيرتك وقلّي إنك بتكرهو وإنك بهدلتو بالسينما وقت عرض الفيلم الإسرائيلي وإشي من هالشكل. بس قال إنك بتعمل أطيب سندويشة فلافل بنيويورك، وخبّرني إنو اختراعاتك بفن إعداد السندويشات هي وسيلتك لغواية طالبات الجامعة، شو قصتك معو؟”
“ما فيش قصة، انسَ الموضوع”، قلت.
لم أروِ لجوليانو أنني التقيت بخليل أيوب، بطل رواية “باب الشمس”، وأن خليل روى لي الحكاية الحقيقية التي لا يعرفها مؤلف الرواية. خفت أن يعتقد جوليانو أنني مجنون، فغيرت الحديث، وأخبرته أن فيلمه رائع، وأن كلامه عن أمه جعلني أفهم الفيلم بطريقة مختلفة. “بتعرف كنت كل الفيلم عم ببكي، كل ما يموت حدا من الشباب كان قلبي ينخلع، بس إسا فهمت، الحكاية هي حكاية امرأة، هيك لازم تكون الحكايات، يا هي حكاية امرأة، يا ما فيش حكاية تستحق أن تُروى.”
“وحكاية أطفال، وقصة مسرح، وقصة علاء، ودمار مخيم”، قال.
تقول الحكاية إن آرنا مير هي الحكاية.
هل المرأة التي رأيتها في الفيلم هي المرأة نفسها التي قرأت عنها في رواية سامي ميخائيل؟
في الفيلم حملت آرنا اسمها الحقيقي، أمّا في الرواية فأطلق عليها المؤلف اسم شوشانا.
ما هي العلاقة بين المرأتين؟
في العادة يلجأ الكتّاب إلى محو أثر الشخصيات الحقيقية التي يستلهمونها في رواياتهم، لذا لا يبحث النقاد في العادة عن حقيقة الشخصيات الروائية لأن العثور عليها شبه مستحيل، فينصبّ اهتمامهم على دراسة الرواية بصفتها عالماً متكاملاً بذاته، حتى إن كانت تشكل مرآة المجتمع الذي كُتبت فيه.
لكن رواية سامي ميخائيل كانت أشبه بالفضيحة لأنها تحيل إلى شخصيات عامة ومعروفة في الوسطَين السياسي والثقافي: فتحي هو سميح القاسم، وإميل هو إميل توما، وإميليا هي خايا زوجته، وفخري هو محمود درويش، وفؤاد هو صليبا خميس، وشوشانا هي آرنا، وإلى آخره…
كأننا أمام عملية تصفية حساب مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي، يقوم بها مردوخ اليهودي العراقي المهاجر مكرهاً إلى إسرائيل، وهو هنا يجسد كاتب الرواية.
لماذا أطلق ميخائيل على “حسوت” أي “الملجأ” صفة رواية؟ ألم يكن من الأفضل أن يكتبها بشكل واضح كمذكرات؟
لا أفهم سبب إصرار بعض الكتّاب على وضع صفة رواية على ما يشبه المذكرات. هل يعتقدون أن الرواية كفنّ أكثر أهمية من المذكرات، أم إن اللجوء إلى الرواية هو أداة للتلاعب بالذاكرة، وإضافة مجموعة من الأحداث التي يعتقد الكاتب أنها صحيحة، لكنه لا يجروء على كتابتها كحقائق لأنها لم تحدث؟
هل الأدب هو فن الكذب؟
أجدادنا العرب جعلوا الكذب إحدى صفات الأدب اللازمة. فقُدامة بن جعفر الذي صكّ عبارة “أجمل الشعر أكذبه”، كان يشير إلى أن الأدب مصنوع من استعارات وكنايات ليست حقيقية لكنها توحي بالحقيقة، ولم يقصد طبعاً الكذب المباشر.
عندما قرأت هذه الرواية للمرة الأولى أحسست بالسأم، وشعرت بأن لعبة الكاتب في اللجوء إلى تغطية شخصيات حقيقية ومعروفة بحكاية استدعائه كاحتياطي في الجيش في حرب تشرين 1973 ليست موفقة، ولا تجعل من عمله رواية أو حتى شهادة على زمنه. إنها مجرد تعبير عن السخط على تجربته في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ومحاولة انخراط متأخرة وغير كاملة في المشروع الصهيوني، مع أن الكاتب بقي داعية سلام ورافضاً للاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع.
رواية “حسوت” هي عكس روايته “فيكتوريا”. يا للغرابة، كيف استطاع مَن كتب “فيكتوريا” بمناخاتها العراقية الجميلة أن يكتب هذه الرواية؟
أعتذر، لقد خرجت عن الموضوع ودخلت في تأملات لا مكان لها في الحكاية التي أحاول أن أرويها.
الحكاية اسمها آرنا.
يفتتح جوليانو فيلمه بامرأة كهلة تعتمر كوفية فلسطينية، وتقف في مواجهة “المحسوم” الإسرائيلي، وهي تدعو سيارات الفلسطينيين إلى عدم التوقف كي لا يتعرضوا لإذلال حواجز الاحتلال، ثم تأخذنا إلى مخيم جنين حيث تصرخ مع أطفالها بكلمة الحرية.
لماذا تلبسين الكوفية الفلسطينية، ومَن أنت يا آرنا؟
بدأت آرنا حياتها العملية وهي تلبس الكوفية على عادة شبان البالماخ خلال حرب “الاستقلال”، أي خلال حرب النكبة، وأنهت حياتها وهي تغطي رأسها بكوفية الفلسطينيين.
يا لطيف على الزمن، كيف يعيد صوغنا، كأن الذي كان لم يكن إلّا من أجل أن يصير إلى ما صار إليه، كأن كوفية البالماخ كانت تمريناً كي تُنهي المرأة حياتها، بتغطية رأسها الذي تساقط منه الشعر بسبب الجرعات الكيماوية، بكوفية الفدائيين، ويكون موتها بداية الموت الكبير في مخيم جنين.
مَن أنتِ يا آرنا؟
هل صحيح أن الفتاة اليهودية كانت تقود سيارة رحبعام زئيفي (غاندي) الذي انتهى عنصرياً وداعية إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم، وقُتل على يد مجموعة فدائية من الجبهة الشعبية رداً على اغتيال الأمين العام للجبهة أبو علي مصطفى من قبل الإسرائيليين؟
وهل صحيح أنها شاركت في عمليات تهجير البدو بين بئر السبع وأسدود؟ وأن مايا شقيقتها التي كانت تقود سيارة إسعاف تابعة للهاغاناه كانت شاهدة على مذبحة جامع دهمش في اللد؟
ولماذا حين ماتت لم تجد قبراً؟
عندما روى جوليانو عن أمه التمعت عيناه بالدموع وهو يحكي عن القبر المستحيل. “أمي من روش بينا، وكان من المنطقي أن ندفنها هناك، لكنهم رفضوا، اعتبروها خائنة، وبعدين مفش قبر، بقيتْ ثلاثة أيام بلا دفن، فقررت أعمل مؤتمر صحافي وأعلن أني سأدفنها في الحديقة، فتدخّل بعض قدامى اليساريين من راموت منشه، ودفناها هناك.”
ابتسم جوليانو بحزن وقال لي: “بكرا رح تواجه مرتي مشكلة مشابهة، ومش رح يعرفوا وين يدفنوني أنا كمان.”
قلت له إن أمي أيضاً لم يجدوا لها قبراً فتركوها مرمية تحت شجرة زيتون. ففي رحلة التيه وسط الوعر وشمس تموز، لم يجد أهل اللد مكاناً يدفنون فيه موتاهم الذين تساقطوا عطشاً وقهراً وتعباً. فكانوا يتركون الموتى في الوعر وتكمل قافلة التائهين طريقها إلى المجهول.
“أمك؟”
لماذا اختارت امرأة إسرائيلية هاجر والدها الطبيب من لاتفيا إلى فلسطين أن تموت بلا قبر، وأن تجعل من مخيم جنين بيتها؟ المخيم صار قبراً لعشرات ضحايا الاجتياح الإسرائيلي في سنة 2002، غير أن هذا القبر لم يكن لها ولن يكون لابنها.
“نعم أمي”، قلت له. “اسأل خالتك مايا عن اللد وموتاها.”
“والله لم أعرف بمذبحة دهمش إلّا في السجن، حين روى لي فدائي من الجبهة الشعبية ويقيم في مخيم الجلزون حكاية أفراد عائلته الذين التصقت أشلاؤهم بحيطان جامع دهمش. الشاب كان في التاسعة من العمر، ولم يمت، قال أنه خرج من تحت الجثث يتيماً ووحيداً، فانتهى به الأمر في مخيم الجلزون.”
“إيش اسمو؟” سألته.
“اسمو صبحي الأسمر، وهو محكوم بثلاثة مؤبدات. صبحي صار بمثابة أخي، وهو مَن روى لي كل شيء، بس يا حرام، قال لي إنو بخاف من النوم، لأنو في منام واحد بضل يلاحقو، بشوف حالو عم يقشط الجثث عن الحيطان.”
“وإنت إيش أخدك على السجن؟” سألته.
“روّق عليّ، خليني أخبّرك عن أمي، وبعدين منحكي عن السجن.”
