هل أتت زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية لبيروت لتستأنف زماناً انقضى وقته، ومكاناً لم يُمحَ من الذاكرة بعد؟
الحديث هنا عن “اتفاق القاهرة” الذي عُقِد عام 1969، والذي رعته العاصمة المصرية حينذاك.
أشرف على صيغة الاتفاق، الذي أعطى شرعيّة العمل لمنظمة التحرير الفلسطينية تحت قيادة ياسر عرفات، الرئيس جمال عبد الناصر الذي رحل بعد أقلّ من عام تاركاً إرثاً ثقيلاً على اللبنانيين، ظلّت أشباحه تظهر في يوميّات لبنان حتى بعدما ألغى مجلس النواب الاتفاق عام 1987 في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990).
ما أراده عبد الناصر من اتفاق مرحليّ لفضّ الاشتباك ونزع فتيل الاقتتال بين لبنانيّين ولبنانيّين، منقسمين بين تأييد الكفاح الفلسطيني المسلّح ورفضِه من داخل أراضي لبنان، ما لبث أن أضحى أحد أسباب تأجيج الحرب الأهلية في سنوات لاحقة
تتقاطع معطيات ومعلومات موثوقة عن دور منتظر في هذه الأيام العصيبة، لم ينقطع أصلاً، للعاصمة المصرية القاهرة في سبيل الوصول إلى حلّ يرسم معالم المستقبل اللبناني
تمرّ السنوات بعد الحرب الدامية نحو الاستقرار الذي أرسته سنوات الرئيس رفيق الحريري منذ إنجاز اتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية عام 1989 حتى تغييبه بالتفجير في يوم 14 شباط 2005 الأسود.
دونما الخوض في الكثير ممّا جرى مذّاك، فقد اشتعلت النار تحت مياه التسويات الافتراضية حتى كادت تتبخّر آخر قطراتها مشرِّعةً لبنان أمام كلّ أنواع الابتلاءات والصدمات.
من ثورة الأرز 2005، وحرب تموز 2006، وأحداث نهر البارد 2007، إلى أحداث 7 أيار 2008 التي قادت إلى “اتفاق الدوحة” وما تلاه من إسقاطٍ بالانقلاب على حكومة سعد الحريري الأولى في عام 2010.
كلُّها مزامير تُتلى ومسامير تُدقّ في الجسد الحيّ لبلد لم يُمنح الفرصة الكاملة يوماً للحكم الذاتي أو تقرير المصير (وهذه مسؤوليّة مواطنيه). ثمّ كان “الربيع العربي” عام 2011 وما تزال حمولاته وأثقاله جاثمةً على الصدور بعد مرور عقد من الزمن على أحلام ورديّة تحوّلت إلى كوابيس تطارد العرب في أقصى الأرض.. وهذا حديث يطول. وكانت فاتورة لبنان باهظة من الحرب السورية، أهوالاً وانقساماتٍ وتفجيراتٍ، ثمّ مليون ونصف مليون نازح سوري.
دور مصر الآتي
إذا بقي لبنان، وهو باقٍ كيفما كان على فرض أنّ الأوطان لا تزول، فلا غنى عن العودة إلى دستور الطائف، وهذه المرّة بتطبيق ما لم يُنفَّذ من بنوده.. ولا شيء آخر.
تتقاطع معطيات ومعلومات موثوقة عن دور منتظر في هذه الأيام العصيبة، لم ينقطع أصلاً، للعاصمة المصرية القاهرة في سبيل الوصول إلى حلّ يرسم معالم المستقبل اللبناني الذي لا يدعو للتفاؤل حتى تاريخه.
لم يعد هناك مكان لالتقاء اللبنانيين في نزاعاتهم التي لا تنتهي وتربّص بعضهم ببعض، سوى العاصمة المصرية التي يقودها منذ عام 2014 الرئيس عبد الفتّاح السيسي.
يدفع عقلاء كُثر في الداخل والخارج على خطّ الأمان وإمكانيات الحلّ التي يمكن أن توفّرها الجمهورية الجديدة التي أطلقها السيسي للجمهورية اللبنانية المتهالكة التي يطلّقها أبناؤها تباعاً.
هذه المرّة ستكون مهمّة العاصمة المصرية هي تنظيم الوجود اللبناني الفلسطيني المشترك تسلّحاً، والمتمثّل بحزب الله والفصائل الفلسطينية التي يرعاها الحزب في مخيّمات لبنان، والتي يبدو أنّ الحزب أفردَ لها أخيراً مساحة ودوراً أكبر وأوسع في المرحلة المتمادية صعوبة في لبنان في قابل الأيام؟
إنّ دوراً مصريّاً يتمّ الكلام عنه وتتراكم آمال حدوثه عبر مؤتمر تستضيفه القاهرة وترعاه جامعة الدول العربية وتزكّيه السعودية وفرنسا الأكثر اهتماماً في دول الغرب باستقرار لبنان، قد يكون الأمل الأخير لقطع الطريق على سيناريوهات الحروب المتناسلة قبل الاصطدام بحائط اليأس وجلجلة الآلام والبكاء على الوطن المتناحر والمنتحر!
