الحزب: لماذا لا يزال يدّعي “المقاومة”؟

مدة القراءة 6 د

حين راج تعبير “فتح لاند” لوصف الوجود الفلسطيني في جنوب لبنان في أواخر الستينيّات، تمّ الردّ على هذا التوصيف التقنيّ الجافّ، وربّما المغرِض، وفق الحسابات السياسويّة “البيتيّة” اللبنانية في تلك المرحلة، بتوفير غطاء سياسي أيديولوجي تحدّث عن “المقاومة الفلسطينية”.

جرى إخراج “فتح” من صفتها الفصائلية وإدراجها داخل مفهوم وطني رومانسي أوسع تحت عنوان “المقاومة”. ولئن لم تكن تسمية “فتح لاند” محصورة بحركة فتح فقط، بل بكلّ الحالة الفلسطينية العسكرية في جنوب لبنان، فإنّ كلّ الفصائل الفلسطينية، على تعدّدها واختلاف ولاءاتها الخارجية، تدثّرت بعباءة هذه “المقاومة” لصناعة شرعية تبرّر ذلك الوجود المثير للجدل في جنوب لبنان منذ اتفاق القاهرة في 1969، قبل أن يتمدّد إلى بيروت والشمال ويصبح حالة إشكالية خطيرة عامّة، تراكمت خطورتها في 1975 ولم تنتهِ إلا بالاجتياح الإسرائيلي في 1982.

مع ذلك فإنّ فلسطينيّة “المقاومة” لم تكن كافية لشرعنة الوجود الفلسطيني في لبنان على الرغم من حجم التعاطف والتأييد العفويّ والمسيّس الذي حظيت به “القضية” داخل لبنان. احتاجت الفصائل إلى حضور لبناني وازن، سواء داخل هذه الفصائل وصولاً إلى صفوفها القيادية، أو من خلال إعلان التحالفات الكبرى مع التيارات والأحزاب والمجموعات اللبنانية. وعلى هذا باتت تلك “المقاومة” متعدّدة الجنسيّات والطوائف، عابرة للمذاهب والأديان، مخترِقة للأيديولوجيّات في يمينها ويسارها وفي أمميّتها وقوميّتها.

الحزب وإن كان حريصاً على شيعيّة خطابه وهيكله وهويّة مناصريه وبيئته، إلا أنّ ذلك النزوع المذهبي البنيوي هو من عُدّة الشغل الناجعة فقط

إنّ “المقاومة” في مفهومها المعتمَد، الذي تعترف به الشرائع الدولية، هي تلك التي تخرج بها الشعوب لردّ الاحتلال وصدّ الاعتداء على سيادة الدول. والمقاومة بهذا المعنى، وإن لم تعبّر بالضرورة في بداياتها عن الشعب بكامله، إلا أنّها، حتى في أقلّويّتها الأولى قبل أن تتطوّر لتصبح حالة عامّة، تمثّل كلّ شرائح الشعب ومكوّناته. هكذا كانت المقاومة في فرنسا أو الجزائر أو فيتنام أو أيّ مثال آخر في هذا الصدد.

لم يؤمن حزب الله يوماً، ولم يروّج لمقاومة وطنية شاملة. ليس لأنّه لا يعرف أبجديّات الأمر، بل لأنّه لا يريد ذلك، وليس هذا التفصيل من مهامّه. ولئن كان من الصعب إقناع المراقب قبل عقود بالأجندة التي تقف وراء هذا الإعراض عن الأمر، فإنّه صار من الوضوح في السنوات الأخيرة استنتاج الغرض من وراء سلوك الحزب الإقصائي الذي لم يقبل شراكة في الذود عن الوطن ومكافحة الاحتلال في جنوبه.

 

تصفية المقاومين اليساريين

إنّ الحزب، وإن كان حريصاً على شيعيّة خطابه وهيكله وهويّة مناصريه وبيئته، إلا أنّ ذلك النزوع المذهبي البنيوي هو من عُدّة الشغل الناجعة فقط. فإذا ما اتُّهم الحزب بتصفية المقاومين اليساريّين الذين كانوا ينتمون إلى جبهة المقاومة اللبنانية (جمول)، وربّما تقصّد قتل الشيعة منهم، فإنّ في شنّ “حرب الإخوة” ضدّ حركة أمل (الشيعية) في الثمانينيّات ما كشف إمعاناً في احتكار “المقاومة” ونزعها عن أيّ مكوّن سياسي خارج حزب الله، والفتك به إلى حدّ العدم.