روى جوليانو عن جده الطبيب الذي كان لقبه في موشاف روش بينا، الذي يقع في الجليل قرب صفد والجاعونة، “دكتور ببلاش”، لأنه كان يعالج مرضاه مجاناً. “هاجر جدي من لاتفيا إلى فلسطين في العشرينيات وبدأ حياته بمعالجة بدو المنطقة، وقد نجح البروفسور مير في صنع تحويل على الـ د.د.ت. كي يلائم مكافحة الملاريا في الحولة. خدم جدي طبيباً في الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، وصار مقاتلاً في الهاغاناه، وهو الذي نظم القوات اليهودية في روش بينا. أمّا أمي فحكاية أُخرى.”
قال جوليانو إن أمه اكتشفت الهول حين التحقت بالبالماخ، قوات النخبة في الهاغاناه. “أمي كانت في شبيبة حزب المبام، وكان حزباً ماركسياً صهيونياً على يسار حزب العمل. وفي البالماخ فوجئت بأوامر طرد البدو في منطقة بئر السبع إلى خارج حدود الدولة. نفذت أمي الأوامر بلا تردد، فهي كانت تعمل في موقع القرار كسائقة لغاندي. قالت إن غاندي كان يقاتل وهو يشعر بالنشوة، ومعه اكتشفَتْ نشوة الدم. كان يقول لنا إن على اليهودي الجديد أن يَقتل لا أن يُقتل، وأن يَذل لا أن يُذل.”
لكن حكاية آرنا اتخذت مساراً آخر حين التقت بصليبا خميس، الشيوعي الفلسطيني. “أبوك رغم كل الأخطاء يلّي ارتكبها، هو يلّي فتح لي عيوني لمّا التقيت فيه بالصدفة بتجمُّع للشيوعيين بخرائب قرية الجاعونة.”
روى جوليانو أن أمه أصيبت بالذهول وهي ترى كيف تمدد موشاف روش بينا وابتلع الجاعونة. “اكتشفت أن العديد من سكان روش بينا سكنوا في البيوت الحجرية التي طُرد منها أصحابها في الجاعونة، هذا لا يجوز. رفاقنا في المبام احتجّوا، بس بن – غوريون لم يبالِ، جلبوا باصات وطردوا الناس بالركل والشتائم والإهانات والوعيد. بن – غوريون قال إن هناك أسبابا أمنية، وإنه يجب تطهير القرى الحدودية من العرب. هل تتخيل يا ابني؟ نحن، اليهود المطرودين من بيوتنا، نطرد أهل القرية ونسكن مكانهم، معقول هيك؟”
“بس يمّا إنتي ساهمتِ بطرد بدو النقب”، قال جوليانو.
“اسمع يا ابني أنا لم أفهم ماذا كان يجري، ففي تلك الأيام لبستنا غريزة قايين، نعم نحن أولاد قايين ولسنا أولاد إسحق، إسحق هو الخروف الذي ذبحه قايين.”
روت آرنا أن هناك وسط بيوت الجاعونة الحجرية، وأمام خرائبها، قررت أن عليها أن تغادر المبام وتنضم إلى ماكي، أي إلى الحزب الشيوعي الذي قادتها إليه عينا صليبا خميس.
قالت أنها ناقشت الموضوع مع والدها الدكتور مير، وإن الطبيب كان في تلك الأثناء مصاباً بالإحباط بسبب مأساة المهاجرين اليمنيين الفقراء الذين استُقدموا لتجفيف بحيرة الحولة، ومات منهم الكثيرون.
قالت إن دولة الأشكناز لم تكتفِ بإرسال يهود اليمن إلى حتفهم، وإنما قامت بخطف أولادهم وبيعهم لعائلات يهودية في أميركا.
“شو هالخرافية البتتصدقش”، قال جوليانو.
“في تلك الأيام لم أصدق أبي، ثم بدأت الحقيقة تظهر على شكل فضيحة. تخيل كانوا يرشونهم بالـ د. د. ت. لما ينزلوا من الطيارات ويقصون لهم شعرهم وجدائلهم بالقوة قبل إرسالهم إلى الموت.”
“هذا الـ د. د. ت. العجيب إلّي صنعوا جدي الطبيب؟” سألها جوليانو.
“لا، جدك لا علاقة له.”
أردت أن أسأله عن اللغة التي كان يتخاطب بها مع أمه.
ضحك جوليانو وقال أنه عندما قرر أنه يهودي كانا يحكيان بالعبرية، ولمّا صار عربي صار هو يحكي بالعربية وهي تجاوب بالعبرية.
“وهلق إنت إيش؟” سألته.
“أنا عربي فلسطيني مئة في المئة ويهودي مئة في المئة”، أجابني.
وعندما سمع صمت حيرتي ضحك وقال: “هاي صعبة تفهمها، الحقيقة ما حدش فهم معناتها، بس أنا هيك بحس.”
كنا نجلس في البار ونحتسي النبيذ الأحمر.
“ألست جائعاً؟” سألته.
“الحكي بنسّي الجوع”، قال، “صحيح والله جعت، أُطلبلنا إشي.”
وضعت النادلة أمامنا طعاماً سريعاً مؤلفاً من صحن أجبان ولحوم باردة، لكن جوليانو بدلاً من أن يأكل سألني لماذا جَرَّيْتُه إلى الكلام عن أمه، “الفيلم بيكفي”، قال.
قلت له أنني قرأت نتفاً من قصة أمه وقصة أولادها وزوجها في رواية سامي ميخائيل، وأردت أن أتأكد من بعض المعلومات.
“اسمعني منيح”، قال، “هذه رواية منسية، أعتقد أن كاتبها نفسه قرر أن ينساها بعدما فعلت آرنا ما فعلته.” قال إن آرنا عندما قرأت الرواية قامت بطبع ورقة نعوة ووضعتها على باب منزل الكاتب. وفي الصباح عندما قرأ الكاتب إعلانه ميتاً على باب منزله، غطى خوفه بالغضب، وذهب إلى إميل حبيبي يشكو له الشيوعيين وهو يحمل الورقة في يده، “وفيك تتخيل شو عمل أبو سلام، بالأول ادّعى إنه غاضب وشتم آرنا وقال إن لا علاقة لهذه المرأة المجنونة بالحزب الشيوعي، ثم انفجرت فيه طبيعته الساخرة، (والله هادي فكرة لم تخطر لي، تستطيع يا صديقي أن تستخدمها مدخلاً للكتابة عن متشائل إسرائيلي، أنا كتبت المتشائل الفلسطيني والآن جاء دور اليهود كي يتشاءلوا).”
آرنا الفيلم لا تشبه شوشانا أو آرنا الرواية سوى في وضعيتها كامرأة يهودية متزوجة من رجل فلسطيني نصراني، ولها منه ثلاثة أبناء، وفي أنها أقامت مع زوجها فترة في براغ حيث شهدت ربيع براغ في سنة 1968 الذي حطمته الدبابات السوفياتية، وفي أنها عانت جرّاء القطيعة مع أهلها فترة طويلة. لحظة شوشانا في الرواية هي لحظة امرأة نادمة، تستعيد مع صديقتها شولا انتماء يهودياً حُرمتا منه بسبب انتمائهما الشيوعي، بينما تقدّم آرنا في الفيلم صورة للمرأة المناضلة التي أسست مسرحاً للأطفال في مخيم جنين، وساهمت في تنمية بذور المقاومة والحرية في المخيم.
سامي ميخائيل قدم صورة لآرنا تختلف عن الصورة التي قدمها ابنها جوليانو في الفيلم.
“اسمع”، قلت له، “أريد أن أعرف الحقيقة.”
“أي حقيقة يا زلمة، هل يمكن أن تصدق حكاية الشاعر فتحي الذي رافق شقيق خطيبته وصفي في زيارته لمخيم جنين، مع تلك الصورة الاستشراقية النمطية التي قدمها وصفي عن أهل المخيم؟ معقول كاتب عراقي ويستشرق علينا، شو هاللعبة التي تشير إلى نقص حاد في الخيال؟ معقولة هذه الصورة الشوهاء التي قدمها عن سميح القاسم؟ بعرفش كيف سميح سكت، بس آرنا ما قدرتش تسكت.”
“وأنت، هل صحيح أنك هددت كهلاً يهودياً خلال حرب تشرين؟”
“اسمع نحن ثلاثة أولاد: سبارتاك وجوليانو وأبير، أمّا في الرواية فصارت أسماؤنا: فيكتور وأمير ونعيم، هذه بسيطة، أمّا أن يصفنا بعائلة مجانين، ويؤلف عني قصة الإسرائيلي الكهل، فهذا زعبرة. الحقيقة أنه بعد نهاية حرب حزيران 1967، عندما ضرب المصريون المدمرة الإسرائيلية إيلات، ركضت إلى البيت صاعداً الدرج وأنا أصرخ بابا بابا ضربوا إيلات، فسمعني جارنا الذي كان في البحرية الإسرائيلية، فضربني وكسر يدي. أمّا حكاية الكهل الذي ساعدته على النزول إلى الملجأ خلال حرب تشرين، ثم عندما سألني عن اسمي أجبته محمد، فأصيب بالجنون، وبدأ يشتمني، عندها هددته بالقتل، فازداد صراخاً بحيث اجتمع علينا الشارع وكادوا يهمّون بقتلي، فلم تحدث.”
“لكن أين المشكلة؟ كتب الرجل رواية وتخيل الأشياء، لماذا هذا الموقف من الأدب؟”
“اسمع”، قال لي، “المسألة أعمق من ذلك، هذا الكتاب هو محاولة لتحطيم صورة العرب الفلسطينيين. كان يريد تهشيم صورة صليبا وآرنا اللذين عاشا المأساة في حياتهما اليومية، فقام بتحويل المأساة إلى مسخرة.”
