في الماضي كانت “الكلّة” لعبة الصبيان المفضّلة. الأجيال الجديدة لا تعرفها. “الكلّة” رأس من الزجاج الملوّن يقذفه الولد بأصابعه. وإذا ما نجح في إصابة “كلّة” الولد الخصم، يربحها. وإذا ما قاومت “كلّة” الخصم الضربة وتكرّر اصطدام “الكلّتين” أكثر من مرّة، كان يُقال “كَلكَلة”، فلا تُحسب الضربة، وتُعاد اللعبة من جديد.
منذ أسابيع تمّ انتخاب نبيه برّي رئيساً للمجلس للمرّة السابعة. وبالأمس سُمّي نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة للمرّة الرابعة. تؤكّد عودة الرجلين أن لا شيء تغيّر. سيستمرّ المجلس النيابي في أدائه منذ ثلاثة عقود. تُقاسِم السلطة التشريعيّة السلطة التنفيذية الوزراءَ والحقائبَ الوزارية، وليست سلطة رقابة على الحكومة. وسيستمرّ المجلس متآمراً مع الحكومة ضدّ الشعب. كيف لا ورئيسا المجلسين من المنظومة، لا بل من رؤسائها؟! “ولا كأنوا عقصهم بَرغوت”، كما تقول والدتي.
لكنّ من الضروري التذكير بأنّ انتخاب برّي وتسمية ميقاتي هما نتيجة خيارات الشعب.
يتباهى المعارضون السياديون أنّ نبيه برّي لم يحصل على أكثر من النصف زائداً واحداً، وأنّ تسمية نجيب ميقاتي جاءت ضعيفة
كيف ذلك؟
الشعب هو الذي استمرّ في ضعفه أمام إغراءات نبيه برّي الوظيفيّة والتوظيفيّة. انتخب كتلة وازنة لحركة أمل، وأعطى رئيسها الأزليّ السرمديّ (كما راعيه السوري السابق حافظ الأسد) أعلى نسبة أصوات تفضيليّة في دائرته. وهذا الشعب هو الذي خضع لتهديدات حزب الله وأعطاه أيضاً أصواته ليحصل على كتلة نيابيّة كبيرة. فاحتكر الثنائي كلّ نوّاب الشيعة. حتى شيعة جبيل خضعوا، خافوا، ولم ينتفضوا. أعطوا الحزب والحركة نائبهم ليُحكِما سيطرتهما الكاملة على نواب الشيعة.
هذا الشعب نفسه هو الذي أعطى مجدّداً جبران باسيل كتلة كبيرة، كتلة نيابيّة ستستمرّ في التحالف مع “الدويلة” ضدّ الدولة، وقادرة على الاستمرار في تعطيل تشكيل الحكومات لأشهر من أجل وزير أو حقيبة وزارية، وقادرة على تعطيل جلسات انتخابات الرئاسة كما فعلت في الماضي لفرض رئيسها مرشّحاً أوحد. عاد الشعب وانتخب الكتلة ذاتها التي رفعت شعار التغيير والإصلاح منذ تأسيسها، عِلماً أنّها لم تغيِّر ولم تُصلِح، لا بل فسُدت وأفسدت في الطاقة والخارجيّة والبيئة… بالمحاصصات والصفقات والتوظيفات.
أعاد الشعب انتخاب السلاح الذي قتله في 7 أيار ودمّر عاصمته في 4 آب، والسلاح الذي حوّل البلاد إلى “غزّة” ثانية، وإلى فنزويلا أخرى، لا بل أسوأ، والسلاح الذي استجلب حصاراً على البلاد بتبعيّته لإيران وانغماسه في حروب المنطقة ضدّ دول المنطقة وأنظمتها.
المعارضة المفكّكة
في المقلب الآخر، عاد الشعب اللبناني وانتخب المعارضة ذاتها التي بدأت تتفكّك منذ عام 2008 إلى أن انفرط عقدها نهائياً تاركةً الساحة سائبةً لحزب الله ليستبيح الدولة ويسيطر على مؤسّساتها. ومن أجل تبرير فعلتها اخترعت تعبير “سياسة ربط النزاع”.
أعطى الشعب اللبناني للقوّات الكتلة النيابيّة الكبرى. وأعطى لبيك المختارة القديم كتلة نيابيّة فاقت توقّعاته، وسيُديرها نجله البيك الجديد. وأعطى حزب الكتائب كتلته النيابيّة التقليديّة من حيث العدد. وأعاد انتخاب أبناء العائلات السياسيّة والماليّة.
المعارضة اليوم كما منذ سنوات، لا تلتقي على موقف، ولا تتّفق على انتخاب رئيس للمجلس ولا على تسمية رئيس للحكومة، ولن تلتقي على شكل معيّن للحكومة. وإذا ما تشكّلت فلن تتّفق على التصويت بالثقة لها أو بحجبها عنها. لا يبدو أنّ أطراف المعارضة سيلتقون على معارضة الحكومة لا على القطعة ولا على مجمل الأداء. وهنا الجريمة الكبرى بحقّ الشعب.
حتى يغيّروا ما بأنفسهم
جاء في القرآن الكريم: “إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم” }سورة الرعد، الآية 11{.
بعض من الشعب اللبناني أراد أن يغيّر ما بنفسه. أوصل إلى الندوة البرلمانيّة مجموعة من النواب سُمّوا بـ”التغييريّين”. انتظر منهم إحداث تغيير ما. لم ينتظر منهم إحداث العجائب مثل انتخاب رئيس للمجلس غير نبيه برّي، أو نزع سلاح حزب الله، أو إنقاذ البلاد من “جهنّم” خلال أيّام. لكن انتظر منهم أوّلاً الاتفاق فيما بينهم لتشكيل كتلة نيابيّة متراصّة لديها مشروع تغييريّ طموح واضح وواقعيّ. وانتظر منهم أن يتخطّوا الخوف من المنظومة وسلاحها، لا أن يعتبروها “مدرسة يجب التعلّم منها”، ولا أن يبرّئوا سلاحها من أيّ مسؤوليّة عن انهيار البلاد ومن وقوفه حجر عثرة أمام كلّ إمكانية للحلّ. على الرغم من كلّ ذلك، لن يفقد الشعب الأمل بالتغيير. سينتظر…
إقرأ أيضاً: باسيل – ميقاتي: صراع على “سلطة” الفراغ..
يتباهى المعارضون السياديون أنّ نبيه برّي لم يحصل على أكثر من النصف زائداً واحداً، وأنّ تسمية نجيب ميقاتي جاءت ضعيفة. لكن يفوتهم أنّ الأوّل متربّعٌ في قصر الرئاسة الثانية لسنوات أربع، والثاني مقيمٌ في سراي الرئاسة الثالثة إلى ما شاء الله في حال وقعنا في فراغ رئاسي متوقَّع.
وإذا ما استمرّت المعارضة على هذا المنوال فما الذي يمنع انتخاب رئيس الظلّ رئيساً فعليّاً؟! وهنا الطامة الكبرى. حينئذٍ سنقول أيضاً “كَلكَلت… عِيدوا الدقّ”. ستُعاد اللعبة. وسيستمرّ “صبيان” الجمهوريّة باللعب بنا وبحاضرنا وبمستقبل أبنائنا.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية