أوكرانيا: حرب القرم الثانية… و”خطر” آلاسكا

مدة القراءة 4 د

في عام 1854 وقعت حرب القرم الأولى. اليوم يجري ما يمكن وصفه بحرب القرم الثانية.

أرّخ للحرب الأولى البروفسور أورلندو فيجس في كتاب من 576 صفحة. علّقت عليه صحيفة “نيويورك تايمز” تحت عنوان: “الحرب التي شكّلت العالم المعاصر”. وتبدو الوقائع التي يرويها المؤلّف متماثلة إلى حدّ بعيد مع وقائع الحرب الدائرة اليوم في أوكرانيا.

في حرب القرم الأولى كان صاحب القرار في الكرملين القيصر نيقولا، وكان مؤمناً متشدّداً بالمسيحية الأرثوذكسية، ويطمح إلى القضاء على الإمبراطورية العثمانية لإعادة الاعتبار إلى مدينة إسطنبول لتكون الفاتيكان الثاني، عاصمة المسيحية الأرثوذكسية. ولذلك كان يعتقد أنّه سوف يتلقّى الدعم من الدول الأوروبية، وخاصة من بريطانيا وفرنسا. يؤكّد ذلك ما أطلقته الأدبيّات الروسية في ذلك الوقت على الحرب واصفةً إيّاها بأنّها “حملة صليبية جديدة”.

غير أنّ حسابات القيصر نيقولا كانت خاطئة. فبريطانيا التي كانت تحتلّ الهند (درّة التاج البريطاني) كانت تخشى عليها من أطماع التوسّع الروسي. ولذلك كان همّها كسر الشوكة الروسية بأيّ ثمن للمحافظة على تلك “الدرّة”. وقد ذهبت إلى احتلال أفغانستان لتقطع الطريق أمام الخطر الروسي المحتمل.

في عام 1854 وقعت حرب القرم الأولى. اليوم يجري ما يمكن وصفه بحرب القرم الثانية

كانت الحسابات البريطانية في ذلك الوقت تقوم على أساس أنّ مزيداً من القوة الروسية يعني مزيداً من الخطر على الهند. ولذلك وقفت بريطانيا إلى جانب الإمبراطورية العثمانية، ليس حبّاً بها، بل كرهاً بروسيا. وهذا ما لم يتوقّعه القيصر ولم يحسب له أيّ حساب.

 

المسيحية المنحرفة

حتى في الإطار الديني، كما يؤكّد المؤلف، كانت بريطانيا تصف في ذلك الوقت الأرثوذكسية الروسية بأنّها مسيحية منحرفة. وكانت ترى في الإسلام أكثر عقلانية وأكثر انفتاحاً. ولذلك كانت حرب القرم الأولى حرباً دينية، لكن داخل المسيحية، أي بين الأرثوذكسية (الروسية) من جهة، والكاثوليكية (الفرنسية – البريطانية) من جهة ثانية. وكانت كذلك حرباً بين نظامين سياسيَّين، نظام ليبرالي تعتمده فرنسا وبريطانيا، ونظام قيصري مطلق تعتمده روسيا.

عرفت حرب القرم الأولى استخدام الأسلحة الحديثة للمرّة الأولى في التاريخ، من البنادق إلى السفن الحربية “البخارية”. كما عرفت للمرّة الأولى أيضاً الاتصالات البرقيّة. وعرفت كذلك الطبيب الحربيّ والمراسل الحربيّ. وهو ما تشهده اليوم حرب القرم الثانية، بدءاً من الأسلحة الصاروخية الحديثة، والسفن الحربية المتطوّرة، والاتصالات الإلكترونية المشفّرة، وصولاً إلى النقل الحيّ للوقائع الحربية التي تتناقلها أجهزة التلفزة لحظة بلحظة في مشارق الأرض ومغاربها.

ما حدث في مدينة ماريوبول الأوكرانية من حصار دموي طويل، حدث في حرب القرم الأولى في مدينة سيفاستوبول التي استمرّت تحت الحصار لمدّة عام كامل، وانتهت بمجزرة أين منها ما حصل في ماريوبول.

كانت حرب القرم الأولى أوّل حرب حديثة في التاريخ المعاصر. وقد سبقت الحرب الأهلية الأميركية بثماني سنوات فقط.

في ذلك الوقت لم تكن الولايات المتحدة جزءاً من المعادلة ولا طرفاً في الصراع. ولذلك اضطرّت روسيا بعد هزيمتها في الحرب إلى أن تعرض عليها بيع مقاطعة آلاسكا خوفاً من أن تحتلّها القوات البريطانية التي كانت تستعمر كندا في ذلك الوقت. وتمّت صفقة البيع بحفنة من الدولارات لإنقاذ سمعة روسيا القيصرية من هزيمة ثانية محتملة بعد القرم. كانت مساحة آلاسكا تبلغ أكثر من 1.723 مليون كلم مربّع، وبيعت بمبلغ 7 ملايين ومئتي ألف دولار، أي بمعدّل 4 دولارات للكيلومتر المربّع الواحد. وأُبرمت الصفقة في شهر نيسان من عام 1867.

إقرأ أيضاً: بوتين: الانتقام من هزيمة القرم

ومن مآسي التاريخ أنّ روسيا اليوم التي تواجه تحدّيات حلف شمال الأطلسي عبر البوّابة الأوروبية، تواجه الخطر الأميركي… عبر بوّابة آلاسكا.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…