أحسست بالتعاطف مع جوليانو، لكن ملاحظاتي عن الكتاب مختلفة، فأنا أعتقد أن مهمة الكاتب هي أن يقوم بإضافة أبعاد إنسانية جديدة على شخصياته، حتى لو استلّها من حياته اليومية، ومشكلة هذا الكتاب المليء بالحوار إلى حد الاختناق، أنه بدلاً من ذلك قدم شخصياته بصورة سطحية وكاريكاتورية.
وحدها شخصية مردوخ الذي عانى التعذيب في السجون العراقية، تحمل بعداً تراجيدياً يستحق أن تخصَّص له رواية تبدأ بالـ د. د. ت. في مطار اللد، وتذهب إلى المعبروت، قبل أن تصل إلى حيفا. لكن المؤلف اكتفى برسم ملامح هذه الشخصية، وسط لوحة غير متناسقة، ولولا طفله إيدو ذو الحاجات الخاصة، لبدت الرواية بأسرها أشبه بحكاية رجل يعاني عقدة نقص في هويته الصهيونية.
أردت أن أقول لجوليانو إن مواقف آرنا وسبارتاك المؤيدة لربيع براغ يعرفها الجميع، وإنها قادت إلى عاصفة من النقاش في الحزب الشيوعي، ويحقّ للكاتب أن يستخدمها في روايته.
لكنني لم أقل. احترمت غضب صديقي ولم أعلّق على كلامه.
“والله أنا أعتقد أن سامي ميخائيل قدم خدمة لآرنا لأنه دلّها على الطريق إلى مخيم جنين من خلال كراهية وصفي للمخيم واحتقاره لأهله.”
V
الطريق إلى جنين كان لها مسار آخر.
قال جوليانو إن الطريق إلى جنين كان مختلفاً، والافتراض أننا ذهبنا إلى جنين لأن أمي أرادت تمزيق صورة وصفي، خطأٌ ولا علاقة له بالموضوع. اعتبرت آرنا أنها أخذت بثأرها من كاتب حوّلها إلى شبه خادمة وشحاذة، عندما وضعت ورقة نعيه على باب بيته، أمّا أنا فلا.
أنا حالة صعبة، قال الرجل.
عندما مثلتُ شخصية عُطيل في مسرحية شكسبير، أصيبت الممثلة الإسرائيلية التي لعبت دور ديزدمونة بالرعب، لأنها اعتقدت أنني سأقتلها فعلاً.
فالشخصية التي أتقمصها على المسرح تتقمصني، وعندما صرت عُطيلاً وهممت بقتل المرأة الخائنة، تكلمت بالعربية، وهذا ما أثار موجة إعجاب في المسرح في تل أبيب، لكنني لم أكن أبحث عن الإعجاب، كنت أبحث عن نفسي.
وعندما سألني المخرج عن اللغة التي تكلمتها قلت له إن عُطيل لا يتكلم العبرية، لأنه عربي.
“لكن شكسبير جعله يتكلم بالإنجليزية”، أجابني.
“شكسبير شيء آخر، أمّا هنا فلا يستطيع عُطيل سوى التكلم بلغته الأم”، قلت.
بين حيرة المخرج وخوف الممثلة، كانت نفسي تائهة بين عالمين. أمي قررت أن يهوديتها هي استمرار للمنفى اليهودي الذي هو في جوهره منفى وجودي ولا علاقة له بفكرة العودة إلى الأرض. أمي كانت اليهودية المضطهدة التي شعرت بأن عقدة المضطهَد التي تعانيها كيهودية امتزجت بعقدة المضطهِد التي تعانيه كإسرائيلية، لذلك تماهيت معها وصرت يهودياً.
والله يا أخي تعبت من صفة العربي التي لاحقتني وجعلتني أشعر بأنني غريب في بلادي، فقررت أنني يهودي لأن أمي يهودية، وتطوعت كمجند في جيش الدفاع الإسرائيلي، والتحقت بإحدى فرق النخبة، أي بالمظليين.
كانت خدمتي العسكرية طريقي إلى الانتماء اليهودي، وللحقّ، استمتعت كثيراً، فنظرات الإعجاب كانت تحاصرني، لأن فرق النخبة تعني أن مَن يلتحق بها رجل حقيقي ومؤهل كي يكون بطلاً.
لن أتكلم عن خيبة أمل أبي، لأنني قررت أن علاقتي به انتهت. حتى آرنا أصيبت بالخيبة لأن موقفها السياسي ضد الاحتلال كان معروفاً، لكنني كنت أشعر بنشوتها، لأنني ذكّرتها بأيام شبابها المبكر حين كانت مقاتلة في صفوق البالماخ.
لكن هذه الحكاية لم تصل إلى خاتمتها السعيدة.
“دائماً هناك شيء لا بد من أن يحدث كي يقلب الأشياء، ويحول نشوتنا إلى حزن واحتقار للذات.”
قال جوليانو أنه لا يستطيع أن ينسى ذلك اليوم التشريني الممطر. كانت وحدتنا تقف على حاجز الجَلَمة وتقوم بمهمتها الاعتيادية في إيقاف سيارات الفلسطينيين والتدقيق في هوياتهم. وفجأة لمحت سيارة يقودها شاب في الثلاثينيات، وإلى جانبه يجلس رجل عجوز. وبلمحة بصر اكتشفت أن الرجل الكهل هو عمي. شعرت بالخجل، فأحنيت رأسي كي لا أرى، وأشرت بيدي إلى السيارة كي تتابع من دون التدقيق في هويات ركابها. فرأيت النقيب داني يتقدم مسرعاً من السيارة ويأمرها بالوقوف. أمرني النقيب بأن أدقق في الهويات وأجبر الركّاب على النزول. فتراجعت إلى الوراء وأدرت ظهري.
صرخ النقيب بأن عليّ تنفيذ الأمر، وكنت كمَن لا يسمع.
فقام بنفسه بالمهمة وهو يوجه إليّ التهديد. أمر الراكبين بالنزول، أمسك الكهل من ياقته، وكان الرجل عاجزاً عن فتح عينيه، ثم أوقفه مديراً وجهه صوب السيارة ورافعاً يديه، وركله ما بين رجليه كي يفتحهما. تأوه الكهل من الألم، فأمرني النقيب بأن أفتشه بيدي. أمسكني من كتفي كي يبرمني بالقوة، وفي تلك اللحظة أصبت بالجنون، رفعت بندقية العوزي إلى الأعلى وانهلت بها ضرباً على رأس الضابط، ورأيت الدم.
كانت هذه هي المرة الوحيدة في حياتي التي أسلت فيها دم إنسان.
كان النقيب داني صديقي، فهو ينحدر مثلي من عائلة مهاجرة من لاتفيا، وكان شاباً ودوداً يحب المسرح، وكنا نصرف كثيراً من الوقت في مناقشة المسرحيات، فهو كان معجباً بمسرحيات تشيخوف، وأنا كنت مسحوراً بمسرحية “العادلون” لألبير كامو. وفجأة وأمام الحاجز تحولنا من رجلين مرهفين إلى وحشين، هو يريد إذلال العجوز الفلسطيني، وأنا أريد إخفاء وجهي وحقيقتي بصفتي ابن شقيق الرجل، هو لبط الرجل وأنا ضربت الضابط بكعب البندقية.
خلعت قميص الجيش ومشيت تسع ساعات إلى البيت، وكنت مجنوناً بالغضب. وفي البيت اعتقلوني وأخذوني إلى كيلي شيش (السجن رقم 6)، ثم إلى كيلي أربع، وهناك التقيت صبحي واكتشفت أنني عربي.
في السجن علمت أن عمي كان ذاهباً لزيارة طبيب الأسنان في جنين، لأن معالجة الأسنان هناك رخيصة مقارنة بإسرائيل.
داني زارني في السجن بعد ستة أشهر من حادثة حاجز الجَلَمة، وهو الذي أخبرني عن سبب زيارة الرجل الكهل لمدينة جنين. قال داني أنه جاء إلى السجن كي يقول لي أنه سامحني، وأنه فهم أن الرجل الكهل كان قريبي حين دقق في هويته.
“هل أنت عربي؟” سألني.
قلت له أنني صرت عربياً بفضله.
“اسمع”، قال، “أنت تشبه يانيك الذي رفض أن يَقتل في مسرحية (العادلون)، لذلك فأنت لا تصلح للجيش.”
“وأنت مَن تشبه؟” سألته.
“أنا اليهودي الجديد”، قال.
“وأنا اليهودي القديم”، أجبته.
“كنت متأكداً من أن عمي الذي كان يقيم إلى جانبنا في حارة الروم في الناصرة، سيتعرف على وجهي، وشعرت بالخجل.
“دخلت إلى السجن يهودياً وخرجت منه عربياً.
“في اليوم الأول لخروجي من السجن ذهبت إلى جنين، كي لا أذهب إلى دار عمي في الناصرة وأعتذر منه، فأنا شعرت بالخجل من هذا الرجل الذي أحبني صغيراً. فقلت بدلاً من أن أذهب إلى بيته في الناصرة، سأذهب إلى عيادة طبيب أسنان في جنين. ففي السجن شعرت بألم في أحد أضراسي، لكنني قررت ألّا أتعالج على يد طبيب إسرائيلي.
“بدأتُ رحلتي إلى جنين بصفتي عادلاً، كما سمّاني داني، فوجدت أن أمي اليهودية سبقتني إلى هناك.”
لم يأكل جوليانو شيئاً.
“لماذا لا تأكل؟” سألته.
“الطعام لا يليق بالخمر”، قال. “مع الخمر هناك احتمالان مرتبطان بالشفتين، الكلام والقبل. الكلام قبلة الروح، والشفتان جسد القبلة. معك يا صديقي ذهبت إلى قبلة الروح كي أعمّد بها صداقتنا.”
