منذ 19 حزيران، دخلت فرنسا مدار “التعطيل”، وباتت تعاني من عوارض “البرلمان العراقي”، بعدما أصيب لبنان بهذه العدوى في 15 أيّار الماضي.
عدوى “الكربجة” في النظام السياسي انتقلت من الشرق إلى الغرب. فبعد لبنان، الذي “ضاعت” الأكثرية فيه، ويتّجه إلى أزمة حكم بسبب تعطّل الآليات التقليدية للنظام السياسي، وبعدما أصيبت بيروت بعدوى بغداد، حيث لا قدرة على تشكيل حكومة ولا انتخاب رئيس للجمهورية، شربا فرنسا من الكأس نفسها.
فقد عجز الرئيس إيمانويل ماكرون عن حصد أكثرية النصف زائداً واحداً في البرلمان، مع الحلف الذي قاده، على الرغم من حصوله على أكبر كتلة، بـ245 مقعداً في المجلس المؤلّف من 577 مقعداً. وكانت المفاجأة تقدّم اليسار غير المسبوق، مع 135 مقعداً، وتقدّم اليمين المتطرّف، بقيادة لوبان، بـ89 مقعداً، في نتيجة غير مسبوقة منذ 50 عاماً.
تحتاج فرنسا إلى ترويض شفّاف، فهي أصبحت إلى حدّ كبير متمرّدة وعصيّة على الحكم، والصورة البيروقراطية مشرذمة ويهدّدها الشلل
فشل ماكرون استتبع بفشل 3 وزراء من حكومته في الفوز بمقاعد في مجلس النواب، ما يفترض حكماً استقالتهم وإجراء تعديل وزاري.
هكذا انتهت الانتخابات التشريعية الفرنسية (الدورة الرئاسية الثالثة)، وأُسدل الستار على مسرحها الذي تحوّل إلى مسرح للجريمة بحقّ الجمهورية الخامسة والانتخابات والتمثيل والتشريع والرقابة والصلاحيّات. وضاع “الصوت المفيد” بانخفاض التصويت على نحو كبير بنسبة بلغت 70% عند الناخبين الفرنسيين من الشريحة العمرية تحت 25 سنة، في نتيجة انتقامية عقابية وضعت الكلّ ضدّ الجميع وضدّ أنفسهم أيضاً.
ليس معروفاً إلى الآن مَن هو الفريق المنتصر ومن الخاسر في الحقيقة بسبب هذه النتيجة التي أفرزت جمعية وطنية عامّة فرنسية ببقع برلمانية كالجدري، متنافرة وغير صحّية، وتحتاج إلى علاج عاجل، وكأنّها جائحة جدري قرود ملوّنة تضرب السلطة التشريعية الفرنسية والجمعية الوطنية وتبرقع أيضاً قبّة قصر “البوربون” العريق، على الرغم من تقدّم فرقاء واختراق آخرين وخسارة ماكرون طموح الأكثرية المطلقة مع احتفاظه بالأكثرية النسبية.
هزيمة الجمهوريّة الخامسة
تحتاج فرنسا إلى ترويض شفّاف، فهي أصبحت إلى حدّ كبير متمرّدة وعصيّة على الحكم، والصورة البيروقراطية مشرذمة ويهدّدها الشلل، وهنالك احتمالات عدّة لهذه النتيجة:
– إمّا لأنّ الجمهورية الديغولية لم تكن إلا على قياس شارل ديغول، وهي تنتظر ديغول جديداً لم يأتِ بعد، إذ فشل ماكرون في أن يكونه.
– وإمّا لأنّ الأفرقاء السياسيين غير جديرين بها، ولم يفهموها، وهم كلّهم على غير قدر المقام والمقال حتى.
– وإمّا أنّ الأمر يتعلّق بغضب الجمهورية ذاتها ومؤسّساتها التي نبذت كلّ الجسم السياسي المتملّق والمخادع كالبحر الذي يرفض الأجسام الميتة. فهي قد هزمت الجمهوريين والاشتراكيين أوّلاً، ثمّ اليمين واليسار بكلّ أطيافهما، وها هي حركة النهضة الماكرونية آخر الخاسرين. هي نبذتهم كلّهم لأنّهم خرجوا على تقاليدها وقواعدها وأوقعتهم في مصيدتها.
