حلّ أميركي للمنطقة: “حارِب إيران بسلاحها”

مدة القراءة 11 د

هاريسون براندون مورغان Harrison Brandon Morgan – The Strategy Bridge

 

قد تبدو جذّابةً فكرةُ أن تترك أميركا الشرق الأوسط المتقلّب لمصيره نزولاً عند رأي الاستراتيجيّين الأميركيّين الذين يسعون إلى إجهاض الهيمنة الصينية المتزايدة، وكذلك الإمبريالية العسكرية الروسيّة.

الحرب الأهليّة في سوريا واليمن إلى جانب الديمقراطيات المضطربة في العراق والسودان، ليست سوى أمثلة قليلة عن التحدّيات الإقليمية لواشنطن. وربّما يكون سحب الرئيس جو بايدن للقوات الأميركية من أفغانستان في آب 2021، مجرّد صدى للإحباط الأميركي العامّ من الانخراط في الشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين. في الواقع، تشير المواقف الأميركية المتناقضة أمام الضربات الأخيرة للحوثيي المدعومين من إيران ضدّ المنشآت النفطية السعودية والإماراتية إلى أنّ واشنطن مستعدّة لتقبّل فكّ الارتباط الاستراتيجي الواسع مع المنطقة، مهما تقع من أحداث، للتركيز على الصين، وعلى روسيا المتورّطة بالحرب. لكنّ يرجّح أنّه سيكلّف واشنطن تكلفة عالية.

الشرق الأوسط من دون هيكل أمنيّ تدعمه الولايات المتحدة، يمكن أن تتفاقم فيه التوتّرات المستمرّة فيه منذ مدّة طويلة، فتتحوّل إلى عاصفة ناريّة واسعة النطاق، وهو ما يقتضي تدخّلاً عسكرياً أميركياً لمنع نشوب أزمة نفط أو تجدّد الإرهاب العابر للحدود. وهذا من شأنه أن يقوّض تماماً رغبة واشنطن في التركيز استراتيجيّاً على منطقة المحيطين الهندي والهادئ. فتأمين المنطقة، وهو ما كان من الاهتمامات الأميركية تقليديّاً، يوفّر ليس فقط مزايا تجارية إيجابية للولايات المتحدة، بل يعزّز أيضاً نظاماً إقليمياً صديقاً لواشنطن مع الحدّ من النفوذ المتزايد للصين وروسيا. لحسن الحظ، يعتمد تحقيق ذلك بشكل أقلّ على القدرات العسكرية، بل أكثر ما يكون الاعتماد فيه على النشاطات الدبلوماسية والاقتصادية. فالقدرة العسكرية الزائدة في الشرق الأوسط، ربّما تكون ذات قيمة عالية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وفي أوروبا الشرقية.

الحرب الأهليّة في سوريا واليمن إلى جانب الديمقراطيات المضطربة في العراق والسودان، ليست سوى أمثلة قليلة عن التحدّيات الإقليمية لواشنطن

تحالف عربيّ إسرائيليّ ضدّ إيران

إنّ إقامة بنية أمنيّة في الشرق الأوسط، تتمحور حول توازن القوى، لهو أمرٌ بالغ الأهميّة للمصالح الأميركية لضمان حرّية التجارة العالمية وموارد الطاقة. والأهمّ من ذلك أنّ العلاقة بين إيران والتحالف العربي الإسرائيلي أساسيّة لضمان النظام الإقليمي واستقراره. لكنّ الاستراتيجية الأميركية الحالية، أي فكّ الارتباط الدبلوماسي وبناء القدرات العسكرية التقليدية لشركاء واشنطن من دول الخليج العربي لا يؤدّيان إلّا إلى تفاقم التوتّرات الإقليمية. والجدير بالذكر أنّ عقوبات الضغط الأقصى التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، بعد انسحابها من الاتفاق النووي لعام 2015، قد قيّدت بشدّة قدرة الحكومة الإيرانية على مضاهاة الأسلحة التقليدية العربية والإسرائيلية. ولكن للتعويض عن ذلك، اعتبرت طهران أنّ الخيار الأفضل هو زيادة الاعتماد على الحرب غير المتوازية asymmetric warfare، وتطوير برنامج نووي عسكري لضمان الأمن الجيوسياسي للدولة. تتضمّن الحرب غير المتوازية استخدام فيلق الحرس الثوري لتزويد حزب الله بما يقرب من 130 ألف صاروخ رخيص الثمن لتنفيذ ضربات كبيرة الحجم ضدّ إسرائيل، ولاختبار إمكانيات القبّة الحديدية. ويكشف استيلاء الحرس الثوري على ناقلات النفط عن رغبة إيران المتزايدة في تحدّي التدفّق الحرّ لموارد الطاقة الحيويّة في مضيق هرمز. أمّا استثمار إيران في الطائرات الحوثية من دون طيّار، والضربات الصاروخية ضدّ الإمارات، وضدّ منشآت النفط السعودية، فيهدّد بزعزعة استقرار أسواق النفط العالمية، فضلاً عن ارتفاع الأسعار بسبب التضخّم والحرب الروسية في أوكرانيا. كما أنّ فرض العقوبات، والهجمات السيبرانية، والعمل السرّيّ المشترك لم تؤدِّ إلا إلى تأخير تطوير إيران لأجهزة الطرد المركزي المتقدّمة، كما أنّ تصنيع الموادّ النووية على حافة الاستعمال العسكري. ولعلّ الأسوأ من ذلك كلّه أنّ ما كان مقدّراً بعد الاتفاق النووي لعام 2015 من أنّ إيران تحتاج إلى عام واحد لتكون قادرة على صنع قنبلة نووية، قد تقلّص الآن إلى 3 أسابيع فقط، منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018.

