ليست الشكوى، التي قدّمها بعض أعضاء بلدية طرابلس بحقّ رئيسها رياض يمق، هي السبب الفعلي في تحويله من قبل وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي إلى النيابة العامة الماليّة. وليست العريضة المقدّمة من الأعضاء أنفسهم هي السبب أيضاً في قرار مولوي الموافقة على تعيين جلسة لانتخاب رئيس جديد ونائب رئيس إثر تمديد ولاية المجالس البلدية لمدّة سنة. فلو كانت هناك حرب حقيقية ضدّ الفساد لسيق المسؤولون إلى السجون زمراً، لكنّ الفساد ما هو إلّا رداء يتمّ إلباسه للشخص المُراد التخلّص منّه، حقّاً كان أمْ زوراً.
كلا القراران دافعهما سياسيّ بحت، حيث يبدو أنّ الرئيس ميقاتي يريد تعويض خسارته الانتخابية عبر تطيير رئيس البلدية، والإتيان برئيس آخر يحظى ببركته، كي يثبت للجميع أنّه الزعيم في طرابلس، وأنّه الأقوى على الساحة السنّيّة، بكتلة نيابية ومن دونها.
تعاني بلدية طرابلس مشاكل جمّة، وهي شبه مشلولة، وتنخر الخلافات بين أعضائها حتّى صار اجتماع مجلسها بحاجة إلى معجزة كيْ يكتمل نصابه
هل مشكلة بلديّة طرابلس بالرئيس فقط؟
تعاني بلدية طرابلس مشاكل جمّة، وهي شبه مشلولة، وتنخر الخلافات بين أعضائها حتّى صار اجتماع مجلسها بحاجة إلى معجزة كيْ يكتمل نصابه. لكنّ هذا الواقع ليس جديداً ولا يتحمّل مسؤوليّته رياض يمق لوحده، بل هو نتاج عطب بنيويّ في بلدية طرابلس، وهو المجالس الائتلافية حيث لا فريق موحّد، بل مجموعة من الأشخاص الذين جمعتهم الإرادة السياسية العليا والذين يفتقرون إلى البرنامج. وفي كلّ مرّة يتمّ تشخيص الحلّ بالتخلّص من الرئيس.
عام 2015 سوّقت الأطراف السياسية الراعية للمجلس البلدي التوافقي أنّ المشكلة في الرئيس نادر غزال، وأنّ التخلّص منه هو الحلّ الذهبي، فتنحّى الأخير تحت الضغط وانتُخب عامر الرافعي بالاتّفاق، فازدادت الأوضاع سوءاً.
في عام 2016 منح الطرابلسيون أصواتهم للتغيير في الانتخابات البلدية. حينذاك، دخل التغييريّون المتحالفون وقتئذٍ مع اللواء أشرف ريفي بلدية طرابلس كما دخل نواب التغيير البرلمان الجديد تواكبهم آمال كبيرة وعريضة، وشعارات برّاقة بإنهاء الفساد والمحاصصات والمحسوبيّات. بيد أنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، ولم تلبث تلك الشعارات أنْ خبت بعد أشهر معدودة، إذ انقسم الناجحون الجدد على أنفسهم، وهم أصلاً ليسوا فريقاً، بل مجموعة أشخاص اجتمعوا في مواجهة مشروع المرأب على ساحة التلّ وقتذاك. فمنهم من دخل سريعاً في “السيستم”، ومنهم من وجد نفسه يغرّد وحيداً من دون فائدة تذكر فآثر الانكفاء. حينئذٍ سارع ريفي إلى التبرّؤ من البلدية ومجلسها سريعاً مخافة أنْ ينعكس الفشل عليه، خاصّة أنّه ذهب بعيداً في نسب الانتصار إليه، وهو العارف بأنّ أهل طرابلس صوّتوا ضدّ تحالف أهل السلطة وليس له.
مرّة جديدة، حُمّل الرئيس أحمد قمر الدين وِزر كلّ الفشل، فكان لا بدّ من تغييره بعدما كاد المجلس البلدي يتحوّل إلى حلبة مصارعة بين الأعضاء، فتمّ انتخاب رياض يمق في حزيران 2019، وكان مرشّح تسوية بين المتصارعين بعد تغطية وفّرها الرئيسان سعد الحريري وميقاتي ووافق عليها فيصل كرامي. وبدل المصارعة والتهجّم بالأيدي تطوّر الأمر إلى إشهار المسدّسات وإطلاق النار داخل الاجتماعات!
