تشهدُ المنطقة سباقاً على صراطٍ أدقّ من الشّعرة بين الانفراج أو الانفجار.
تتسابق المُفاوضات النّوويّة التي انتقلت إلى العاصمة القطريّة الدّوحة، ومؤتمر القمّة التي ستُعقد في السّعوديّة بين الرئيس الأميركي جو بايدن وزعماء 12 دولة عربيّة، وسطَ كلامٍ عن حلف دفاع جويّ عربيّ – إسرائيليّ بقيادةٍ أميركيّة.
لكن ثمّة وجهة نظر تقول إنّ زيارة بايدن إلى المنطقة تأتي في سياق تطمين الحلفاء التاريخيين لبلاده، على مشارف توقيع الاتفاق النووي وما خلّفته الاستعدادات لتوقيعه من غضب عربيّ وإسرائيليّ في الأشهر الأخيرة.
مُفاوضات الدّوحة
في العاصمة القطريّة الدّوحة، عادَت المفاوضات النّوويّة بين إيران والمجموعة الدّوليّة والولايات المُتحدة. ولا بدّ من وضع هذا التطوّر في سياق إقليمي أوسع، لا يبدأ بالهدنة في اليمن، ولا ينتهي بحلحلة أزمة إعادة تكوين السلطة في العراق، وصولاً إلى ما يبدو أنّه تشكيل سريع للحكومة في لبنان. بمعزل عمّا نقلته وكالة “تسنيم” الإيرانية الرسمية، عن أنّ مفاوضات الدوحة لم تحرز أيّ تقدّم بعد. فهذا يدخل في إطار الشدّ والرخي خلال التفاوض.
تُشيرُ معلومات “أساس” من مصدر أميركيّ رسميّ إلى أنّ وزيريْ الخارجيّة القطريّ والعُماني قاما بعدّة زيارات مُنفصلة إلى طهران قبل نقل المُفاوضات إلى الدّوحة
لا يبني كثيرون آمالاً كبيرة على نجاح الاتفاق. إلّا أنّ المسودّة التي وصلَ إليها المُفاوضون في فيينا، شباط الماضي، وكان أساس أوّل من كشف عنها، قد تتحوّل إلى اتفاقٍ كاملٍ، خصوصاً مع عدم رغبة الولايات المُتّحدة بحربٍ أو مواجهة في الشّرق الأوسط تُضافُ إلى الحرب الدّائرة رحاها بين روسيا وأوكرانيا. يُضاف إلى ذلك توجّه تلويح الدّبّ الرّوسيّ بمخالبه نحو مدينة كالينينغراد الحبيسة بيْن عضويْن في حلف النّاتو هما بولندا وليتوانيا ومياه بحر البلطيق.
تبادل الأموال… عبر قطر
تُشيرُ معلومات “أساس” من مصدر أميركيّ رسميّ إلى أنّ وزيريْ الخارجيّة القطريّ محمّد بن عبد الرّحمن آل ثاني والعُماني بدر بن حمّود البوسعيدي قاما بعدّة زيارات مُنفصلة إلى طهران قبل نقل المُفاوضات إلى الدّوحة.
يسعى الوزيران إلى تطبيق سياسة “العودة المُتبادلة” بين واشنطن وطهران، والتي نصّت عليها مسودّة الاتفاق في فيينا. عرضَ الوزير القطريّ على بلاد فارس والعمّ سام أن يلعب النّظام المصرفيّ القطريّ دوراً في نقل الأموال إلى إيران في حالَ تقدّمت المُفاوصات، خصوصاً في صفقة تبادل الأرصدة المُجمّدة مُقابل الأسرى الغربيين في سجون نظام الملاليّ.
بحسب المصدر الأميركيّ، فإنّ واشنطن لم تكن يوماً مُتردّدة في تطبيق مبدأ “الخطوة مقابل خطوة”، إلّا أنّ العقدة الرّئيسيّة تكمُن في مطالب إيران، خصوصاً “ضمانات عدم الانسحاب من الاتفاق مُستقبلاً”.