“الله يستر”، قلت.
“تخفش مني”، قال جوليانو ضاحكاً، “أنا مرات بحب أتفلسف. صحيح أين كنا؟ قلت لك إن أمي سبقتني إلى جنين، وأنا لست متأكداً من ذلك، ربما لحقت بي إلى هناك. المهم أننا التقينا في المخيم، وهناك عشت أجمل تجربة في حياتي، واليوم بعد موت أمي، أجد نفسي متورطاً في حب المكان. مخيم جنين هو بيتي، وفيه تعلمت أن أقرأ في عيون الأطفال. هل تعلم أن عيون الأطفال هي الكتاب الذي لا يجروء أحد على قراءته؟ أنا قرأته حين صورت علاء الصبّاغ طفلاً يجلس على ركام منزله الذي هدمه الجيش الإسرائيلي. أنت رأيت المشهد في الفيلم كما رآه كل الناس، لكنك لم ترَ سوى ركام البيت الذي يجلس فوقه طفل حردان. اسمعني جيداً، الأطفال لا يزعلون بل يحردون، وحردهم يرتسم أبجدية في عيونهم تقول ما لا يقال.”
“هل أنت شاعر؟” سألته.
“اسمعني منيح، أنا بعرفك وبعرف مين إنت، إن شالله صدقتني لما قلتلك بعرفش اسمك؟ بعرفك وقاريك وكنت أقرأ مقالاتك عن الموسيقى العربية، بعرفش إيش جابك على نيويورك، وشو خلاك تصير بياع فلافل، عم أخبرك القصة حتى تكتبها. لا، أنا بدي أسويها فيلم أو مسرحية، بس إذا قتلوني قبل ما أكتبها، إنت حر تعمل فيها زي ما بدك.”
“ليش عم تحكي هيك؟”
“اسمع واسكت، لما بيحكي الأبطال الكاتب لازم يسكت ويسمع.”
VI
عندما التقيت به في سنة 2004 في نيويورك، لم يخطر في بالي أنني سأكتب عن جوليانو مير خميس يوماً، ففي تلك السنة تُوّج فيلمه بالجائزة الأولى في مهرجان “ساندانس” السينمائي. كان رجلاً مقبلاً على الحياة، قام بتأسيس مسرح الحرية في جنين، وجلب له تمويلاً بفضل حيويته ونشاطه وقدرته على صوغ مسرح ثقافي يقاوم من خلاله عنف الاحتلال الإسرائيلي.
قال لي إن الانتفاضة المقبلة ستكون انتفاضة ثقافية.
كان يريد إقناعي بمشروعه الثوري المغمس بدماء أطفال المسرح الشهداء في مخيم جنين.
جوليانو عكسي تماماً، فهو فلسطيني حقيقي ويهودي حقيقي، أمّا أنا فاخترت أن أجعل من حيرتي هويتي، ادّعيت أنني يهودي كما ادعيت أنني فلسطيني، وفي الحالين كنت في اللامكان. أمّا هو فكان في المكانين، سُجن وأُدخل إلى مستشفى للأمراض العصبية لأن الفلسطيني الذي فيه ضرب ضابطاً إسرائيلياً بكعب بندقيته، واضطُهد في جنين لأن مسرحه اعتُبر متحرراً أكثر من اللازم.
اتُّهم جوليانو بارتكاب خطيئتين: الأولى هي اعتباره المسرح إحدى وسائل تحرر المرأة، والثانية هي تقديم مسرحية “حديقة الحيوانات” لأورويل، حيث تقود الخنازير ثورة الحيوانات ضد صاحب الحديقة الظالم.
“كيف تضع خنزيراً على المسرح، ألا تعلم أن الخنزير حيوان نجس في الإسلام؟ إنت يهودي إسرائيلي تحاول أن تشوه حياتنا”، قالوا له.
“لكن الخنزير حيوان نجس في الدين اليهودي أيضاً”، أجابهم. “هذه مجرد رموز، ففي الفن نتعلم قراءة دلالات الرموز”، أجابهم.
اقتنعوا أم لم يقتنعوا، لا أعلم، لكن ما أعرفه أن جوليانو قُتل بيد فلسطينية.
فيلم جوليانو هو فيلم عن الأطفال الذين قُتلوا مضرجين ببراءتهم. هؤلاء الذين يطلق عليهم الإعلام الإسرائيلي اسم الإرهابيين، هم ورثاء يانيك. يانيك لم يَقتل وكان الحق معه، وإنما كان يقاتل من أجل فكرة، أمّا علاء ويوسف وأشرف فقاتلوا وقَتلوا وقُتلوا دفاعاً عن الحياة.
قال جوليانو أنه كان يرافق أمه إلى مسرح الأطفال الذي أسسته بالمال الذي كسبته من نيلها جائزة نوبل البديلة. “بخمسين ألف دولار، وهي قيمة الجائزة التي تُمنح في السويد واسمها جائزة رايت ليفيلهوود. صنعت أمي الأعجوبة، وأنا كنت مجرد كاميرا. صورت التمارين، وشاركت في تدريب الأطفال على التمثيل، لكنني كنت أقف مذهولاً أمام عيونهم التي تلتمع بإشراقة الحياة وهم يمثلون (القنديل الصغير) لغسان كنفاني، حيث نرى الأميرة وهي تسعى لإحضار الشمس إلى القصر كي تصير ملكة، ونشهد مسيرة عشرات القناديل التي يحملها الناس وتصنع شمسهم.”
عالم سحري يصنعه الأطفال مع آرنا، سحر يأتي ليكسر المناخ الوحشي الذي يعيش فيه أطفال المخيم تحت الاحتلال. علاء يرفض أن يمثل ويفضل الرسم، علاء يرسم بيته الذي هدمته جرافات الاحتلال، طفل يفتح عينيه على الركام، وسيغمضهما عندما صار شاباً ومقاتلاً على الركام أيضاً.
أطفال يحلمون، أشرف يحب أن يصير روميو الفلسطيني، أمّا يوسف الذي يمثل مع آرنا دور الجندي الإسرائيلي وتملأ ضحكته المسرح، فيقود عملية انتحارية في الخضيرة، مع نضال الذي كان أصغر أطفال المجموعة.
لم يسأل أحد يوسف لماذا انتهى به الأمر في عملية انتحارية، فجميع أهل المخيم يعرفون قصته مع الفتاة التي كانت في العاشرة من العمر، عندما أصيبت مدرستها بالقصف الإسرائيلي. ركض يوسف إلى المدرسة ليجد نفسه وهو يحمل بين ذراعيه الفتاة المصابة، وفي المستشفى اكتشف أنه كان يحمل جثتها. الفتاة ماتت بين يديه، ومنذ تلك اللحظة صمت يوسف ولم يتكلم إلّا في شريط الفيديو الذي وزعته منظمة الجهاد الإسلامي، وهو يقف إلى جانب نضال ويعلنان قرارهما بالاستشهاد.
ونتعرف إلى زكريا في مشادته مع علاء، ونرحل إلى عالم يمّحي فيه الزمن. أطفال يكبرون، وشباب يموتون، وجوليانو يبحث عنهم وسط الركام.
كيف صارت الأميرة جثة؟
ومَن حطّم القناديل؟
لم يسأل أطفال آرنا أنفسهم هذه الأسئلة الصعبة، وإنما كانوا يصنعون حياتهم. هذه هي المفارقة الفلسطينية، عليك أن تموت كي تصنع لنفسك حياة. المسألة ليست فقط تعبيراً عن البراءة، بل محاولة لإعطاء حياة المقهورين معنى.
هؤلاء، سواء الذين صمدوا وقاتلوا في المخيم أو الذين قاموا بعمليات خارجه، كانوا يصنعون موتهم على طريقتهم. فبدلاً من أن تموت في السجن وأنت تواجه مجموعة أحكام بالمؤبد، مثلما سيحدث مع زكريا، الناجي الوحيد من احتفال الموت في فيلم جوليانو، تموت ببدلتك العسكرية والبندقية في يدك، مثلما قال أبو جندل قائد المقاومة في مخيم جنين.
كم تمنيت أن ألتقي بزكريا، فهذا الفتى الذي كانت أمه سميرة تعمل مع آرنا، كان شاهداً على قتل أمه وشقيقه. طفل نحيل مغطى بالحياء، وعندما سيكبر سيبقى نحيلاً، وسنرى على وجهه بقعة سوداء من أثر متفجرة كان يصنعها. صانع المتفجرات الذي عمل في جميع المهن من سارق سيارات إسرائيلية إلى مقاول في تل أبيب، انتهى به المطاف بعد استشهاد علاء الصباغ، قائد كتائب شهداء الأقصى، ليصير قائداً للكتائب، ويسقط ضحية صفقة العفو التي أبرمتها السلطة الفلسطينية مع الإسرائيليين. الشاب الذي صار نجماً في الصحافة الإسرائيلية، والذي نجح في تفادي عشرات محاولات الاغتيال، والذي شارك في تأسيس المسرح الذي بناه جوليانو، انتهى به الأمر في سجون السلطة، قبل أن يسقط في السجن الإسرائيلي.
“ما هذه المصادفة الرهيبة؟” سألته.
“أي مصادفة؟” قال.
“موت جميع أبطال الفيلم، من آرنا إلى علاء”، قلت.
“الموت ليس مصادفة”، أجابني، “المصادفة هي أن نبقى أحياء.”
“انظر في عينَيّ”، قال جوليانو.
