ما إن اغتبط وزير السياحة وليد نصّار بقبول حزب الله استبدال صور القادة الإيرانيين على طريق المطار بشعار “أهلا بهالطلّة” الترويجي للموسم السياحي هذا الصيف، حتّى أطلق حزب الله ثلاث مسيّرات “غير مسلّحة” باتجاه “حقل كاريش”، معيداً تذكير الجميع، مقيمين وسيّاحاً ودولاً عربية وأجنبية، أنّه هو دون سواه سيكون نجم هذا الصيف الساخن، وأنّه هو دون سواه مَن يتحكّم بدرجات سخونته. أمّا المهاجرون اللبنانيون والسيّاح العرب والأجانب، إن أتوا، فعليهم ألّا يكتفوا بحساب فارق الأسعار بين الليرة والدولار وبين أسعار لبنان والخارج، إنّما عليهم أيضاً أن يحتسبوا بدقّة المخاطر الأمنيّة التي يمكن أن تطرأ هذا الصيف، فيستعدّوا لعيش مغامرة سياحية فريدة من نوعها، ودائماً تحت شعار “أهلا بهالطلّة”!
جاء إطلاق حزب الله للمسيّرات الثلاث ليؤكّد دوره المحوريّ في المعادلة اللبنانية التي باتت بسبب نشاطه داخل لبنان وخارجه جزءاً من معادلة إقليمية ودولية أوسع، وبالتحديد في ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل
ليس القصد القول إنّ حزب الله ضدّ السياحة أو إنّه يستهدف مشروع الوزير نصّار الطموح. لكنّ الهاجس السياحي ثانوي لدى الحزب ولو كان السيّاح يزورون عمليّاً دولته. إذ تؤدّي دولاراتهم “الفريش” تلقائيّاً وظيفة سياسيّة ما دامت تذهب إلى خزائن “الاقتصاد الأسود” الذي تديره السلطة الحاكمة بدوائرها المختلفة. وهو ما يجعل أيّ سياحة في الأراضي اللبنانية سياحة مقاوِمة بشكل من الأشكال. وهو ما يؤكّد أنّ الحزب قادرٌ على تدوير كلّ ما يدور على الخريطة اللبنانية لمصلحته، من الانتخابات إلى السياحة إلى السياسة ومفاوضات الترسيم.
هكذا جاء إطلاق حزب الله للمسيّرات الثلاث ليؤكّد دوره المحوريّ في المعادلة اللبنانية التي باتت بسبب نشاطه داخل لبنان وخارجه جزءاً من معادلة إقليمية ودولية أوسع، وبالتحديد في ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
التوقيت الإيراني
توقيت إطلاق هذه المسيّرات الثلاث ليس لبنانياً بحتاً لأنّ ملفّ الترسيم ليس ملفّاً لبنانياً فقط، بل هو ملّف تتقاطع عنده العديد من المصالح الإقليمية والدولية، سواء المصلحة الإسرائيلية أو الإيرانية أو الأوروبية – الأميركية، باعتبار أنّ الأزمة في أسواق النفط العالمية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا زادت من أهميّة هذا الملفّ في ظلّ التطلّع الأوروبي – الأميركي إلى زيادة مصادر إمدادات الغاز إلى القارّة الأوروبية تعويضاً عن الغاز الروسي الذي يسعى الغربيون إلى تقليص ثمّ إنهاء حاجتهم إليه.
هذا ما يفسّر الاهتمام الإيراني البالغ بهذا الملفّ عبر حزب الله، وهذا ما يفسّر توقيت إطلاق هذه المسيّرات الثلاث، غداة فشل الجولة الأولى من المفاوضات بين الأميركيين والإيرانيين في العاصمة القطرية الدوحة، وعشيّة زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة، وتحديداً لإسرائيل والسعودية، وهو ما يزيد من الاهتمام الإيراني بهذه الزيارة ونتائجها على المستوى الإقليمي.
لذلك تختار إيران التصعيد “المحسوب” في جنوب لبنان عبر المسيّرات الثلاث، وربّما في اليمن حيث بدأت تصدر إشارات إعلامية عن استعداد الحوثيين لجولة جديدة من العنف، وكلّ ذلك على حدودِ كلّ من إسرائيل والسعودية. هذا من دون إغفال الحضور القويّ لإيران في كلّ من العراق وسوريا. ففي بغداد استطاعت طهران تعطيل مفاعيل الانتخابات التي لم تأتِ نتائجها لمصلحة حلفائها. أمّا في سوريا فإنّ نفوذها لم يتأثّر على الرغم من الضربات الإسرائيلية المتواصلة على مواقع حلفائها هناك، وإن كانت هذه الضربات تحدّ من قدرة طهران على توسيع نفوذها إلى مناطق تعتبرها إسرائيل خطّاً أحمر، وتحديداً في الجنوب السوري.
نحن أمام ستاتيكو مريح لإيران في المنطقة، ولا سيّما في ظلّ عدم سقوط الأولويّة الأميركية والأوروبية للتوصّل إلى اتفاق مع طهران بشأن برنامجها النووي
حزب الله لن يتنازل
بالعودة إلى لبنان فإنّ حزب الله لا يشعر بضيق أبداً، أو لا يشعر بالضيق إلى حدّ يجعله مضطرّاً إلى التنازل وتليين مواقفه. فهو استطاع بسرعة قياسيّة التأقلم مع نتائج الانتخابات النيابية على الرغم من خسارته الغالبية النيابية مع حلفائه، لكنّ هذه الخسارة الانتخابية لم تتحوّل إلى خسارة سياسيّة حتّى الآن، والدليل نتائج انتخابات رئيس البرلمان ونائبه وأعضاء اللجان النيابية، فضلاً عن مجريات تكليف الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة.
