بوتين يريد موسكو… “روما الثالثة”

مدة القراءة 7 د

في عام 1054 انقسمت الكنيسة المسيحية إلى قسمين: غربية كاثوليكية مركزها روما، وشرقية أرثوذكسية مركزها إسطنبول.

بعد مرور حوالي خمسمئة عام انقسمت الكنيسة الكاثوليكية. إذ انشقّت عنها حركة تصحيحية أطلقت على نفسها اسم الكنيسة البروتستانتيّة التي تُعرف اليوم باسم الكنيسة الإنجيليّة، وهي في الواقع عدّة كنائس، لكلّ منها اجتهاداتها الخاصّة بها.

بعدما حافظت على وحدتها منذ الانشقاق الكبير عن روما، فإنّ هذه الكنيسة تواجه اليوم صراعاً بين جناحَيْها الأساسيَّين: موسكو برئاسة البطريرك الروسي كيريل، وإسطنبول برئاسة البطريرك بارثالوميو

لم تعترف الكنيسة الكاثوليكية بالأرثوذكسية وبالإنجيلية بشكل رسمي وعلني إلا في عام 1965 إثر انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني وصدور وثيقة “نوسترا إيتاتي” (ومعناها حالة عصرنا). المجمع الذي انعقد بمبادرة من البابا يوحنا الثالث والعشرين واستمرّ بعد وفاته، برئاسة البابا بولس السادس، اعترف في الوقت ذاته بالإسلام، كما رفع التهمة الدائمة عن اليهود على خلفيّة قتل السيّد المسيح وصلبه.

تواجه الآن الكنيسة الأرثوذكسية خطر الانقسام. فبعدما حافظت على وحدتها منذ الانشقاق الكبير عن روما، فإنّ هذه الكنيسة تواجه اليوم صراعاً بين جناحَيْها الأساسيَّين: موسكو برئاسة البطريرك الروسي كيريل، وإسطنبول برئاسة البطريرك بارثالوميو (وهو من أصل يوناني).

لكن هذه المرّة لا يقوم الانقسام على خلفيّة عقدية أو لاهوتية، بل ينطلق من خلاف سياسي. وهو خلاف تنعكس آثاره بصورة مباشرة على الكنيسة الأرثوذكسية العربية في سوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين، وفي دول عديدة أخرى.

“الأرثوذكسية” بين اسطنبول وأوكرانيا

في الأساس ليست إسطنبول، مقرّ البطريرك بارثالوميو، مدينةً أرثوذكسيةً، أو لم تعد كذلك منذ أن احتلّ العثمانيون المدينة في عام 1453، وحوّلوها إلى عاصمة لإمبراطوريتهم، إلى أن نقل أتاتورك العاصمة إلى أنقرة. إلا أنّه منذ ذلك الوقت لم يبقَ لبطريرك إسطنبول سوى الرمزية. أمّا الفعّالية فتحوّلت بحكم الأمر الواقع إلى موسكو، عاصمة الدولة الروسية الأرثوذكسية تحت حكم القيصر، والآن تحت حكم الرئيس فلاديمير بوتين. لكن احتراماً لهذه الرمزية وافق الروس وبقيّة أرثوذكس العالم على اعتبار بطريرك إسطنبول “أوّلَ بين متساوين”، أي أوّل بين بقية البطاركة الأرثوذكس الأربعة عشر المنتشرين في مختلف أرجاء العالم. وهو المنصب الذي يملأه في الوقت الحاضر البطريرك بارثالوميو مدى الحياة.

بيد أنّ هذا التفاهم الداخلي تعرّض للتصدّع، ويتعرّض الآن للانهيار. فالكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا التي كانت تابعة لكنيسة موسكو الروسية منذ عام 1686 قرّرت الانفصال والاستقلال الكنسيّ استكمالاً للاستقلال السياسي لأوكرانيا عن روسيا. وهو الاستقلال الذي أدّى إلى نشوب صراع دمويّ روسي – أوكراني تحوّل إلى مواجهة عسكرية سياسية – اقتصادية، روسية – غربية. فقد وقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى جانب أوكرانيا وكنيستها، وشجّعا، بل وحرّضا، البطريرك بارثالوميو على الاعتراف بالكنيسة الأوكرانية استكمالاً للاعتراف الدولي باستقلال الدولة الأوكرانية.

لذلك أُحيط بارثالوميو على مدى الأعوام القليلة الماضية بكثير من الاهتمام والتقدير في أميركا وأوروبا ولدى الفاتيكان بصورة خاصة. وعلى النقيض من ذلك وصف وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف قرار البطريرك بارثالوميو بالاعتراف باستقلال كنيسة أوكرانيا عن كنيسة موسكو بأنّه “مثير للفتنة”. أمّا الخارجية الأميركية فقد أشادت بالقرار ووصفت البطريرك بأنّه “رجل حوار وتسامح”.

يدرك البطريرك بارثالوميو معنى اعترافه بكنيسة أوكرانية مستقلّة. فهو لم يُفاجأ بتداعياته السياسية المعقّدة، ولذلك تأخّر كثيراً في إعلان هذا الاعتراف، حتى استنفد كلّ مبرّرات التأجيل. ولمّا أعلن أخيراً اعترافه فجّرت كنيسة موسكو الأزمة في وجهه، وأدانت قراره بشدّة ووجّهت إليه اتّهامات قاسية وشديدة اللهجة، وذلك للمرّة الأولى منذ أن تبوّأ منصبه الديني، كأوّل بين متساوين.

