تعذيب العكّاريين في العاقورة: “السُنّة” بلا ظهر رسمي.. أيضاً وأيضاً

مدة القراءة 7 د

ليس الاعتداء الوحشيّ الذي قام به شربل طربيه وصحبه في جرد العاقورة في جبيل، ضدّ مجموعة من العمّال الكادحين، لبنانيين وسوريين، إلا لوحة تعذيب تشبه إلى حدّ بعيد اللوحات التي برع نظام الأسد في تقديمها كي تُخلَّد في متحف الإنسانية. وكما أنّ لـ”الهولوكوست” الأسديّ السرديّات المبرِّرة والدافعة إليه، فإنّ ما قام به طربيه ليس تصرّفاً فرديّاً نافراً مقتطعاً من السياق العامّ ومتمرِّداً عليه، بل يستند إلى سرديّة تاريخية منذ أيام المتصرّفية تفيد أنّ لبنان “الحقيقي” أو “المفيد” هو جبل لبنان بساحله وجرده، ومعه بيروت لاعتبارات جيوستراتيجيّة لا يمكن تجاوزها. أمّا باقي المناطق المضافة إلى لبنان الكبير، فأهلها عمّال ومستهلِكون وناخبون فقط، وليس لهم أن يمتلكوا “الفرادة” التي يتمتّع بها أهل لبنان المفيد، والتي اكتسبوها بالوراثة والتزاوج، وأحياناً بالسكن.

ليست الأولى هذه الحادثة، ومع الأسف لنْ تكون الأخيرة، لكنّها ربّما تكون الأكثر فجاجةً وقسوةً وخدشاً للغلاف الرقيق من الأنسنة، والمدنية التي يحاول كثر الترويج لها، مع أنّ الواقع يشي بعكس ذلك تماماً.

في التفاصيل أنّ شربل أتى بشبان لبنانيين وسوريين لقطف موسم الكرز في أرضه. وكي يتهرّب من دفع أجورهم، اتهمهم بسرقة ساعة يد ونظارات شمسية، وحين أنكروا، استقدم مجموعة شبّان ساعدوه على ضرب العمال بعد نزع ملابسهم عنهم، ضرباً مبرحاً بأدوات حادة وبأسلاك كهربائية، وأظهر فيديو الشبّان يقفون شبه عراة وقد وضعت حبات البطاطا في أفواههم

على الرغم من قسوة الحدث، إلّا أنّ ثمّة إيجابية يجدر التوقّف عندها مطوّلاً، هي تمسّك المعتدى عليهم بالدولة فقط

إنّهم يسرقون خبزنا

بالتوازي مع حصول هذه الحادثة، وذيوع خبرها في الأيام التالية، جرى  ترويج إعلامي ممنهج لرواية اجتياح جحافل سكّان الأطراف لمخابز وأفران مناطق العمق المسيحي، من أوّل بلاد جبيل حتى مداخل بيروت، وتحميلهم مسؤولية فقدان سلعة حيوية مثل الخبز، وهي السلعة التي يهدّد فقدانها بقيام ثورات وزوال عروش.

يُراد من هذه الرواية كيّ الوعي الجماهيري ليترسّخ في أذهان سكّان تلك المناطق أنّ مشكلتهم مع القادمين من الأطراف، لا مع أركان الأوليغارشيا المالية الحاكمة التي تسيطر على السوق بكامله، وتحدّد حصص الأرباح والمعروض من السلع. وتمثّل هذه الحادثة تكراراً لِما حدث عند احتدام أزمة المحروقات من مازوت وبنزين في الصيف الفائت، حين جرى تحميل المسؤولية لصيّادي الفرص القادمين من الأطراف الذين كانوا يفترشون الأرض أمام المحطّات للحصول على المشتقّات النفطية، ثمّ يقومون ببيعها في غالونات محقّقين أرباحاً من الفوارق في الأسعار، مع أنّ الأرباح التي حقّقها هؤلاء مهما كان حجمها تبقى تافهة ولا تُقاس أبداً بالمليارات التي جناها أرباب هذا القطاع. واليوم يُعاد إنتاج الرواية نفسها، وبعدما عشنا فدرالية البنزين والمازوت، ها نحن على وشك أنْ ندخل في زمن فدرالية الخبز، على قاعدة أنّ لكلّ منطقة خبزها، ومَنْ لا يجد في منطقته خبزاً فعليه أنْ يُقلّع شوكه بيده، وكفى الله المؤمنين بالدولة شرّ وزارة الاقتصاد والمؤسّسات الرقابية المُغيَّبة عن العمل. وهذه هي بالضبط ثقافة الفدرلة.

ترسِّخ هذه الثقافة في وعي الناس عدوانيّةً تجاه القادمين من الأطراف، وحتّى لو كان منْ بينهم عشرات العمّال الساعين وراء لقمة عيشهم، والذين يعملون لساعات طويلة مقابل الفتات، وتُضاف إليها مشاعر الفوقية الناتجة عن السرديّة التاريخية للفرادة والتميّز، لتقدّم المسوِّغ والدافع إلى وقوع حادثة العاقورة، وما سبقها وما سيليها.