نظرت في عينيه، ثم أشحت بصري.
“ماذا رأيت؟” قال.
“مش فاهم قصدك”، أجبته.
روى جوليانو أنه عندما قرر أن يصنع الفيلم، عاد إلى أرشيف الفيديوهات التي صورها خلال عمله مع أمه في مركز الأطفال الذي أنشأته في المخيم. وعند مشاهدته الأطفال قرأ الموت في عيونهم. “الموت مكتوب على العيون”، قال. “شي مدهش يا رجل، قلّي إيش قريت في عيوني، شفت الموت؟”
ترددتُ قليلاً قبل أن أقول له أنني لا أعرف أن أقرأ العيون، “اقرأ أنت في عينَيّ.”
قال أنه رأى في عينَيّ شيئاً غامضاً.
“يعني شو؟”
“بعرفش”، قال. “شفت إشي مغطى بالدخان، بعرفش إذا هادا موت أو شي تاني، بس إشي غريب.”
ضحك، وسألني إذا كنت خائفاً.
“أنا أخاف من نبوءات العرّافين”، أجبته، “يبدو أنك عرّاف”، قلت.
“لو كنت عرّاف حقيقي كنت منعت موتهم، بس يا حسرة، لمّا قريت عيونهم كان صار إلّي صار.”
VII
طلبت من جوليانو نسخة من فيلمه، فأنا أريد أن أحضره من جديد كي أتعلم قراءة العيون. وعدني بأن يرسل لي نسخة دي.في.دي. فَوْر توفرها.
وها أنا أجلس مسمراً أمام الكومبيوتر في غرفتي في نيويورك، أحاول أن أرى فتتطاول الصور وتتخذ أشكالاً غريبة في مرايا الدموع.
لم يخطر لي أن أشبّه الدموع بالمرايا، فحين تحتل الدموع مرايا العيون، نسارع إلى مسحها قبل أن نرى ما يجب أن نراه من خلالها.
لكنني اليوم، ولسبب لا أفهمه، صرت عاجزاً عن إيقاف تدفق الدموع. هل هي الكهولة التي تزحف في خلايا أجسادنا فتحولنا إلى عاجزين عن التعبير بالكلام؟ أم إنني أرى موتي يقترب، مثلما تنبّأ لي جوليانو مرة؟
لم أتعاطف يوماً مع دموع الكهول، كنت أشعر بالضيق عندما كانت دموع جدتي تتدفق على مخدتها المحشوة بالأزهار.
الآن فهمت، فالإنسان يبكي على نفسه قبل أن يبكي عليه الآخرون.
كيف أستطيع أن أقرأ عينَي والدة علاء الصباغ وهي تعاين مقتل ابنها؟
علاء الذي ملأ الشاشة، وقال إنه من المحال أن يستسلم، يموت شهيداً أمام عيونها وعيوننا، فتختلط دموعها بدموعنا، فنراها مثلما ترانا وسط مرايا تتلاعب بالصورة.
فيلم جوليانو ليس تسجيلياً إلّا بمقدار ما تكون الرواية سجلاً لآلام الروح.
“لماذا صنعت الفيلم عن أطفال المسرح والرسم فقط، ولم تصنع فيلماً عن المخيم ومعركته؟” سألته.
لم أنتظر جوابه على سؤالي، فسألته عن أبو جندل، القائد الأسطوري لمعركة مخيم جنين. “هل رأيته قبل أن يموت؟ وهل رأيت عينيه؟”
أمسك بهاتفه الجوال وطلب مني أن أنظر.
“هل تعرف صاحب الصورة؟”
رأيت فدائياً بلباسه العسكري يجلس فوق الركام، رأسه ينحني فوق موته، يداه مسبلتان، قدمه اليمنى تمتد مطعوجة، ورجله اليسرى ممدودة.
“هذا علاء فوق ركام بيته”، قلت، “لكنه لا يشبه علاء في الفيلم.”
“هذا أبو جندل”، أجابني، “لكنه يكرر في موته طفولة علاء. أبو جندل مات فوق ركام البيوت، وعلاء ولد فوق ركام بيته.”
روى جوليانو أنه عندما زار مخيم جنين المدمر بعد أسبوعين من نهاية المعركة. اصطدم بهول الخراب، وقرر أن يتوسع في مشروع فيلمه، “أبدأ بآرنا وأطفالها وأنتهي بموت آرنا وعلاء وأبو جندل، لكنني غيرت رأيي، ولم يكن السبب فنياً، السبب كان ذلك العجوز الفلسطيني.”
روى جوليانو أنه كان يمشي فوق الخراب، حين رأى رجلاً كهلاً مُقعداً يجلس وحيداً على الكرسي النقّال وهو يتسلق الركام بيديه اللتين تحاولان تحريك دولابَي العربة.
تقدم جوليانو منه، وبدأ بجرّ العربة.
“وين بدك آخدك يا عم؟”
“على المقبرة”، قال الرجل.
“المقبرة بعيدة من هون، وزي مَشايف الوضع صعب.”
“معك حق يا ابني، ليش نروح على المقبرة، المخيم كله صار مقبرة.”
“إنت من وين يا عم؟”
“شو هاي من وين، أنا من المخيم من هون”، أجاب الرجل. “قبل هالخراب لما كانوا يسألوني إنت من وين كنت أقول أنا من عين حوض، أخبّر عن أيام النكبة والتهجير، وأحكي إنو كان لازم ألاقي طريقة وأبقى بغابة الزيتون حد عين حوض زي ما بقيوا أولاد عمي. أنا من دار أبو الهيجا، وإحنا شردنا على جنين، واتعذبنا كتير، بس اسمعني منيح، من بعد دمار المخيم بقول سقى الله على أيام النكبة، هذي النكبة يا ابني، النكبة لحقتنا لهون، مرتي وأولادي الثلاثة ماتوا تحت ركام البيت وأنا عشت بعرفش كيف أو ليش، وإسّا رح أبطّل أقول أنا من عين حوض، رح أقول عين حوض انتقلت على المخيم وأنا يا ابني من هون. إنت فاهم عليّي؟”
“يعني إنت إسّا عم تنكر أصلك”، قال جوليانو.
“لا يا ابني، مَن ينكر أصله لا أصل له، أنا عين حوضي، بس إسّا اندفن قلبي مع أولادي تحت الدمار هون، صار عندي أصلين، وصار المخيم هو عين حوضي، وأنا ناطر ترجعلي عين حوض.”
التفت العجوز إلى جوليانو وسأله: “شو هو الوطن؟”
احتار جوليانو وغمغم قائلاً أنه لا يعرف.
“الوطن هو المقبرة، حيث تقبرون يكون وطنكم، مقبرتنا حرثوها اليهود بعين حوض، وهون انقبرنا تحت ركام بيوتنا، أهم إشي نلمّ الشهداء وندفنهم بالمقبرة، حتى نحس إنو عندنا وطن، وإحنا ناطرين الوطن.”
“ولأيمتى مننطر؟” سأل جوليانو.
“مننطر ليخلص الانتظار”، أجاب الرجل.
قال جوليانو إن لقاءه بهذا الشيخ عدّل خطته، “أنا ما كان بدي أعمل فيلم عن النكبة، بدي أعمل فيلم عن أمي وأطفال المسرح”، قال.
“بس فيلمك عن النكبة”، أجبته، “فينا نسميه نكبة في النكبة”، قلت.
“دخيلك بلا فلسفة المثقفين”، قال. “أبوي كان يهلكنا بالمناقشات الفلسفية، وهو عم بخبّرنا عن المناقشات والصراعات في جريدة (الاتحاد). أنا ما بحب المثقفين، وأمي كانت تكره هالنقاشات، وتقول إن الموقف الصحيح هو إلّي بدلّك عليه قلبك.”
اقتنعت بوجهة نظر جوليانو. ليس من واجب الفنان أن يقول كل شيء دفعة واحدة، يكفي أن نروي حكاية صغيرة كي نكتشف أنها جميع الحكايات.
نسيت أبو جندل وصورته فوق الركام، ولم أكتشف هذا المناضل الأسطوري إلّا حين التقيت بخضر. وخضر طالب وصل حديثاً من فلسطين، وهو يكتب أطروحته عن مخيم جنين في جامعة نيويورك.
كان يأتي إلى مطعم “بالم تري” مع مجموعة من الطلاب يأخذون سندويشاتهم ويغادرون. لم يلفت هذا الشاب النحيل الأسمر نظري، ولم أعرف اسمه إلّا في صبيحة أحد أيام الآحاد، حين جاء وحيداً إلى المطعم كي يفطر صحن حمص وثلاثة أقراص فلافل.
جئتُ إلى المطعم باكراً كي أُعدّ ما يطلقون عليه هنا اسم “برانش”، حيث يمزجون الفطور الصباحي بالغداء. وفي العادة لا يبدأ “البرانش” قبل الحادية عشرة من قبل الظهر. الأميركيون يأكلون البيض بمختلف تنويعاته في “برانشاتهم”، أمّا نحن في “بالم تري”، فكنا نُعدّ طعاماً خاصاً بيوم الأحد: ساندويشات فول مع بيض مسلوق على الطريقة المصرية، سندويشات باذنجان مقلي مع طحينة وبندورة، إلى جانب الحمص والفلافل وصحون الفول والفتة.
فوجئت بدخول هذا الشاب الذي قرر أن “يتبرنش” في التاسعة صباحاً، فالفلافل لم تكن جاهزة، وأنا لم أكن في مزاج خدمة الزبائن.
جلبت له صحن حمص واعتذرت منه لأن الفلافل ليست جاهزة.