خلاصة الأوضاع في لبنان وسوريا والعراق واليمن أنّ إيران مطمئنّة إلى حجم نفوذها في هذه الدول الأربع التي قالت عنها سابقاً إنّها تحت سيطرتها. فهي نجحت في الاستثمار في بؤر اللااستقرار في المنطقة، وبدأت تحصد نتائج توسّعها الإقليمي، ولا سيّما أنّ مشروعها لا يواجه عوائق سياسيّة وعسكرية كبرى في كلّ من العراق ولبنان وسوريا، باستثناء القصف الإسرائيلي لمواقعها هناك، مع الأخذ في الاعتبار غياب أيّ مشروع عربي واضح لصدّ النفوذ الإيراني في هذه الدول العربية المشرقيّة الثلاث. أمّا في اليمن فإنّ تحالف السعودية والإمارات قد نجح في كبح جماح الحوثيين للسيطرة على كامل البلاد.
إذاً نحن أمام ستاتيكو مريح لإيران في المنطقة، ولا سيّما في ظلّ عدم سقوط الأولويّة الأميركية والأوروبية للتوصّل إلى اتفاق مع طهران بشأن برنامجها النووي. علاوة على ذلك، لم تتّضح بعد آفاق الحديث عن إنشاء منظومة أمنيّة إقليمية برعاية أميركية لمواجهة النزعة التوسّعية الإيرانية، ولا يُتوقَّع أن تعدّل واشنطن كثيراً في استراتيجيّتها لتقليص حضورها في المنطقة. تصبّ كلّ هذه العوامل في نهاية المطاف في مصلحة إيران التي تنطلق من موقع قوّة في مفاوضاتها مع الأميركيين على الرغم من وضعها الاقتصادي الصعب، وعلى الرغم من اختراق إسرائيل المتكرّر لمجالها الأمنيّ، لكنّ هذين الخطرين ليسا “مميتين” حتّى الآن لها.
بانتظار أميركا
طهران تنتظر رفع العقوبات الأميركية عنها لتعزيز مواقع نفوذها في المنطقة من خلال زيادة استثماراتها في أذرعها الأمنيّة والعسكرية بغضّ النظر عن الضمانات الأمنيّة التي يمكن أن يشملها أيّ اتفاق دولي معها لهذه الناحية.
لكن في ظلّ الظرف الحالي تتقدّم فرضيّة أن يبقى نشاط إيران وأذرعها محسوباً في المنطقة على فرضيّة أن تصعّد طهران في وتائر صراعها مع واشنطن وحلفائها الإقليميين. وهو ما ينطبق على الأوضاع على الحدود الجنوبية للبنان، حيث تتقدّم فرضيّة التسوية على فرضيّة المواجهة المفتوحة.
لكن إلى حين التوصّل إلى هذه التسوية فإنّ المنطقة قد تشهد مناوشات محسوبة بدقّة على غرار المسيّرات الثلاث، وربّما يكون عدد المسيّرات في المرّة الثانية أكبر، وقد يكون بعضها مسلّحاً من دون أن يُطلق النيران. فالأساس هنا أنّ حزب الله لا يمكنه التراجع عن المعادلة التي رسمها أمينه العامّ بشأن هذا الملفّ، ومفادها أنّه لن يُسمح لإسرائيل ببدء التنقيب في حقل كاريش قبل توقيع اتفاق يضمن حصول لبنان على كامل حقوقه ويسمح للشركات بالتنقيب في البلوكات اللبنانية.
لهذا فإنّ حزب الله في موقع قوّة في هذا الملفّ لأنّ إسرائيل ومعها الأوروبيون والأميركيون مستعجلون لبدء استخراج الغاز من المنطقة، ولأنّ هؤلاء جميعاً لا يريدون تطوّر الأحداث هناك إلى مواجهة مفتوحة بين إسرائيل والحزب الذي لا يسعى الآن إلى مثل هذه المواجهة، لكنّه في المقابل لا يستطيع التراجع عن السقف الذي وضعه أيّاً تكن نتائج تمسّكه به. وهذا أمرٌ لن يعدّل فيه بيان شكليّ كالذي أصدره رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وزير الخارجية عبدالله بو حبيب، والذي يؤدّي إذا ما وُضع في السياق السياسي اللبناني العامّ إلى تغطية نشاط الحزب على الحدود الجنوبية وليس العكس.
إقرأ أيضاً: هل يستقيل الوزراء المسيحيّون من الحكومة؟
يستفيد الحزب أيضاً من الخطوط الفرنسية المفتوحة معه التي تعزّزها الاتصالات المفتوحة بين باريس وطهران، وآخرها الاتصال بين وزيرَيْ خارجيّة البلدين. تريح هذه الخطوط والاتصالات الحزب أكثر، وتجعله يتمسّك أكثر بشروطه على الحدود الجنوبية وفي الداخل اللبناني الذي يُقبل هذا الصيف على فراغ تلو فراغ في الإدارة العامّة والمؤسّسات الدستورية. كلّ ذلك حتّى تتحقّق شروطه في الملفّين الأبرزين، أي مفاوضات الترسيم ورئاسة الجمهورية اللبنانية.