محمّد بن سلمان يواجه تصدير ثورتَيْن؟

مدة القراءة 7 د

لا تنفصل جولة الاستعراض السياسي الهائلة التي نفّذها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عن الزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي جو بايدن للمملكة منتصف تمّوز المقبل. فإذا كان الارتباك هو سمة الاستعدادات الأميركية لهذه الزيارة، وهو الذي بات يُترجم في تصريحات وتناقضات ومقابلات مربَكة لأركان إدارة بايدن، ولا سيّما أمام الإعلام الليبرالي الأميركي، فإنّ الإقدام هو صفة الاستعدادات السعودية، كما ظهر في جولة الأمير محمد على مصر والأردن وتركيا، وكما في استقباله رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، قبل توجّه الأخير إلى إيران، بالإضافة إلى استقبال وليّ العهد السعودي لقائد الجيش الباكستاني الفريق أول ركن قمر جاويد باجوا في جدّة وتقليده، تنفيذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة.

الجامع بين هذه المروحة من العواصم والشخصيّات، أنّها كلّها تقع في فلك الحلفاء الكلاسيكيّين لواشنطن في الشرق الأوسط، لو استثنينا بعض ما يشوب العلاقات بين القاهرة وإدارة بايدن من توتّرات موسمية تتّصل بملفّ حقوق الإنسان والجانب “التبشيري” من السياسة الخارجية الليبرالية لأميركا. عليه، فإنّ الرسالة السعودية لأميركا، التي لم تفُت أعين المراقبين في واشنطن، هي رسالة بسيطة تقول لبايدن، إنّه لا يلتقي الأمير محمد بن سلمان بصفته وزيراً للدفاع، أو وليّاً للعهد، أو الحاكم الفعليّ لبلاده، كما يصفه الإعلام الغربي، بل يلتقيه بوصفه ممثّلاً لدولة قيادية في الشرق الأوسط، لا غنى عنها وعن سلامتها، لاستقرار المنطقة بالمعنيَيْن السياسي والاقتصادي.

تواجه المملكة تصدير ثورتين إليها: ثورة خمينيّة مذهبيّة من إيران، وثورة ليبرالية من واشنطن عبر أجندة حقوق الإنسان والحرّيات السياسية

ولم تكن توسعة بيكار الاستعراض لتشمل تركيا وباكستان، إلّا للقول إنّ التعامل مع السعودية محكوم بإدراك وزنها الإقليمي لا العربي وحسب، بكلّ ما يعكسه ذلك من مواصفات “دولة الضرورة” لاستقرار الشرق الأوسط كلّه. وهي مواصفات نقيضة لصورة إيران التي تتزعّم محوراً من الدول الفاشلة والمنهارة وتتمتّع بعلاقات متوتّرة مع معظم اللاعبين الأساسيّين في المنطقة.

 

الصين وروسيا أيضاً

لم تفُت الأميركيين أيضاً زيارة وزير الخارجية الروسي للسعودية قبل ثلاثة أسابيع بما بدا أنّه استباق روسي لأيّ تفاهمات سعودية نفطية مع واشنطن خارج مندرجات اتفاق “أوبك +” الذي من خلال ضبطه لحصص الإنتاج وأثر ذلك على أسعار النفط، بات يشكّل إحدى أوراق القوّة الجبّارة بيد موسكو في نزاعها مع الغرب من بوّابة الحرب على أوكرانيا.

العين أيضاً على زيارة الرئيس الصيني المرتقبة للسعودية بعد الدعوة التي وُجِّهت إليه في آذار الفائت، وكان من المأمول حصولها بعد شهر رمضان، إلا أنّها تعطّلت بسبب موجة “كوفيد-19” التي عادت تجتاح الصين وفرضت إغلاقات هائلة لعدد من المدن الرئيسية فيها. فالعلاقات الصينية السعودية آخذة في التطوّر على عدد من المحاور، أبرزها التعاون التكنولوجي، والتعاون الصاروخي المحتمَل، وملفّ التبادل التجاري، ولا سيّما النفط، الذي أبدت السعودية بشأنه استعدادات لتقاضي ثمنه باليوان الصيني.

في هذا السياق افتتح عملاق التكنولوجيا الصيني “هواوي” “مركز فضاء المستقبل” في واجهة الرياض، وهو أكبر مركز للمعارض خارج الصين، يضمّ العديد من التقنيّات الحديثة، بما في ذلك القيادة الذاتية والطباعة الثلاثيّة الأبعاد والتحكّم بالروبوتات وغيرها من التقنيّات المبتكرة. وليس خافياً أنّ واشنطن تخوض حرباً شرسة ضدّ “هواوي” وتوسّعها في سوق “شبكات الجيل الخامس”. وقد كان لهذا الملفّ دوره في تعطيل صفقة طائرات “إف-35” الأميركية مع الإمارات العربية المتحدة بسبب اشتراطات أميركية أن تتخلّى أبوظبي عن هذه التقنيّات بذريعة أنّها تتداخل مع حركة اتّصالات الطائرة الحربية الأميركية وتفتح المجال لبوّابات خلفيّة للتجسّس الصناعي الصيني على الصناعات الحربية الأميركية.