لم يردّ البطريرك بارثالوميو على الهجوم الحادّ الذي تعرّض له، فهو كان يتوقّعه. ولكن ما لم يكن يتوقّعه هو تدخّل الدولة الروسية بقيادة بوتين للضغط على الدول الصديقة لروسيا أو المتحالفة معها لاتّخاذ موقف ضدّه، وبالتالي ضدّ كنيسة إسطنبول.

من الواضح أنّ الرئيس بوتين الذي تخلّى عن الشيوعية واعتنق من جديد المسيحية الأرثوذكسية يريد أن يجعل من موسكو “روما الثالثة”

“روما الثالثة”

هنا تجد الكنائس الأرثوذكسية العربية نفسها بين فكّيْ كمّاشة، وهي الحريصة على وحدة الكنيسة لم تكن. بعضها مرتاحة، وخاصة اليونانية، كبرى الكنائس الأرثوذكسية في العالم، لم تكن مرتاحة في الأساس للحوار الذي تجاوزها، والذي جرى بين إسطنبول والفاتيكان. صحيح أنّ بارثالوميو يونانيّ الأصل، وأنّه يجمع بين الجنسيّتين التركية واليونانية، إلا أنّه تجاوز في حواره مع الفاتيكان الحدود التي يعتبر الأرثوذكس اليونانيون، وخاصة في جبل آثوس الشديد التعصّب للأرثوذكسية، أنّه يجب الالتزام بها.

من الواضح أنّ الرئيس بوتين الذي تخلّى عن الشيوعية واعتنق من جديد المسيحية الأرثوذكسية يريد أن يجعل من موسكو “روما الثالثة”. كانت روما في إيطاليا المرجع الأوّل للمسيحية بعدما اعتنق الملك قسطنطين في العصر الروماني الديانة الجديدة وأعلنها ديناً للإمبراطورية الرومانية. ثمّ كانت إسطنبول روما الثانية بعدما انفصلت الأرثوذكسية عن الكاثوليكية. أمّا روما الثالثة، موسكو، فهي التي يريد الرئيس بوتين أن تكون من جديد الذراع الديني للدولة الروسية، كما كانت في العهد القيصري.

في الأساس ومنذ عام 1453 تطلّع الأرثوذكس اليونانيون إلى روسيا لمساعدتهم في مواجهة المدّ العثماني – الإسلامي. أمّا الآن وخلافاً لِما فعله اليونانيون، فإنّ الأوكرانيّين يتطلّعون إلى كنيسة إسطنبول (روما الثانية) وإلى الدول الأوروبية الكاثوليكية (روما الأولى) لمساعدتهم على التخلّص ممّا يعتبرونه محاولة موسكو فرض هيمنتها السياسية والدينية.

هذا يعني في الحسابات الأخيرة دفع الكنيسة الأرثوذكسية إلى خطر الانقسام بين محورين، شرقي بقيادة موسكو القويّة بذاتها، وغربي بقيادة إسطنبول المستقوية بذوات الآخرين.

المهمّ في هذا الخطر المحدق أنّه لا ينطلق من اجتهادات عقدية، بل يعكس انقساماً سياسياً لم تستطع الكنيسة الأرثوذكسية، حتى الآن على الأقلّ، أن تتجنّبه. لذلك هناك اعتقاد قويّ بأنّ الانقسام الحالي لن يستمرّ، ولا بدّ أن يتأثّر بالمتغيّرات والتحوّلات السياسية. وهذه في حركة دائمة. وتبعاً لذلك لن يكون في مستوى انقسام 1054، الأرثوذكسي – الكاثوليكي، ولا في مستوى الانقسام الكاثوليكي – الإنجيلي.

الاختلافات السياسية متحرّكة ومتغيّرة، أمّا الاختلافات العقدية فإنّها جامدة وثابتة، الأمر الذي يجعلها عصيّة على المعالجة أو على التجاوز، كما حدث مع الإسلام مثلاً في الانقسام السنّيّ – الشيعي.

إقرأ أيضاً: حرب أوكرانيا: قد تكون أكبر مفاجأة لبوتين!

تعرّضت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لشبه إلغاء على يد القيصر بطرس الأكبر في عام 1721، لكنّها تجاوزت هذا الأمر الخطير فيما بعد. وتعرّض رجال الكنيسة في عام 1918 للاضطهاد والتشهير والتنكيل في روسيا، وكذلك في أوكرانيا التي كانت جزءاً من روسيا، لكنّهم خرجوا من تحت الرماد مثل طائر الفينيق (الأسطوري). حتى كنيسة إسطنبول عرفت على مدى ألفي عام من تاريخها موجات صادمة ومحاولات إلغائية، لكنّها صمدت وحافظت على وجودها واستمرارها ورسالتها.

وفي الحالتين، كانت الأخطار تأتي دائماً من خارج الكنيسة. ولذلك استطاعت أن تصمد وأن تستمرّ. هذه المرّة يأتي الخطر من الداخل، الأمر الذي يتطلّب قدراً أكبر من الحكمة في مواجهته وفي التعامل معه. فالقاعدة العامّة تقول إنّه ما دخلت السياسة ديناً إلا وأساءت إليه.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…