هل انهزمت الجمهورية الخامسة الفرنسية؟ أم فقط انهزمت أحزابها السياسية وكوادرها وتجمّعاتهم الواقعية ووكلاؤهم؟
وهل انتقمت الدولة الفرنسية لنفسها ومن نفسها ومنهم لمبادئها السامية “الحرّية، الأخوّة، والعدالة” الثلاثية الأبعاد؟
هل تبعثرت القوى البشرية المؤيّدة والمؤسّسة للأحزاب التقليدية العتيقة بانية الجمهورية الخامسة؟
لقد هزمت الجمهورية الخامسة كلّ الأفرقاء الفرنسيين اللاعبين على المسرح السياسي المحلّي في مشهد تسوده قتامة شديدة السوداوية، ووجّهت فرنسا الدولة صفعة لهذه الجمهورية بالذات، فلا ندري بالحقيقة هل هي حرب تصفية لكلاء الدولة المخادعين لإخلالهم بمبادئها وأهدافها التي أقسموا عليها، وبها أُسِّست الجمهورية والدولة؟ أم هي هزيمة لفرنسا وبعثرة إضافية لها، أم هي خطة مرحلية نتيجة تحالف بين الدولة والجمهورية لاستكمال عمليات التطهيرالفرنسية؟
أنتجت الانتخابات التشريعية في عام 2022 عشر مجموعات نيابية ذات أكثرية وازنة، وأكثرية هذه المجموعات تعود للمعارضة وعددها 7، ومنها 3 كتل قادرة على طرح آليات سحب الثقة
العراق في الإليزيه
خيّم شبح الخسارة على الجميع بسبب نتائج هذه الانتخابات:
1- فقد خسر ماكرون وحلف “معاً”، الأكثرية المطلقة. وباتا ليس فقط عاجزين عن الحكم، بل وأيضاً عاجزين عن أن يحكّا جلدهما من دون التشاور.
2- وخسر جان لوك ميلانشون رئاسة الحكومة على الرغم من الاكتساح اليساري للبرلمان، ولا سيّما تكتّل اليسار وفرنسا الأبيّة.
3- وخسر يمين مارين لوبان المتطرّف على الرغم من حصده نتيجة تاريخية بالاختراق الذي سجّله في الانتخابات لأنّه لا يستطيع أن يحكم وغير فعّال في المعارضة ولا يريد التحالف. فهو إذاً “موجود وعليه أن يفكّر” عملاً بمقولة الفيلسوف ديكارت.
4- كذلك الأمر بالنسبة إلى الحزبين الجمهوري والاشتراكي التقليديّين في الجمهورية الخامسة.
هكذا ظهرت في فرنسا معضلة الضمور والانسداد في العمل البرلماني، على الطريقة العراقية.
للوهلة الأولى يبدو أنّ فرنسا قد تواجه “انسداداً” في مؤسساتها السياسية، ما يقود إلى تلكّؤ تشريعي أو “كتام برلماني” تحت قبّة قصر البوربون. وهو عجز سوف يقيّد ذراع الأغلبيّة ويقوّي أذرع قوى المعارضة.
فهل سيتحوّل البرلمان الفرنسي إلى “اللابرلمان”، أي البهتان التشريعي في إقرار القوانين، وإلى مكان للاجتماع من أجل الاجتماع فقط، بحكم هذه التوليفة التي أفرزها الاستحقاق؟ وهل يتكرّر المشهد نفسه للمرّة الأولى منذ عام 1958 بفعل تكرار الفرنسيين لتصرّفاتهم وليس بسبب تكرار التاريخ لنفسه؟
أكثريّة ثلثَيْ المجموعات الفائزة للمعارضة
أنتجت الانتخابات التشريعية في عام 2022 عشر مجموعات نيابية ذات أكثرية وازنة، وأكثرية هذه المجموعات تعود للمعارضة وعددها 7، ومنها 3 كتل قادرة على طرح آليات سحب الثقة، وهو ما يردّنا مباشرةً إلى النظام البرلماني الهشّ غير المتوازن الذي شهدته فرنسا أثناء حكم الجمهورية الرابعة، والذي يفيدنا بعدم استطاعة الأكثرية تمرير القوانين بسهولة، وبعجز رئيس الجمهورية عن تطبيق البرنامج الذي انتُخب من أجله.
سنشهد مع ذلك تمزّقاً داخليّاً في صفوف المعارضة التي لا تتحدّث بصوت واحد، تماماً مثل تحالف أطياف اليسار وليس كتلة اليسار نفسه الواحدة. وقد يشوّش الاختراق الذي حقّقه اليمين المتطرّف بحصوله على مجموعة وازنة المشروع السياسي لكلّ من اليسار وحزب الرئيس، مع ما تبقّى من الجمهوريين المعارضين. وهو الحزب العنيد اليمينيّ الذي يواجه خيارين أحلاهما مرّ. فهو إمّا منقسم على نفسه وسيعارض للمعارضة والمناكفة لكي يقول أنا موجود، وإمّا خائف على نفسه من خطر الابتلاع من “معاً” الماكرونيّ إذا أقنعه وقال له “هيا بنا معاً” لنحكم.
إقرأ أيضاً: لهذه الأسباب بوتين يربح الحرب!
إنّ ماكرون في مأزق حقيقي وكبير، فهو يشهد على قضم ولايته، وبات نوعاً ما يملك ولا يحكم إلا في الدفاع والخارجية. لذا يبحث عن الائتلاف المناسب للحكم، وفرنسا أمّ المؤسّسات محرجة جدّاً من الانقسام السياسي في البلاد، والجمهورية الخامسة عاجزة ومشرذمة مع اتّساع رقعة عدم التفاهم بين الشعب والمؤسّسات وتحلُّل الثقة بينهما.
فرنسا واقعة في قلب لعبة سياسية معقّدة جدّاً، ويبدو أنّها مصابة بجائحة جدري القرود والجنون السياسي، وإذا لم تسلم منها بمعادلة معيّنة في القريب فستؤدّي بها بلا أدنى شكّ إلى المجهول المؤسّساتي.