سبق أن كشفت وسائل إعلامية أميركية نهاية العام الفائت نقلاً عن وكالات الاستخبارات الأميركية أنّ المملكة العربية السعودية تعمل بنشاط على تصنيع صواريخها الباليستية بمساعدة الصين، كما ظهر في صور الأقمار الصناعية التي عُرِضت في حينه، وهو ما سيكون موضع بحث تفصيليّ في زيارة بايدن المقبلة بعدما كان مادّة نقاش أوّليّ خلال زيارة نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان لواشنطن في أيّار الفائت.

اليورانيوم “والنووي” السعودي

أيضاً كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أنّ السعودية شرعت في تشييد منشأة لاستخراج اليورانيوم في مدينة العلا شمال غربي البلاد بمساعدة صينية، في إطار تعزيز برنامجها النووي ذي الأغراض السلميّة. وفي حين نفت وزارة الطاقة السعودية بشكل قاطع المعلومات الخاصة بالموقع الجغرافي الوارد في تقرير الصحيفة الأميركية، أكّدت في بيان لها أنّ “المملكة تعاقدت مع الصينيين لاستكشاف اليورانيوم في مناطق معينة!!”

لا يمكن بإزاء هذا الواقع السياسي والاستراتيجي المتغيّر في الشرق الأوسط، أن يتمّ حصر الزيارة الأميركية للمملكة بصفقة تبادليّة آنيّة لها علاقة بضخّ المزيد من النفط لتعديل أسعاره على محطات البنزين في أميركا. فهذه النظرة الغالبة على كثير من التقارير التي تناولت العلاقات السعودية الأميركية، ولا سيّما في أميركا نفسها، تنمّ عن قصر نظر استراتيجي خطير وعدم فهم لدقائق الموقف في الشرق الأوسط. يقابل ذلك عدد من الأوراق السياسية التي صدرت أخيراً، وأبرزها دراسة أعدّها مارتن إنديك وستيفن كوك “نشرت “أساس” ترجمتها إلى العربية” تقدّم تصوّراً استراتيجيّاً لإعادة إطلاق العلاقات السعودية الأميركية للعقود المقبلة. ويقوم هذا التصوّر على مصالحة ترتكز على احتواء طموحات إيران الإقليمية، وزيادة الضمانات الأمنيّة من الولايات المتحدة للسعودية مقابل دور سعوديّ أكبر في خفض أسعار النفط، وخفض التصعيد في اليمن، والمزيد من إجراءات التطبيع الدبلوماسي مع إسرائيل.

ويحذّر كوك وإنديك من أنّه “بعد سبعة وسبعين عاماً من اتفاقية روزفلت – عبد العزيز الأصليّة، تتطلّب الظروف المتغيّرة إعادة تقييم لقيمة هذه العلاقة لكلّ جانب، لأنّه إذا لم يتمّ اتّخاذ إجراء عاجل، فإنّ عملية الطلاق جارية بالفعل ومن المرجّح أن تتسارع وتؤذي مصالح الطرفين”.

لكن حتى هذا التصوّر هو تصوّر قاصر. حقيقة الأمر أنّ السعودية لا تثق بالالتزام الحمائي الأميركي، وهي ليست بحاجة إلى واشنطن لتطبيع العلاقات مع إسرائيل التي يجمعها معها عداء مشترك لإيران، وهي صاحبة مصلحة في إنهاء حرب اليمن، بعدما دخلتها من موقع الضرورة لا من موقع الرغبة.

في العمق تواجه المملكة تصدير ثورتين إليها: ثورة خمينيّة مذهبيّة من إيران، وثورة ليبرالية من واشنطن عبر أجندة حقوق الإنسان والحرّيات السياسية. وهي تواجه الثورتين بنفس الدرجة من الاستنفار لأنّ مصير البلاد كلّها على المحكّ.

ما لم تفهم واشنطن خصائص الحالة السعودية ومصالح الأمن القومي كما تعرفها الرياض فإنّ ما ستنتجه زيارة بايدن هدنة مؤقّتة لا أكثر ولا أقلّ في عالم تغيَّر ولن يعود إلى قواعده السابقة في أيّ وقت قريب.

إقرأ أيضاً: تركيا: أهلاً بوليّ العهد السعودي

إذا كانت أيّ استراتيجية، في التحليل الأخير، هي تحديد المصالح القومية ثمّ إدارتها من خلال فهم علاقات توازن القوى، فإنّ السعودية تعمل بلا كلل على تنويع علاقات القوّة الخاصّة بها، ولن تغامر بأن تظلّ أسيرة صعود وهبوط السياسة في واشنطن.

لا تملك المملكة أن تعادي أميركا لكنّ زمن وضع البيض كلّه في سلّتها وحدها ذهب إلى غير رجعة.

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…