تؤكّد معطيات ومعلومات تتراكم أنّ الرئاسة المصرية جاهزة وحاضرة، إذا ما تبيّنت جدّيّةً من كلّ الأطراف اللبنانية في إرادة الوصول إلى تسوية ناجزة تضع “اتفاق الطائف” ولمرّة واحدة على سكّة التطبيق من دون تسويف ولا مواربة
إنّ دوراً مصريّاً يتمّ الكلام عنه وتتراكم آمال حدوثه عبر مؤتمر تستضيفه القاهرة وترعاه جامعة الدول العربية وتزكّيه السعودية وفرنسا
باريس أيضاً تنتظر
تدرك باريس تماماً أنّ استئناف خطواتها على خطّ إيجاد حلول للأزمات والفراغات في مواقع السلطة في لبنان في القريب العاجل (بعدما انتهت الانتخابات التشريعية في فرنسا بخسارة رئيسها للأكثريّة البرلمانية بعد فوزه أخيراً بولاية رئاسية ثانية!)، يمرّ بالضرورة بالقاهرة. فالعاصمة المصرية هي الطرف الوحيد القادر على فهم واستيعاب الهواجس السعودية خصوصاً، والخليجية عموماً، في لبنان كطرفٍ ضامن بين المملكة وفرنسا.
بسبب كلّ المياه التي جرت تحت نهر ما عاشه لبنان خلال السنوات العشر الماضية بوجه خاص، لم يعد هناك من مكان مأمون لتكريس نهائيّة الطائف دستوراً لبنانياً ناجزاً، يُصار إلى تطبيق ما لم يُطبَّق منه من بنود وإن أُدخلت إليه بعضُ التعديلات المتفاهَم عليها، والتي لا تمسّ جوهر دستور الجمهورية الثانية.
في عالم المصالح التي على أساسها يتمّ التعامل بين الدول، لن يجد لبنان اليوم وغداً، مثل الأمس القريب والبعيد، سوى الحاضنة والبيئة العربية. وهذه لا تقوم لها قائمة أو يؤسِّس لها منطلَقاً إلّا طائرة بجناحين: السعودية شرقاً ومصر غرباً. وما عدا ذلك ليس هناك إلّا الأوهام ومجازفات إلقاء الكلام على عواهنه بلا بصيرة أو تبصّر.
لا بأس بإعلان الأمين العامّ لحزب الله السيد حسن نصرالله تمسّكه أخيراً في أحد خطاباته بذِكر نهائية عروبة لبنان وانتمائه غير القابل للنقاش، ولو أنّ الكلام جاء في سياق رواية ملتبسة حول الدور العربي في لبنان منذ النكبة عام 1948!
فليترفّق الأمينُ العامّ للحزب باللبنانيين ويُرفِق الكلام العامّ ببيان خاصّ للمحازبين والمناصرين لعدم المزايدة في هذا الموضوع مِن قِبَل كلّ مَن يرتبط بالحزب من مؤيّدين، لأنّ واقع الحال أنّ هجوماً دائماً ضدّ السعودية والإمارات ودول الخليج تحديداً صار من مفردات نشرات الأخبار ونقاش الحال في وسائل التواصل وكلّ المرئي والمسموع ممّا هو محسوب على حزب الله من الإعلام والإعلان.
إذا اغتنم اللبنانيون فرصة كهذه، وأمسكوا بلحظة كهذه، قد يحوّلون مسار الانهيار إلى جرأة الاختيار، ومعه لعلّهم يطوون اتفاق القاهرة الأوّل من الذاكرة، ليُسقطوا محلّه اتفاق القاهرة 2 (تطبيق الطائف) على الحاضر والمستقبل، بلا سلاح منفلت وحدود سائبة ودولة لا تُرى بالعين المجرّدة.
إقرأ أيضاً: بعد إسماعيل هنيّة… الترحّم على اتّفاق القاهرة
وبدل أن يسافر اللبنانيون أفواجاً وجماعات بحثاً عن فرص عمل وعيش كريم توفّره القاهرة في سنوات الرئيس السيسي ويفتقدونه في بلدهم.. لعلّ الزعيم المصري يزور لبنان متوّجاً اتفاقاً لجمهورية لبنانية جديدة.
.. وما نيل المطالب بالتمنّي!