على هذا فإنّ حزب الله ليس “مقاومة” بالمعنى التاريخي والقانوني والسياسي المتعارَف عليه في العالم. حزب الله هو حزب سياسي عسكري له عقائده وهياكله وقواعده وقياداته، ويعمل وفق أجندة خاصة (داخلية وخارجية) لا يمكن أن تمثّل وحدها مقاومة الشعب اللبناني. وإذا ما أراد الحزب التخلّص من حرجه الميليشياوي بفرض التدثّر القهريّ بـ”المقاومة الإسلامية” بدايةً، لينتهي إلى احتكار صفة “المقاومة” وحصرها به دون غيره، فإنّه من الأحرى باللبنانيّين أن يتعاملوا بالمقابل مع حزب الله بصفته حزباً يملك ما يملك من سطوة وهيمنة وشعبية ونفوذ من دون الإذعان لإدراج “الأمر الواقع” تحت مسمّى “المقاومة”.

أراد الحزب يوماً تغييراً في النظام السياسي يوفّر للحزب مشاركة أوسع داخل الحكم في لبنان، فالأمر سيكون لحساب الطائفة والحزب

وإذا ما شرّع لبنان سلاح حزب الله في البيانات الوزارية أو في مواقف رئاسات البلاد التي تردّد، ولا سيّما على لسان رئيس الجمهورية، حاجة لبنان إلى “المقاومة”، فحريّ باللبنانيّين، احتراماً لـ”المقاومة”، بصفتها قيمة إنسانية عالية، إسقاط “المقاومة” من أدبيّات القانون والسياسة والتاريخ في لبنان، بحيث تُنسب “الانتصارات” إلى حزب الله وتُقِرّ البيانات الوزارية والمواقف الرسمية بـ”أفضال” الحزب على البلد، ويعترف البلد بسلاح الحزب ناظماً في سطوته ليوميّات شعبه.

 

الاعتداء على العرب

باتت “المقاومة” غطاءً يُفرش فوق أنشطة التهريب والإجرام والفساد، وبات أمر الاعتراض على التجاوزات والأوضاع الشاذّة المهينة للمجتمع والبلد يُعتبر اعتراضاً على “المقاومة” وما يستتبع ذلك من اتّهامات بالعمالة. وفيما يختلط أمر “المقاومة” على المؤمنين بها حين يسمعون أخبار تمدّدها صوب سوريا والكويت والسعودية والإمارات والبحرين واليمن وبلغاريا والأرجنتين، وتورّطها في أنشطة التهريب الدولية وتبييض الأموال، فإنّ حزب الله يستحقّ تخليصه من “مقاومة” باتت بالية لا تصلح للتدثّر أو نسج العباءات.

حتى زعيم حزب الله يُسقط “مقاومته” من السجال المتعلّق بخطّيْ الحدود البحرية 29 و23 متمترساً وراء “الدولة”. وحين يأتي الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين ليبلغ اللبنانيين علناً بأنّهم “لا يملكون شيئاً” للعناد، تسكت “الدولة” وتصمت “المقاومة” إلى أن تتعطّل مفاوضات الدوحة النووية، فتطلّ إيران عبر الحزب بثلاث مسيّرات إيرانية “استطلاعية وغير مسلّحة” فوق كاريش.

إقرأ أيضاً: 40″ حزب الله”… 40 سنة من الانتصارات على لبنان

هذه فقط وظيفة “المقاومة”.

إذا أراد الحزب يوماً تغييراً في النظام السياسي يوفّر للحزب مشاركة أوسع داخل الحكم في لبنان، فالأمر سيكون لحساب الطائفة والحزب، فأين “المقاومة” من ذلك؟! وحين تلتقي جهة أجنبية مع مسؤول في حزب الله فهي لا تلتقي بـ”المقاومة”، بل بحزب لبناني قال قائده يوماً إنّه مسلّح ومموّل من طهران، وإنّ ولاءه للوليّ الفقيه في إيران. أمّا “المقاومة” فهي تفصيل ما زال يسهل تسويقه.

 

* كاتب لبنانيّ مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…