بين الصين وتايوان ممرّ مائيّ يبلغ عرضه 180 كيلومتراً فقط. في هذا الممرّ الضيّق قد يُحسَم مستقبل العلاقات بين الصين والولايات المتّحدة.
لم تتوقّف الصين يوماً عن المطالبة باستعادة تايوان إلى الدولة الأمّ. ولم تتراجع الولايات المتحدة يوماً عن التعامل مع تايوان كياناً منفصلاً عن الصين. غير أنّ معادلات القوى في المنطقة بدأت تتغيّر. من مؤشّرات ذلك تنامي القدرات العسكرية الصينية التي تشكّل تحدّياً للوجود العسكري الأميركي في مياه المضيق.
تتركّز الآن استراتيجية الأسطول السابع على كيفيّة مواجهة الخطر النووي – الصاروخي الذي تشكّله كوريا الشمالية، وليس كيفيّة التصدّي لمشروع استعادة الصين لتايوان
في شهر نيسان من عام 2018 أجرى الأسطول الحربي الصيني أوّل مناورات عسكرية بالذخيرة الحيّة في مياه المضيق. سمع سكّان تايوان أصوات الانفجارات عن بعد. وراقبها الأسطول الأميركي السابع عن قرب أيضاً. وكان ذلك بداية تغيير المعادلات السياسية.
منذ أشهر عبرت المضيق للمرّة الأولى أيضاً سفينة حربيّة فرنسية. رفعت بكين صوتها احتجاجاً. لم يحدث ذلك من قبل، فالاحتجاج يعني أنّ الصين تعتبر المضيق مياهاً إقليمية صينية، وأنّ عبوره يتطلّب إذناً مسبقاً من بكين. ولمعاقبة فرنسا على هذا الخرق للسيادة الصينية، سحبت الصين الدعوة التي كانت وجّهتها إلى فرنسا للمشاركة في احتفالات الذكرى السبعين لإنشاء الأسطول الحربي الصيني.
في ذلك الوقت دخلت الولايات المتحدة على الخطّ، فأرسلت سفينتين عسكريّتين من الأسطول السابع إلى المضيق، وأعلنت أنّ مهمّة السفينتين هي تأكيد حرّية الملاحة المفتوحة بين المحيط الباسيفيكي والمحيط الهندي. وتعمّدت الولايات المتحدة زيادة عدد المرّات التي تبحر فيها سفنها العسكرية عبر المضيق من ستّ مرّات (منذ عام 2010) إلى عشر مرّات.
خلال هذه الفترة كانت العلاقات الأميركية – الصينية على ما يرام. ولم تكن بكين تنظر إلى السفن العسكرية الأميركية نظرة معادية، ولم تكن تعتبر مرورها تحدّياً للسيادة الصينية ما دامت للولايات المتحدة سفارة واحدة في الصين مقرّها في بكين، وما دامت تقول بدولة صينية واحدة. أمّا الآن فقد اختلف الوضع. فالخلافات الصينية – الأميركية على القضايا الاقتصادية والماليّة دفعت بعلاقاتهما إلى حافة الهاوية. من أجل ذلك انفتحت الصين على الاتحاد الروسيّ في التفافٍ على أيّ ردّ فعل سلبيّ قد تُقدم عليه واشنطن. وتلاقت بكين وموسكو للمرّة الأولى في مواجهة واشنطن.
وهكذا تحوّلت تايوان أو عادت إلى موقعها السابق أسيرةً بين فكّي الكمّاشة الصينية – الأميركية. لكن ليس هذا الوضع جديداً. ففي عام 2016، بعد مرور وقت قصير على انتخابه رئيساً، بادر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى الاتّصال بالرئيسة التايوانية تساي إنغ وين. وكان الاتّصال الأوّل من رئيس أميركي منذ عام 1979.
عرض عضلات ترامب
لم يكتفِ الرئيس ترامب بذلك، لكنّه أعطى الضوء الأخضر لسفن الأسطول الأميركي السابع للقيام بعرض عضلات في مياه المضيق، وأبرم صفقة تسلّح مع تايوان بقيمة 2.25 مليار دولار. يومئذٍ فهم الرئيس الصيني الرسالة، وأبدى استيعاباً للمطالب الأميركية. غير أنّ السؤال الآن هو: هل الرئيس جو بايدن راغب في مواجهة الصين من أجل تايوان إذا ما قرّرت بكين المضيّ قدماً في مشروع استعادتها إلى الوطن الأمّ؟
إنّ صين اليوم لم تعُد صين 2016. مع ذلك توجد إجابتان على هذا السؤال: واحدة عسكرية، والثانية سياسية. والإجابتان متداخلتان وتتمثّلان في أنّ الأسطول الأميركي السابع ليس في أفضل حالاته. فقد استقال قائده بسبب تعرّض العديد من سفنه الحربية لسلسلة من الاصطدامات. وهذا الأسطول معنيّ في الدرجة الأولى بقضية كوريا الشمالية، خاصة بعد فشل لقاءات القمّة بين الرئيسين الأميركي السابق ترامب والكوري الشمالي المستمرّ.
تتركّز الآن استراتيجية الأسطول السابع على كيفيّة مواجهة الخطر النووي – الصاروخي الذي تشكّله كوريا الشمالية، وليس كيفيّة التصدّي لمشروع استعادة الصين لتايوان.
يعكس ذلك تراجع حجم السفن العسكرية الأميركية التي تمرّ عبر المضيق خلافاً لِما كان يحدث في السابق. ومن ناحيتها، لم تعد الصين تكتفي بتكثيف حضورها البحريّ في المضيق، بل تعمل على تعزيز هذا الحضور بقوات جوّية أيضاً، وهي تدرك جيّداً مدى الإزعاج، أو حتى التحدّي، الذي يشكّله ذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
انطلاقاً ممّا سبق ليس الصراع الأميركي – الصيني تنافساً على الأسواق وحسب. إنّه صراع على النفوذ أيضاً، وهو صراع قد يُشعل فتيل انفجار قد يبدأ في مضيق تايوان وينتقل إلى العالم الأوسع.
إقرأ أيضاً: حرب سرّيّة مُنضبطة بين إيران وإسرائيل
يؤكّد هذه المخاوف الانفجار في أوكرانيا وتوسّع حلف شمال الأطلسي شرقاً وشمالاً (فنلندة والسويد). ويقع الشرق الأوسط بما يمثّله من موقع استراتيجيّ بين الشرق والغرب، وبما يكتنزه من ثروات طبيعية (نفط وغاز)، على تماسٍ مع هذه التطوّرات ببُعدَيْها العسكري والسياسي.
فمن مضيق تايوان في بحر الصين، إلى مضائق تيران في البحر الأحمر، مروراً بمضيق هرمز في الخليج العربي، تتعدّد المواقع في مواجهة واحدة، قد تكون هي “الحرب العالمية الثالثة”، غير المعلنة، لكن المتعدّدة الجبهات… واحتمالات الحروب.