“ولا يهمك”، قال، وانكبّ على صحن الحمص بطحينة.
أحسست بإشفاق لا أدري سببه على هذا الشاب النحيل، كما أن طريقته في التهام الحمص أثارت شهيتي أنا الذي لا أفطر في العادة سوى ركوة قهوة تركية ثقيلة. أعددت صحن فول وصحن حمص إضافياً، وكاستَي شاي، وضعتها على الطاولة أمامه وسألته إذا كان يسمح لي بأن أشاركه فطوره.
“أهلا وسهلا فيك، المحل محلك”، قال.
قلت له إن طريقته في التهام الحمص أثارت شهيتي.
“لا تواخذني”، قال، “إجيت بكير لأني حلمت إني عم باكل صحن حمص بمطعم أبو شفيق بمخيم جنين. صحيت من النوم الساعة ستة الصبح جوعان، ونطرت شوي قبل ما آخد (الساب واي) من كوينز وإجي عندك.”
“إنت من كوينز؟”
“لا أنا من جنين، بس إسّا ساكن بكوينز”، قال.
“دول أجدع ناس”، قلت مازحاً.
روى أنه في الحقيقة من قرية برقين التي تبعد نحو أربعة كيلومترات عن جنين، وأنه خلال إقامته في المخيم، اعتاد على حمص وفلافل أبو شفيق.
ومع الشاي والسجاير انفتح الكلام. وكي يكمل الشاب حديثه قام وساعدني في إعداد الفلافل، قبل أن يأتي أحمد وعصام ليكملا المهمة، وهما طالبان في الجامعة يعملان في المطعم أيام السبت والأحد.
اسمه خضر جرّار، من قرية برقين، أنهى في سنة 2001 شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة بيرزيت، ثم عاش في مخيم جنين خلال معركة احتلال المخيم في نيسان 2002، قبل أن يؤسر ويقضي أربعة أعوام في السجن الإسرائيلي، وينال بعد خروجه من السجن منحة دكتوراه من جامعة نيويورك.
“يَمْ! من المعركة طوّالي على نيويورك”، قلت، “مبروك”.
“أعجوبة”، قال، “في جامعة N.Y.N. أستاذ مصري اسمو خالد زكي، وهو مؤرخ، شاف طلبي، واتصل فيي وقال مشروعي البحثي ممتاز، بعرفش إيش عمل، بعتلي رسالة فيها كلمتين: (تحققت الأعجوبة)، وبعدين فهمت إن المسألة اقتضت تدخّل رئيس القسم، بعرفش كيف، وهياني هون.”
قادني خضر إلى بداية أُخرى تختلف عن بداية جوليانو.
“لكنها الحكاية نفسها”، قلت.
“لكل حكاية سبعة أبواب، عليك أن تفتحها كلها كي تفهم الحكاية.”
“هل تملك مفاتيحها كلها؟” سألته.
“لا أحد يمكنه أن يملك المفاتيح. اسمعني جيداً، أنا شاركت في المعركة من أولها إلى آخرها، وجئت إلى هنا كي أُعدّ بحثاً عنها. وخلال عملي على تجميع كل ما يمكن جمعه، أستطيع أن أقول لك إن كل إنسان شارك في الحكاية هو حكاية، والحكايات تتشعب إلى ما لا نهاية، بحيث تصير الكتابة انتقائية، أي تصير عملية طرح بدلاً من أن تكون عملية جمع. تكفي حكاية واحدة تتضمن جميع الحكايات، وهذا مستحيل في البحث العلمي. هذا يصنعه الأدب، ومخيم جنين ينتظر روايته.”
“اكتبها”، قلت له.
“ليس أنا، أنا شاركت فيها، بل أستطيع أن أقول أنني أحد أبطالها، والأبطال لا يكتبون، الأبطال يموتون.”
التمعت في خاطري فكرة أن هذا الشاب الذي يشاركني طعامي في هذا الصباح النيويوركي البارد يمكن أن يكون شبح رجل ميت. أصبت بالرعب، فقمت عن المائدة وبدأت بإعداد الفلافل، لحق بي وبدأ يساعدني. كان يعمل برشاقة وحيوية كأنه طاهٍ محترف، وهنا ازدادت مخاوفي، وصار الرجل يحكي من دون أن ينتظر ردي أو أسئلتي. حكى كصخرة انفجر فيها الماء، ولم أكن أملك سبيلاً لإيقاف تدفقه.
قال عن قريته: “تبدأ برقين في إنجيل لوقا الإصحاح السابع عشر: (وفي ذهابه إلى أورشليم اجتاز في وسط السامرة والجليل، وفيما هو داخل إلى قرية، استقبله عشرة رجال برص فوقفوا من بعيد، ورفعوا صوتاً قائلين يا يسوع يا معلم ارحمنا، فنظر وقال لهم اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة، وفيما هم منطلقون طهروا. فواحد منهم لما رأى أنه شفي رجع يمجد الله بصوت عظيم وخرّ على وجهه عند رجليه شاكراً له، وكان سامرياً. فأجاب يسوع وقال أليس العشرة قد طهروا، فأين التسعة، ألم يرجع مَن يعطي مجداً لله سوى هذا الغريب)؟
“أنا هو هذا الغريب.”
هل أنت من إخواننا النصارى؟”
“لا تقاطعني”، قال.
“شو فيها يا أخي مش عيب يكون الواحد نصراني، أنا أمي مسيحية”، أجبته.
“مش هيك”، قال “اسمع”.
“فهمت شو مكتوب بالإنجيل؟ هذه برقين وكان اسمها برصين، تيمناً بالبرص العشرة الذين شفاهم المسيح في طريقه من الناصرة إلى القدس، وهناك بُنيت أجمل كنيسة في الكون، ورابع أقدم كنيسة في العالم بعد كنيسة القيامة في القدس، والمهد في بيت لحم، والبشارة في الناصرة. الكنيسة بُنيت في الكهف الذي كان يُستخدم للحجر على مَن أصيبوا بالجذام والمسيح شفاهم، لمسهم بنظرة من عينيه فشفوا، وخرّ الغريب على وجهه ساجداً. ركع السامري على وجهه وليس على ركبتيه، وأمي فعلت ذلك عندما يئست من إمكانية الحمل. ذهبت إلى كنيسة مار جرجس المبنية على كهف البرص وسجدت على وجهها ونذرتني، لذا سموني خضر، وأمي عمّدتني هناك في الكهف وأطلقت عليّ اسم جرجس بينها وبين ربها، وقالت إنه لن يصيبني مكروه طالما هي حية، لأن الخضر وعدها بذلك. أنا متأكد من أنني لم أمت في المعركة التي مات فيها الجميع بسبب أمي. أمي ماتت عندما كنت في السجن، فقررت عند إطلاق سراحي الهرب، قلت ماتت أمك يا ولد وذهبت خيمتها التي تحميك من الموت.”
روى عن يوسف ريحان أبو جندل. قال أنه رأى صورته جالساً فوق عرش الموت حين كان في السجن، لكنه لم يبكِ. حين رأيت صورته جالساً فهمت لماذا تزغرد النساء، زوجته إلهام احتضنته ميتاً ثم زغردت، وكل نساء المخيم زغردن عندما حمل الرجال جثته إلى قريته يعبد حيث دُفن.
سألته عن جوليانو، وعن مسرح الحرية في جنين.
“اسأل زكريا، أنا لا أعرف شيئاً عن الموضوع.”
قال إن زكريا واحد من أبطال المخيم، “كنا سوياً عندما استسلمنا أنا وعلاء، لكن زكريا اختبأ تحت الركام، قال بعد ذلك أنه لم يستسلم لأنه لم يكن مستعداً لخلع بنطلونه.”
“وليش مات علاء مقتولاً في المخيم وما بقي في السجن معكم؟”
“علاء استسلم بهوية مزورة ولم يعترف أحد عليه، وأُفرج عنه بعد أسبوعين ورجع على المخيم وقاد المقاومة حتى استشهاده.”
“وإنت؟” سألته.
“رح أخبرك القصة من الأول”، قال.
“بالأول لازم تعرف أنا مين، أنا من أطفال الانتفاضة الأولى، هل تذكر صورة الطفل الذي كسر له الجنود الإسرائيليون عظام يده، هذا الطفل يشبهني. وفي الجامعة التقيت بمروان البرغوثي، زعيم (التنظيم)، الذي كان ساحراً، لكنني لم أنضم إلى التنظيم، كنت أشعر بأن هناك خطأ ما، وأن اتفاق أوسلو كان أحد أشكال استمرار النكبة. قلت لمروان ما هذا السلام، سلام واحتلال! المستوطنون يتوسعون في أرضنا والجيش يمارس أشنع أنواع الاضطهاد والقمع، إيش هادا، هزّ مروان رأسه وقال إن علينا أن ننتظر، وعندما سألته ماذا ننتظر قال إن وقت الكلام لم يأتِ بعد.
“لم اقتنع، ولم أهتم إلّا بدروسي، لكنني كنت أكره رام الله، فالقرية التي صارت تشبه المدن، وحياة البذخ التي كان يعيشها (العائدون) والأغنياء القادمون من الخليج، الذين ابتلعوا اقتصاد الضفة الغربية وتشاركوا مع الإسرائيليين، لم تكن تثير فيّ سوى النفور.
“لكن رجلاً ممتلئاً قصير القامة، وقف بلباسه العسكري أمام الحاجز الإسرائيلي في بيت لحم، وتكلم بكرامة مَن يملك الكرامة، أثار فضولي. ثم عرفت أنه ضابط في الأمن الوطني يقيم في قريتنا برقين مع زوجته التي كانت تضع مولوداً ذكراً في كل عام.
“وذهبت للقائه، واكتشفت أنني كنت أعمى.
“هل تفهم ما أقول، هل تستطيع أن تتخيل إنساناً أعمى يرى فجأة؟ أنا هو الأعمى الذي رأى. أقول لك أنني معه رأيت فلسطين مثلما تركَتْها عيون الطفل الذي كنتُه، وهو يشعر بألم تكسير عظامه.
“وكان اسمه أبو جندل.
“تبعته إلى مخيم جنين، وهناك التقيت بجمال زميلي في الجامعة الذي ضمني إلى (كتائب شهداء الأقصى)، وفي معركة مخيم جنين متُّ كما مات عشرات الفدائيين.”
عندما رأى خضر علامات الدهشة والخوف ترتسم على جبيني انفجر ضاحكاً، “تخفش هيّاني قدامك، أنا متت بشكل رمزي، يعني أنا ميت حي، زي ما بقولوا.”
“ليش عم تحكي هيك؟”
“أكيد انت بتعرف الحديث النبوي الشريف، الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، أنا انتبهت يعني متت وشفت، ولما قاعد أكتب عن المخيم عم بشوف ما لا يُرى، يعني عم بكتب بعيون الموتى وللموتى.”
“هذا عبث”، قلت له.
“كل كتابة هي شكل من أشكال الموت”، قال.
“لكن إذا لم نكتب نصير شعباً بلا مرآة”، قلت.
“تماماً، يجب أن نكتب كي لا نموت، ويجب أن نموت كي نكتب”، أجابني.
غريب أمر هذا الشاب، لماذا أتاني في هذا الصباح الباكر كي يحكي؟ أنا لا أستطيع أن أتكلم في الصباح، عندما أنهض من النوم أشعر بأنني في حاجة إلى وقت كي أستعيد نفسي من الليل، لكن خضر سحبني من ليلي إلى ليله، والآن يبدو لي كأنه جزء من منام طويل، يكون هنا معي في المطعم، ثم يقفز إلى أزقة المخيم، يروي عن الجرافات الضخمة التي هدمت البيوت وسوّتها بالأرض، يحكي عن رصاص القناصة الإسرائيليين، يروي ويروي، ثم يشرق فيه الدمع، ويقول إن ذاكرته تخونه.
قال للأستاذ المشرف على أطروحته إنه يستحيل كتابة اللامنطقي بلغة منطقية: مخيم بائس يعيش فيه لاجئون طُردوا بالعنف من قراهم، واعتقدوا أن المخيم ليس سوى محطة موقتة قبل عودتهم إلى أرضهم وبيوتهم التي هدمتها جرافات الاحتلال، يجدون أنفسهم بعد ستين عاماً من الانتظار في مواجهة الجرافات نفسها، التي تهدم بيوتهم الموقتة وأكواخهم فوق رؤوسهم، وتريد طردهم إلى لامكان.
“لكنك لست لاجئاً، قريتك برقين لم تُحتل، فلماذا ذهبت إلى المخيم؟”
أجاب بابتسامة من شفتيه بدت لي أشبه بابتسامة احتقار.
“أعتقد أنك أخطأت، كلكم أخطأتم، لماذا ذهبتم إلى معركة خاسرة سلفاً؟” قلت.
ابتسم خضر من جديد وهو ينظر إلى البعيد.
“معك حق”، قال، “بس إنت ناسي نقطة صغيرة مهمة، ناسي إننا بشر، والبشر لا يجدون الصح إلّا إذا وقعوا في الخطأ. خطؤنا هو الصح.”
كانت معركة مخيم جنين هي المعركة الكبرى خلال الانتفاضة الثانية، وفيها نرى تلخيصاً مكثفاً للحكاية الفلسطينية برمّتها، من معركة تحرير جنين من الإسرائيليين في سنة 1948 إلى اللجوء من قرى حيفا، وصولاً إلى الامتداد الجغرافي الذي جعل من جنين نقطة تقاطع بين أهل قرى المثلث التي ضمتها إسرائيل في سنة 1949، والفلسطينيين الذين بقوا في الجليل بعد النكبة.
هل قرر يوسف أحمد ريحان (أبو جندل) أن يموت ويتحول من رجل إلى أسطورة؟
لم أرَ أبو جندل كي أنظر في عينيه، فأنا لم أرَ الفتى الذي غادر قريته يعبد إلى لبنان كي يلتحق بالفدائيين، ويصير أحد قادة أشبال الأربيجي في مخيم الرشيدية في صور خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982، وينجو من براد الجثث حيث وضعوه.
لكن خضر كان له رأي آخر.
حدثني عن صورتين في مخيم جنين، صورة تمثال الحصان الذي يدير وجهه إلى الغرب أي إلى مدخل المخيم، وصورة الفدائي الذي يجلس ميتاً فوق الركام.
أخرج هاتفه الخلوي من جيبه، ثم وضع أمامي الشاشة.
“ما هذا الحصان الحديدي؟” سألته.
“بقايا الحديد، حديد سيارة الإسعاف الفلسطينية التي قصفتها الطيارات الإسرائيلية، وحديد الدبابات الإسرائيلية. إنه حديد موت المخيم وصموده.”
قلت له أنني لم أحب هذا الحصان، إذ على الحصان أن ينتصب ألفاً، مثلما كتب محمود درويش. فبعد أحصنة الشعر التي بدأت بـ “مِكَرٍّ مِفَرٍّ” لجدنا امرىء القيس، وانتهت بحصان درويش الذي يقطف وردة من بستان كنعانية أغوته، ثم يسقط مضرجاً بالقصيدة قبل أن يسقط الفارس مضرجاً بحصانه، بعد هذا الكلام، صار الحصان صدى الروح:
“فاصمُدْ يا حصاني/ لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ/ أَنتَ فُتُوَّتي وأَنا خيالُكَ/ فانتصِبْ أَلِفاً،/ وصُكَّ البرقَ/ حُكَّ بحافر الشهوات أوعيةَ الصَّدَى/ واصعَدْ، تَجَدَّدْ، وانتصبْ أَلفاً،/ توتَّرْ يا حصاني وانتصبْ ألفاً/ ولا تسقُطْ عن السفح الأَخير/ كرايةٍ مهجورةٍ في الأَبجدية”.
أمّا خضر فكان رأيه أن الحصان الذي صممه فنان ألماني يدعى توماس كيلبير ونفذته مجموعة من فتيان المخيم وفتياته، تحوّل إلى نصب يلهو به الأطفال ويمتطونه كأنه أرجوحة العيد.
“نحن نلهو بموتنا”، قال.
“شو هالحكي الرهيب؟”
“نعم نعم”، جاوبني، “اللعبة الوحيدة التي تبقّت لنا هي لعبة الموت، ألا تعرف أن اللعبة المفضلة لأطفال المخيم هي لعبة الشهيد؟ مجموعة من الأطفال يحملون نعشاً خشبياً يتمدد عليه أحدهم، يحملونه ويمشون ويهتفون. يصعد الأطفال إلى النعش بالدور، الكل شهيد والكل يهتف للشهيد.”
“وأبو جندل؟” سألته، “هل كان الموت لعبته؟”
“سيبك من أبو جندل”، قال خضر، “أبو جندل هو أسطورتنا التي صنعناها كي يكون لنا ذاكرة متجسدة في إنسان، فالذاكرة كي تبقى يجب أن تتجسد. المسيح جسّد الكلمة، والحسين جسّد التضحية، وأبو جندل جسّد المخيم.”
بدأت معركة مخيم جنين بالرقص، فعندما وصل الخبر أن الجيش الإسرائيلي وصل إلى حرش السعادة المشرف على المخيم، أُطلقت الأسهم النارية، وبدأ الشيخ المتصوف الذي لقبه الخروف يصفّ الإخوان ويقرع الطبول ويلفّ مع الشباب في أزقة المخيم كأنهم في احتفال.
“بدأت المعركة بالخروف الراقص، وانتهت بالخروف المذبوح”، قال خضر.
خطر في بالي أن أطلق على معركة مخيم جنين اسم معركة الخروف المذبوح، “شو رأيك تستخدم هذه العبارة كعنوان لأطروحتك؟” سألته.
“أبو جندل خروف! مش معقول هالحكي، انظر إلى صورته جالساً على ركام عرش الموت. أنا تعلمت في كنيسة مار جرجس في برقين من راهب كهل يدعى يوحنا، أن عيسى ابن مريم كان يحمل اسمين: فهو الخروف المذبوح تارة، وشمس العدل تارة أُخرى، شمسه دمه، وعدله قيامته. أمّا نحن فنُذبح لأننا لا نريد أن نموت، وننتظر.”
روى خضر، فرأيت كلماته تصير صوراً ومشاهد حملتني من غربتي إلى المخيم. ارتجفت برداً، ركضت في الحواشين، جلست في بيت الشيخ إسماعيل في الحارة الشرقية، رافقت زياد العامر الذي كان أول شهداء المعركة إلى طلعة قنبر، رأيت كيف قاد نضال النوباتي عملية الكمين القاتل الذي سقط فيه ثلاثة عشر جندياً اسرائيلياً. وقعتُ تحت ركام البيوت التي كانت تلتهمها جرافاتD9N وD9L، ارتجّت عظامي تحت هدير الآباتشي، بكيت على الكسيح الذي قُتل على عربته. لا أذكر متى أكلت للمرة الأخيرة، وفي النهاية وجدت نفسي إلى جانب جمال وهو يقف شامخاً أمام الضابط الإسرائيلي في المشهد النهائي الذي سبق استسلام مجموعة المقاتلين الأخيرة. الضابط الإسرائيلي يؤدي التحية العسكرية أمام شجاعة الفلسطيني، قبل أن يسلمه مع رفاقه إلى مسلسل التحقيق والتعذيب.