هذه المطالب كانت راسخة بين سطور كلام وزير الخارجيّة الإيرانيّ حسين أمير عبداللهيان الذي قال إنّ بلاده جادّة في المُفاوضات لكنّها لن تتراجع عن خطوطها الحمراء. هذه الخطوط كان قد رسمها المرشد عليّ خامنئيّ قبل أكثر من سنة، وفي مُقدّمها المُطالبة بضمانات “عدم انسحاب أميركا مُجدّداً من الاتفاق”. لكنّ رأس الدّبلوماسيّة الإيرانيّة لم يُغلق الباب كاملاً، وقال إنّ التوصّل إلى اتفاقٍ مع واشنطن في محادثات الدّوحة “مُمكن”.
تُراهن إيران على أنّ الوضع اليوم مُختلف عمّا كان عليه قبل دخول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أراضي أوكرانيا وارتفاع أسعار الطّاقة عالمياً. هذا ما جعل إدارة بايدن تواجه مأزقاً داخليّاً، إذ يلعبُ التضخّم المُتزايد في الاقتصاد الأميركيّ دورَ النّاخب الأبرز في الانتخابات النّصفيّة في تشرين الثاني المقبل.
الرّهان الإيرانيّ له قواعد متينة. فإنجازات بايدن على صعيد السّياسة الخارجيّة تكاد لا تُذكر. عدا عن فقدانه السّيطرة على أسعار النّفط والغاز. لذا من الأرجح أنّ سيّد البيت الأبيض سيجد ضالّته في طهران، ويضربَ عصفوريْ “إنجاز السّياسة الخارجيّة” و”أسعار الطّاقة والتضخّم” بحجر الاتفاق النّوويّ، خصوصاً مع ضيق الوقت قبل امتحان الشّعبيّة الأكثر جديّة لبايدن في تشرين الثّاني المُقبل…
تسير مفاوضات الدوحة على طريق مترنّح قد تهوي به في القعر في أي لحظة. هذا ما يُستخلص من كلام المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس الذي قال إنّ بلاده “تشعر بخيبة أمل لأن إيران فشلت في الاستجابة بشكل إيجابي لمبادرة الاتحاد الأوروبي ولم يتم إحراز أي تقدم. كما أنها أثارت قضايا لا علاقة لها كلياً بخطة العمل الشاملة المشتركة ويبدو أنها ليست مستعدة لاتخاذ قرار أساسي بشأن ما إذا كانت تريد إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة أو دفنها”.
بعد كلام برايس خرج وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان بكلام معاكس عقب اتصال مع نظيره القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني قال فيه إنّ تقويم بلاده لمحادثات الدوحة “إيجابيّ” وإنّ بلاده “مصمّمة على مواصلة المفاوضات وجادّة في التوصل الى اتفاق.”.
في ظلّ التخبّط هذا، كان لافتاً الاتصال الذي أجراه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. بحسب معلومات “أساس” فإنّ أمير قطر حذّر الرئيس الإيراني من خطورة الوضع ودقّة الموقف في الدوحة، فيما أكد رئيسي أنّ بلاده تريد اتفاقاً جديّاً لكن دون التنازل عمّا سمّاه “ثوابت إيران في المفاوضات”.
لكن ماذا يفعل بين العرب وإسرائيل؟
مع تصاعد العوامل الضّاغطة على بايدن، يبقى هناك عامل ضغط أساسي، لا يقلّ أهميّةً عن العامل الإيرانيّ: “حلفاء” أميركا العرب، وولايتها الـ51، إسرائيل.
على بُعد 1500 كلم غربيّ العاصمة القطريّة الدّوحة، وتحديداً في مدينة جدّة السّعوديّة، سيجتمع بايدن، منتصف شهر تمّوز الجاري، مع 12 زعيماً عربيّاً في مُقدّمهم خادم الحرميْن الشّريفيْن الملك سلمان بن عبد العزيز، ورئيس دولة الإمارات الشّيخ محمّد بن زايد، والرّئيس المصريّ عبدالفتّاح السّيسي.