إنّ استراتيجية الضغط الأقصى قد عرّضت مصالح أميركا في الاستقرار الإقليمي وأمن الطاقة لخطر جسيم. إلى ذلك، أدّى انفكاك الولايات المتحدة عن المنطقة إلى تكديس الأسلحة التقليدية سبيلاً وحيداً لضمان الأمن. وإذا تُرك هذا المسار من دون رادع، فقد ينطوي على تصعيد خطير نحو الصراع الإقليمي، أي نحو حرب شرق أوسطية يمكن أن تعرّض أمن مضيق هرمز وقناة السويس للخطر، الأمر الذي يتطلّب تدخّلاً فعّالاً للقوى الأوروبية والآسيوية التي تعتمد اقتصاداتها بشكل أساسيّ على تدفّق الطاقة والتجارة عبر هذه الممرّات والمضائق. ثمّ إنّ السماح للقوى العظمى الأخرى مثل الصين وروسيا وغيرهما بإعادة هيكلة الكيان الأمنيّ للشرق الأوسط مع تهميش دور الولايات المتحدة، ليس في ميزان المصالح الجيوسياسية للحكومة الأميركية. لذا يُعدّ تجديد اتفاق نووي مع إيران ضرورة مركزية للمصالح الأميركية.

 

أسس نظام إقليميّ

إذا أمكن إبرام اتفاق نووي متجدّد، فسيتمكّن مجلس الأمن مع ألمانيا من تأخير مهلة الاختراق النووي الإيراني من ثلاثة أسابيع إلى ستة أشهر، وإنشاء نظام تفتيش نووي يمكن التحقّق منه، وإحباط أزمة نووية في الشرق الأوسط. مع ذلك، ثمّة من يدعو أميركا إلى رفض الصفقة تماماً. وغالباً ما يقول النقّاد إنّ الفوائد الاقتصادية المرتقبة لإيران من خلال الاتفاق النووي، ستزيد فقط من قدرتها على شنّ حروب بالوكالة، وبناء ترسانة أكبر من الصواريخ والطائرات بدون طيّار في مواجهة واشنطن وشركائها الإقليميّين.

نما الاقتصاد الإيراني بنسبة 13.4? في عام 2016، أي قبل تخفيف العقوبات عليها وفق الاتفاق. وهذا يشير بقوة إلى أنّ إيران ستستفيد من صفقة متجدّدة. لكنّ من المهمّ أن نتذكّر أنّ اشتداد هجمات إيران في المنطقة جاء بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. ومن غير المرجّح أن تتخلّى طهران عن تمويل الحرس الثوري ولا القوى التي تقاتل بالوكالة عنها على المدى القصير. لكنّ من الممكن أن تُدير واشنطن حواراً أمنيّاً يقلّل التوتّرات الإقليمية، ويبني الزخم المطلوب لتحقيق مزيد من الانتصارات الدبلوماسية على المدى الطويل.

يجب تأسيس هيكل أمني إقليمي في الشرق الأوسط يتولّى طمأنة الشركاء العرب والإسرائيليين عبر دعم التحالف دبلوماسيّاً ضدّ هجمات إيران، مع تقديم المساعدة الاقتصادية في أعقاب الضربات الإيرانية. ولردع إيران، يجب على الولايات المتحدة إبداء رغبتها وتصميمها على شنّ ضربات عسكرية مضادّة متناسبة ردّاً على عدوان طهران. ومع ضمانات أمنيّة أميركية، يمكن للتحالف العربي الإسرائيلي إبطاء بناء قوّته العسكرية، وسيقلّل لجوء إيران إلى الحرب غير المتوازية، وسيخفض دورة التصعيد. ومن خلال إعادة تأسيس الردع الأميركي لإيران، ستحصل واشنطن على مساحة أكبر للمناورة للتفاوض على النتائج المرغوبة من الطرفين.

 

الدبلوماسيّة أوّلاً

على سبيل المثال، قد تسعى الولايات المتحدة إلى تقليص بعض قدراتها العسكرية الموضعيّة في المنطقة مقابل وضع قيود قابلة للقياس الكمّيّ على إيران، بشأن ضرباتها العسكرية المباشرة، وكذلك ضربات وكلائها في المنطقة. على وجه التحديد، يمكن للحكومة الأميركية توجيه حاملة الطائرات المتمركزة في البحرين إلى المحيطين الهندي والهادئ بعدما أثبتت طهران أنّها مستعدّة وقادرة على تقليص ضرباتها ضدّ أصول النفط الاستراتيجية في الخليج العربي. ستكون الفوائد التي تعود على الحكومة الأميركية عديدة، فمن ناحية ستضع قيوداً كبيرة على الضربات الصاروخية الإيرانية وعلى ضربات وكلائها، ومن ناحية أخرى ستضيف حاملة طائرات تشتدّ الحاجة إليها في المحيطين الهندي والهادئ.

إلى ذلك، هي مقايضة بتكلفة محدودة، فستحتفظ الولايات المتحدة بكثير من الطائرات الهجومية في جميع أنحاء المنطقة. ويمكنها دائماً أن تقرّر إعادة حاملة الطائرات إذا أطاحت إيران بالاتفاق. الأهمّ من ذلك أنّه سيكون لدى إيران حوافز عدّة لدعم هذه الصفقة: فوائد أمنيّة كبيرة مع تحقيق نصر سياسي محلّيّ ضاغط. وقد انتقد كثير من الإيرانيين تمويل الحكومة للوكلاء على حساب الرفاهية المحليّة. فوق ذلك، يمكن أن تُرسي الصفقة دعائم نظام أمنيّ إقليمي ينبغي أن يسعى إلى معالجة المخاوف الأمنية بشكل حقيقي لجميع حكومات الشرق الأوسط الممتدّة من الخليج عبر شمال إفريقيا، ويُفسح المجال للبحث عن فوائد اقتصادية إيجابية على المدى الطويل.

 

الفرص الاقتصاديّة لاحقاً

مع وجود الإطار الأمني، ستستفيد الولايات المتحدة من عوامل متعدّدة للاستثمار الاقتصادي والتجارة في المنطقة. ويجب أن يكون جهدها الرئيسي الأوّل استكشاف مجالات شحن الوقود الإيراني إلى الاتحاد الأوروبي وإلى الخارج. على المدى القصير، ستؤدّي مبيعات النفط الإيرانية في السوق العالمي إلى خفض للأسعار وتنويع للموارد، وهو ما تشتدّ الحاجة إليه في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.

على المدى الطويل، يمكن أن توفّر إيران ما يصل إلى 20% من احتياجات أوروبا من الغاز، بالنظر إلى إمكانات حقل تشالوس Chalous Field الجديد المكتشف في بحر قزوين. على الرغم من أنّ البعض قد ينتقد هذه الخطوة باعتبارها استبدال مورّد طاقة محفوف بالمخاطر بآخر مثله (إيران مكان روسيا)، إلا أنّه يقلل احتمالات أن يتعرّض الاتحاد الأوروبي لأزمة جيوسياسية تهدّد بحظر شامل لاستيراد الطاقة من إيران كما هو الحال مع روسيا.

كذلك فإنّ رفض الغاز الطبيعي والنفط من كلٍّ من إيران وروسيا سيؤدّيان إلى ارتفاع أسعار الطاقة الأوروبية وإضعاف الاقتصاد بشكل طفيف في جميع أنحاء العالم. ومع تعزيز تجارة الطاقة الإيرانية الأوروبية، يجب على الولايات المتحدة السعي إلى مزيد من فرص الاستثمار في جميع أنحاء المنطقة.