روى خضر عن اللحظات الأخيرة للقائد العسكري للمخيم. أبو جندل رفض أمراً من قيادة الأمن الوطني بالخروج من المخيم، وقال لرفاقه: مَن يُرِد الشهادة، ويُرِد المشاركة في معركة مثل معركة بيروت، فليبقَ معي في مخيم جنين.
روت إلهام زوجته أنه اتصل بها ليلة استشهاده فجر يوم الجمعة 12 نيسان/أبريل 2002، “كانت الساعة شي 3 الصبح، وقال لي ما عدش معي ذخيرة، بطخ حالي وبستسلمش، قال رح أموت بزيي العسكري زي الفدائيين، الساعة 3 ونص انقطع الاتصال، انصاب، وضل يسحسل على التراب، واستشهد.”
عرف خضر باستشهاد أبو جندل في الصباح، وكان مع الشباب في البيت الأخير وسط الركام، وفهمنا أن أبو جندل كان محاصراً في بيت مع عمر عطياني، الشاب الذي رافقه في المخيم، وعندما خرج من ثغرة في الجدار، أصيب برصاص قناص، فزحف على بطنه ثم فارق الحياة.
روى خضر عن حصار المخيم من ثلاثة مرتفعات محيطة به: الجابريات وحرش السعادة المحاذي لوادي برقين وجبل أبو ضهر. حكى عن الأحياء التي سُويت بالأرض، عن هدم حارة الحواشين وحارة الدمج بالجرافات.
روى خضر عن ليل المخيم وصمت المقاتلين، عن ألم الفقراء وكبرياء اللاجئين، عن الموت الذي صار تحدياً للموت.
قال خضر إن المخيم انتصر في هزيمته، والإسرائيليون هُزموا في انتصارهم. “هذا هو موضوع أطروحتي الجامعية، شعب يُهزم لكنه لا يموت، موته انتصار بالموت، وقدرته على البقاء انتصار بالحياة.”
“وعلاء الصباغ؟” سألته.
“هل تعرف علاء؟”
“لا”، قلت، “لكنه صديقي”.
قلت إن صورة علاء الطفل جالساً على ركام منزله، وهالة الحزن المرسومة على عينيه لا تفارقني مذ رأيته في فيلم جوليانو مير خميس “أولاد آرنا”. “هل شاهدت الفيلم؟” سألته.
“أنا لا أحب الأفلام السياسية”، قال، “الواحد بيروح على السينما حتى يتسلى، لأيش أفلام النكد؟”
“بس فيلم جوليانو مش زي الأفلام، الحقيقة إنو مش فيلم، إشي زي الحياة، كأنك مش عم تحضر سينما، كأنك عم تعيش مع الموتى.”
قال أنه علم بموت علاء عندما كان في السجن. “علاء زي الأبطال، كان هو وزكريا، زكريا غادر المكان، وهو أصابته قذيفة. بتعرف علاء مذهل، قدر مع مجموعة من الشباب أن يتابع المقاومة بعد نهاية المعركة.”
قلت له إن صورة علاء صغيراً فوق عرش الخراب، هي صورة أبو جندل جالساً فوق موته.
“أولاد الكلب، أجلسوه حتى ياخدو صورة ويبعثوها للمخابرات ليتأكدوا من شخصيته. بس بتعرف هاي الصورة رح تبقى محفورة بالذاكرة”، قال.
“فيلم جوليانو عن المخيم بيحكي عن أبو جندل؟” سألني.
“نعم ولا” قلت، “فيلم بيحكي عن الطفولة وعن المعركة بصفتها امتداداً لها”، ثم التفتُّ إلى خضر وطلبت منه أن يخبرني عن جوليانو.
“طفل بريء في عالم مش بريء”، قال.
عندما طلب مني جوليانو أن أقرأ عينيه، قرأت ولم أجرؤ على الكلام. وفهمت أن العيون هي مرايا الموت، وأصبت بقشعريرة من الخوف، وبدلاً من أحكي طلبت من جوليانو أن يقرأ في عينيّ.
مع خضر، ووسط غبار الموت، عاد المشهد مثلما رأيته، كل شيء كان مغطى بالظلال، جوليانو يخرج من مسرح الحرية في جنين، يستقل سيارة صغيرة حمراء، الشارع مكتظ بالعابرين، يضع طفلاً صغيراً على حرجه، يدير محرك السيارة، وهنا سوف يبرز رجل مسلح كان قادماً من أحد أزقة المخيم يغطي وجهه بقناع، يأمر السيارة بالوقوف. يوقف جوليانو سيارته وينتظر لحظات قبل أن يتلقى خمس رصاصات ويموت. يغادر المسلح المكان بهدوء، ويرمي قناعه في أحد الأزقة ويختفي.
“ليش قتلتوه؟” سألت.
“عن شو عم تحكي؟!” قال خضر.
“ولا إشي ولا إشي”، قلت.
“يا إلهي!”
كنت أريد أن أقول لخضر إن جوليانو سيُقتل، لكنني خفت أن يعتقد الشاب بأنني أهذي. علّمني جوليانو أن أقرأ في العيون، فقرأت موته، كان موته مرسوماً على مرآة بؤبؤيه الرماديين اللذين استوطنتهما صورتان، آرنا تودع أطفالها قبل أن تموت، وعلاء الطفل فوق الركام.
بدا لي موت جوليانو المؤجل جزءاً من فيلمه. عندما انتهى عرض الفيلم وأضيئت الصالة، صعد المخرج وحده إلى الخشبة وتكلم عن أبطال فيلمه الموتى.
جوليانو لم يصنع فيلماً عن الموتى، وإنما صنعه لهم، فكتب نهايته التراجيدية عندما التمع اسمه بأضواء الشاشة.
أشعر بالخوف من نفسي، لكنني أعرف أن الأدب منذ بدأ الأدب، من جلجامش إلى ملاحم الإغريق القدماء ومسرحياتهم، إلى أدب العرب، له موضوع واحد هو الرثاء، وكل الموضوعات تتفرع منه.
الكاتب أو الشاعر يرثي الآخر كي يرثي نفسه، يبكي على أطلال الأمكنة كي يبكي على أطلال روحه.
كل أدب هو رثاء.
حتى شعراء الحب، من جميل بن معمر الذي تسمّى باسم حبيبته بثينة، إلى قيس بن الملوح إلى وضاح اليمن.
جميل بحث عن صداه وصدى حبيبته بين القبور، وقيس سقط في الجنون قبل أن يتهاوى جسده النحيل أمام ديار ليلى، ووضاح اليمن مات في صندوق حبه.
كي يدخل الشاعر إلى ارتعاشات الحب المكتوبة بالماء والروح، كان عليه أن يكتب موته حباً، محوّلا الغزل إلى قصيدة رثاء:
يا ليتني ألقى المنيّة بغتة، إنْ كانَ يومُ لقائكم لم يُقْدَرِ
أو أستطيعُ تجلّداً عن ذكركم، فيفيقَ بعضُ صبابتي وتفكّري
لو تعلمين بما أُجنُّ من الهوى، لعَذَرتِ، أو لظلمتِ إن لم تَعذرِي
يهواكِ، ما عشتُ، الفؤادُ، فإن أمُتْ، يتبعْ صدايَ صداكِ بين الأقبرِ
لا يستطيع الكاتب أن يكتب عن الآخرين، بل إنه يكتب لهم، وحين يموتون يموت معهم.
هكذا قال جوليانو من دون أن يقول.
ماذا يعني هذا، هل يعني أننا لا نستطيع أن نروي حكايتنا إلّا موتاً؟
كانت أمي تروي لي الحكايات كي أنام، لذلك لم تروِ لي حكايتها وحكايتي، لأنها فهمت أن مَن يروي حكايات الموتى ومَن يستمع إليها ويقرأها سيموت.
أثر جوليانو، أي نصه، سيكون موته، فهو مات حين قرأ في كتاب الموت، ومات حين كتب الموت، فصار الشاهد شهيداً.
أنا خائف ممّا أكتبه وأسمعه.
خائف من خضر الذي يجلس صامتاً أمامي، بعدما روى ما رواه.
كان خضر ينظر إلى شرودي وهو لا يفهم ماذا جرى لي.
“ما لك؟” سألني.
“ولا إشي كنت عم بفكر بمشروع الأطروحة التي تكتبها، وعندي اقتراح.”
“إيش اقتراحك؟”
“بلاها”، قلت، “غيّر الموضوع، فالكتابة عن المخيم تعني أنك تعرّض حياتك للخطر.”
“أنا شاركت في المعركة وما خفتش، بدك ياني إسّا أخاف من كتابة تجربة المخيم؟”
“بس هادا مخيم الموت.”
وقف خضر مودعاً، “شكراً على هالفطور، بس وقِّف هالحكي رجاء، مخيم جنين هو مخيم الحياة، يا ريت تقدر تزور المخيم وتشوف كيف ولدت الحياة من رحم الموت، أنا عمّالي بكتب عن الحياة مش عن الموت، والحكاية لم تنتهِ.”
* فصل من رواية “رجل يشبهني”، وهي الجزء الثالث والأخير من ثلاثية “أولاد الغيتو”. والرواية ستصدر قريباً عن دار الآداب في بيروت.
*نقلاً عن مجلة الدراسات الفلسطينية