دور المحافظ
يُعاد اليوم إنتاج السيناريو نفسه عبر استغلال خلافات الأعضاء، وطغيان الأنا بينهم على حساب مصلحة المدينة، منْ أجل تحقيق انتصار سياسي متعدّد الأوجه. وزير الداخلية بسام مولوي يريد أنْ يقدّم أوراق اعتماده رئيساً محتملاً للحكومة، أو على الأقلّ تثبيت أقدامه حيث هو اليوم في الصنائع، عبر إظهار نفسه أنّه ذاك المحارب العنيد للفساد حتّى في عقر داره، أيْ في طرابلس.
لكنّ السؤال الأبرز الذي تمّ تداوله في الشارع الطرابلسي هو: لماذا لمْ يقُم مولوي بنفس الخطوات تُجاه محافظ الشمال رمزي نهرا الذي يتّهمه الطرابلسيون بأنّه رمز الفساد وحامي أصحاب المولّدات، هل لأنّه لا يريد إغضاب جبران باسيل؟ وفي ذلك غمز من قناة اعتراف مولوي بأنّه ما صار وزيراً إلّا بعدما زار باسيل في داره ونال رضاه.
اللافت أنّ شكوى الفساد كما عريضة الانتخاب تمّ تقديمهما عبر نهرا نفسه. صحيح أنّ المحافظ هو المعبر القانوني الإلزامي لهما، لكنّه لطالما اشتُهر بوضع ما لا يروقه في جوارير مكتبه، غير آبه لا بقانون ولا بسلطة وزير لأنّه مدعوم من العهد وصهره، الأمر الذي يثير الريبة بوجود علاقة ما بين المحافظ ومقدّمي الشكوى أو بعضهم، خاصّة أنّ منهم من اصطفّ إلى جانبه عندما استدعى رياض يمق إلى مكتبه وأهانه ومقام رئاسة البلدية، وهذا ما لم يكن يجدر بهم القبول به مهما كانت الأسباب.
على الرغم من إعلان ريفي براءته من البلدية إلّا أنّ له حصّة داخل مجلسها، وكان يسارع إلى استغلاله في بعض المحطّات المفيدة له
التغيير على الطريقة الميقاتيّة
قبل تحويل يمق إلى النيابة العامّة الماليّة، تقدّم نائبه خالد الوليّ باستقالته التي برّرها بانتهاء الوكالة الشعبية. وانتشرت أنباء في الشارع الطرابلسي عن تغيير قريب لرئيس البلدية، في موازاة تصاعد الحملات على يمق على وسائل التواصل الاجتماعي والمجموعات الإخبارية. وحسب المعلومات.
في الثالث من حزيران قام يمق على رأس وفد من أعضاء المجلس البلدي بزيارة النائب أشرف ريفي لتهنئته بانتخابه في زيارة لافتة لأنّ التهنئة اقتصرت على ريفي فقط من بين نواب المدينة، ولأنّ نصف الوفد المرافق للرئيس هم من الذين وقّعوا على الشكوى المقدّمة ضدّه بتهمة بالفساد، وعلى طلب انتخاب بديل له. فهل أراد يمق من خلال هذه الزيارة التفيّؤ بظلال ريفي لمنع تغييره؟ وهل سرّعت هذه الزيارة في جهود إزاحة يمق؟
إقرأ أيضاً: الاستشارات: صراع شيعي – مسيحي… وعكّار “مركز قوّة”
على الرغم من إعلان ريفي براءته من البلدية إلّا أنّ له حصّة داخل مجلسها، وكان يسارع إلى استغلاله في بعض المحطّات المفيدة له، مثلما فعل عند توزيع المساعدات والحصص الغذائية إبّان تفشّي كورونا. وفي المقابل، فإنّ ميقاتي لن يألو جهداً لمنع ريفي من توسيع نفوذه داخل طرابلس.
ومن الأمور التي تشي ببصمات “ميقاتيّة” عدم اعتماد مرشّح كي يخلف يمق. وذلك عائد إلى كثرة الأعضاء الطامحين إلى تبوّؤ المنصب على قاعدة رئاسة في اليد ولو لمدّة سنة، خير من عضويّة المجلس البلدي الجديد المحفوفة بخطر الخسارة الفاضحة. والمعروف أنّ ميقاتي يجيد استغلال مواقف كهذه بذكاء عبر منح الوعد نفسه لأكثر من شخص في الوقت عينه، وعندما تأزف ساعة الحقيقة يفاجئ ميقاتي الجميع باسم آخر مختلف عن كلّ الذين وعدهم. ومن لا يصدّق فما عليه سوى سؤال أعضاء لائحة “للناس”.