تؤكّد معلومات “أساس” أنّ بايدن ينويّ تفعيل الحلف الدّفاعيّ بين العرب وإسرائيل في هذا الاجتماع. لكن من يقرأ سعي الإدارة الأميركيّة لإنجاز الاتفاق النّوويّ بتأييد غربيّ وروسيّ وصينيّ، يُدرك أنّ سيّد البيت الأبيض خضع أخيراً للضمانات الأمنيّة والعسكريّة التي طالما طلبها العرب وإسرائيل من أميركا منذ اتفاق باراك أوباما النّوويّ سنة 2015.
على بعد أسبوعيْن من موعد القمّة العربيّة – الأميركيّة، ذكَرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركيّة أنّ الولايات المتحدة عقدت اجتماعاً سريّاً لكبار المسؤولين العسكريين من إسرائيل والدول العربية في آذار الماضي لاستكشاف كيفية التنسيق ضد قدرات إيران الصاروخية وطائراتها المسيّرة، وفقاً لمسؤولين من الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط تحدثوا للصحيفة.
بحسب الصحيفة، كانت المحادثات التي لم يُكشف عنها من قبل، والتي عقدت في شرم الشيخ، هي المرة الأولى التي يحصل فيها لقاء على هذا المستوى بين كبار الضباط الإسرائيليين ونظرائهم العرب، برعاية عسكرية أميركية لمناقشة كيفية الدفاع ضد تهديد مشترك.
وجاء في تقرير الصّحيفة الأميركيّة أنّ واشنطن تأمل العمل على “درع” دفاع جوي متكامل في الشرق الأوسط لعقود آتية من الزمن، من شأنه أن يربط الرادارات والأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار الأخرى بين دول المنطقة… ويمكن اعتبار الأميركيين “غرفة التحكّم والقيادة والتنسيق” في هذا الحلف، الذي لطالما حاول العرب بناء “تكتّلات” مشابهة فيما بينهم، وفشلوا.
ماذا يريد بايدن؟
تأمل إدارة بايدن أن تقطف ثمرتيْن في الحلف الدّفاعي بين العرب وإسرائيل:
الأوّل: طمأنة الحلفاء في الشّرق الأوسط أنّ أيّ اتفاقٍ مُستقبليّ مع إيران لن يكون على حساب أمن الحلفاء، وإعلان تأكيد أميركيّ على التزام واشنطن أمن حلفائها. وهذا ما لم يلمسه المسؤولون العرب خلال السّنوات الماضيّة مع الاعتداءات الإيرانيّة المُباشرة أو عبر الأذرع على الدّول العربيّة، ومع ابتعاد إدارة بايدن عن “الحماية” التي كانت تقدّمها لبعض الدول العربية.
الثّاني: الضّغطُ على إيران، من خلال التحضير لهذا الحلف، بهدف تسريع توقيع الاتفاق والعودة إليه، عبر تخويف إيران من خسارة الاتفاق النّوويّ، ومن أن تصير مُحاصرة أمنيّاً من قبل إسرائيل في وقتٍ واحد.
بالإضافة إلى الضّغط السّياسيّ من العرب وإسرائيل، لا يكمن إغفال ضغط أسعار الطّاقة في في أميركا في العلاقة مع العرب أيضاً. في هذا الإطار يقول مصدر دبلوماسي سعوديّ لـ”أساس” إنّ المملكة مُلتزمة باتفاق أوبك Plus، وإنّ أيّ ضخٍّ لكميّات إضافيّة من النّفط في الأسواق لن يكون إلّا بالتنسيق مع الشّركاء في روسيا والدّول النّفطيّة الأخرى، وأيّ كلام أو رهان خارج هذا الإطار هو بعيد عن الواقع.
إقرأ أيضاً: “أساس” ينشر مسوّدة فيينّا الأوّليّة: هل توقّع إيران؟
هو سباق الـ100 متر الأخيرة، ونهايته شكل جديد للشّرق الأوسط، يكون التّوازن سيّد الموقف بين إيران وحلفاء الولايات المُتحدة العرب وإسرائيل. لكنّ يبقى الخطر في اختلال التّوازن مع ترنّح تل أبيب داخليّاً على وقع انتخاباتٍ جديدة قد تُعيد بنيامين نتنياهو إلى السّلطة… وهذا ما قد يدفع إيران للتّوقيع سريعاً…