ترسِّخ هذه الثقافة في وعي الناس عدوانيّةً تجاه القادمين من الأطراف، وحتّى لو كان منْ بينهم عشرات العمّال الساعين وراء لقمة عيشهم

مشهديّة حافلة بالتناقضات

ما يعطي هذه المشهديّة عمقاً ورسوخاً هو تسليم الأجهزة الأمنيّة بما فعله المعتدي وشركاؤه وانحيازها الفاضح إليه، من دون تدقيق أو تمحيص، حتّى بعد ذيوع نبأ ما فعله. ولولا قيام دار الفتوى بالتحرّك عبر اتّصال مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان برئيس الحكومة نجيب ميقاتي لحثّ الدولة على القيام بواجباتها، ولنزع فتيل الأزمة قبل أنْ تتحوّل إلى فتنة، لربّما بقي المعتدي حرّاً طليقاً. ومع ذلك لم تتكبّد مديرية المخابرات في الجيش عناء إصدار بيان لإحاطة الرأي العامّ بما قامت به حيال شهادات المعتدى عليهم التي تشير إلى حضور دورية من عناصر المخابرات لقسم من حفلة التعذيب هذه.

إلى ذلك تحفل مشهديّة هذه الحادثة الأليمة بالكثير من التناقضات والتعارضات. أهمّها الحضور الخجول لقضية من هذا الحجم في وسائل الإعلام وكأنّها حدث عابر، وهي التي تلهج صبح مساء بحقوق الإنسان، وأخيراً بقضية حقوق المثليّين التي يبدو أنّها تفوق قدراً حقّ البسطاء في العيش بكرامة. ومثلها أيضاً جمعيات حقوق الإنسان التي صمتت عمّا حصل صمت المتواطئ أو الموافق.

ومنها أيضاً الصمت الذي ران على نواب عكّار، ولا سيّما نائبا التيّار الوطني الحر أسعد درغام وجيمي جبّور، وهما المعنيّان أكثر من غيرهما بما حصل، ليس لأنّهما مسيحيّان فقط، بل بسبب انتمائهما إلى تيّار عابر للمناطق ولديه حضور نيابي وشعبي واسع في كلّ المناطق ذات الوجود المسيحي، ناهيكم عن هيمنته على كثير من المواقع في الدولة. وكان جبّور بالذات قد عاب على من سبقه إهمال عكّار وشعبها، وقال في أوّل إطلالة إعلامية له إنّ أداءه البرلماني سيكون على مقياس موحّد هو “مصلحة عكّار وأهلها ومصلحة لبنان”. وقال أيضاً إنّ “الدولة المركزية لا تبالي بعكّار لأنّها لا تحاسِب”، وعند أوّل امتحان غاب عن السمع. فهل هذا التجاهل نابع من كون المعتدى عليهم مسلمين، أمْ هل يعتبر درغام وجبور نفسيْهما ممثّلين لِمَنْ انتخبهما فقط؟

 

لا بديل عن الدولة

حتّى النائب وليد البعريني الذي ينتمي بعض من اعتُديَ عليهم إلى عائلته لم يصدر عنه أيّ موقف رسمي. وفضّل أنْ يلتزم مساراً هادئاً، بعكس ما يُحكى عنه، عبر المشاركة في “لقاءات وأد الفتنة” التي يقودها مفتي جبيل غسان اللقّيس، والوقوف خلف الدولة عبر توكيل محامٍ للمعتدى عليهم لمتابعة القضية حتى نواهيها القانونية، مبتعداً عن التصعيد الشعبوي الذي كان كفيلاً بمنحه هالة شعبية كبيرة تتخطّى حدود عكّار. وبالمحصّلة لولا ضغط “السوشيل ميديا” لتمّ سوق المعتدى عليهم إلى السجن ظلماً وجوراً، أو لربّما استمرّ شربل يتسلّى بتعذيبهم لأنّهم ببساطة لا ظهير لهم.

على الرغم من قسوة الحدث، إلّا أنّ ثمّة إيجابية يجدر التوقّف عندها مطوّلاً، هي تمسّك المعتدى عليهم بالدولة فقط. وفي كلّ الشهادات المتعاقبة التي قدّموها لِمَنْ وقف على خاطرهم من وسائل الإعلام لم يطلبوا شيئاً سوى قيام الدولة بمعاقبة الفاعلين بالقانون وحده. لم يهدّدوا ولم يتوعّدوا بالثبور وعظائم الأمور مثلما يفعل البعض في غير منطقة. هؤلاء البسطاء أكّدوا مرّة جديدة أنّ السُنّة لمْ ولنْ يكونوا يوماً إلّا تحت كنف الدولة، فهُم بناة الدول.

المفارقة الكبرى أنّ مَن يعتبر الدولة “دولته” يقوم بأعمال ميليشياوية، ومَن هو متّهَم بالهمجيّة والخروج الدائم على الدولة يعتصم بحبلها ويطالبها بالقيام بواجباتها.

إقرأ أيضاً: “محكمة الحريري”… والطائفة المغلوبة

لقد أظهر اعتداء جرد العاقورة الفارق بين “ثقافة الفدرلة” لدى المُعتدي، و”مفهوم الدولة” لدى المُعتدى عليهم، الذين أكّدوا الحكمة الخالدة بأنّ الفقر هو فقر النفس وليس المال، وثبّتوا المقولة الشهيرة التي رُفعت يوماً في إحدى ساحات عكّار بأنّ “عكّار تريد الدولة لكنّ الدولة لا تريد عكّار”.

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تتوغّل جنوباً: هذه هي حرّيّة الحركة!

بعد انقضاء نصف مهلة الستّين يوماً، الواردة في اتّفاق وقف إطلاق النار، ها هي القوّات الإسرائيلية تدخل وادي الحجير. ذلك الوادي الذي كان في عام…

الموقوفون الإسلاميّون… ملفّ أسود حان وقت إقفاله

عاد ملفّ الموقوفين الإسلاميين إلى الواجهة من جديد، على وقع التحرّكات الشعبية المطالبة بإقرار (العفو العام) عفو عامّ لحلّ هذا الملفّ، الذي طالت مأساته على…

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…