أيضاً يمكن لواشنطن استكشاف فرص الاستثمار والمساعدات لخفض التوتّر بين مصر وإثيوبيا بشأن مشروع سدّ النهضة الكبير. فمع أنّ هذا المشروع يلبّي الطلب المتزايد على الطاقة لسكان إثيوبيا الذين يتكاثرون بسرعة، لكنّه يهدّد أيضاً وصول القاهرة إلى نهر النيل، شريان الحياة التاريخي للحضارة المصرية. وبالتحديد، يمكن للولايات المتحدة أن تسعى إلى المساعدة والاستثمار في احتياجات الطاقة في إثيوبيا، فتحدّ من الاستغلال الكامل للسدّ على حساب مصر. في الوقت نفسه، يمكن لأميركا العمل بمثل ذلك لتعزيز استعمال المياه في مصر وأمنها. وبينما لن يخلو أيٌّ من الاستثمارين من المخاطر، فإنّ البديل المحتمل هو لجوء مصر إلى القوة العسكرية، ويمكن أن يتصاعد إلى صراع إقليمي.

احتمال تهديد خطوط الشحن عبر قناة السويس والبحر الأحمر، مع انخفاض إمدادات الحبوب السودانية، قد يتسبّب بانخراط دول عدّة في الصراع مع تكاليف كبيرة للتجارة الإقليمية والاستقرار الاقتصادي. أخيراً، يمكن للاستثمار الاقتصادي الأميركي الواسع في المنطقة أن يحدّ من دوافع الإرهاب الدولي مع فائدة إضافية: هي مكافحة الاستثمار والنفوذ الصينيَّين.

 

الخلاصة

في حين أنّ مثل هذا النظام الإقليمي قد يبدو بعيد المنال، فإنّ الحكومة الأميركية ستستفيد في الأقلّ، وبشكل كبير، من تجديد الأهميّة الجيواستراتيجيّة للشرق الأوسط. والأهمّ من ذلك، يجب أن يعتمد هذا التركيز على الدبلوماسية والاقتصاد بوصفهما أداتين أساسيّتين لتحقيق توازن مستقرّ للقوى وإرساء نظام إقليمي.

إقرأ أيضاً: حرب أوكرانيا: قد تكون أكبر مفاجأة لبوتين!

البديل المحتمل للتوتّرات المتصاعدة، والصراع الموسّع، والتنازل عن النفوذ الإقليمي الأميركي لمنافسين استراتيجيّين لن يؤدّي إلا إلى زيادة تآكل القوة الجيوسياسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وخارجه. وعليه، سيتعيّن على واشنطن بذل جهود منسّقة لتجديد التقدّم نحو حلّ فلسطيني-إسرائيلي لتحقيق استقرار إقليمي أوسع. سيتعيّن على الولايات المتحدة أيضاً النظر في الآثار المترتّبة على الاعتراف بالأراضي المتنازَع عليها، مثل الصحراء الغربية كجزء من المغرب، ومرتفعات الجولان كجزء من إسرائيل، مع تأكيد أميركا أنّه لا ينبغي استخدام القوة العسكرية لإعادة رسم الحدود، كما في احتلال روسيا للقرم. يجب أن يتطابق التوازن المادّي مع نظيره الأخلاقي. وكما أشار هنري كيسنجر في كتابه “الدبلوماسية Diplomacy“، فإنّ توازن القوى الإقليمي “يقلّل من فرص استخدام القوة”، في حين أنّ “الإحساس المشترك بالعدالة يقلّل الرغبة في استعمال القوة”. فعلاً، إن كان ثمّة أيّ أمل في استكمال المحور العسكري في المحيطين الهندي والهادئ، فيجب على أميركا الالتزام باستعادة الدبلوماسية العالمية في الشرق الأوسط.

 

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدمان لترامب: كانت المرة الأولى أكثر سهولة

العالم هو دائماً أكثر تعقيداً مما يبدو خلال الحملات الانتخابية، وهو اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.. وإذا كان قد تمّ تجاوز الكثير من…

برنامج ترامب منذ 2023: الجمهورية الشعبية الأميركية

“سأحطّم الدولة العميقة، وأزيل الديمقراطيين المارقين… وأعيد السلطة إلى الشعب الأميركي“. هو صوت دونالد ترامب الرئيس 47 للولايات المتحدة الأميركية المنتخب يصدح من مقطع فيديو…

20 ك2: أوّل موعد لوقف إطلاق النّار

في حين أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هيرتسي هاليفي أنّ إسرائيل تضع خططاً لتوسيع هجومها البرّي في جنوب لبنان، نقلت صحيفة “فايننشيل تايمز” البريطانية عن…

نصائح أوروبيّة وكوريّة… للتّعامل مع ترامب

تستعدّ الحكومات الحليفة والصديقة للولايات المتحدة الأميركية، كما العدوّة والمنافسة لها، لتحوّلات مقلقة وإدارة أكثر تقلّباً في واشنطن في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية الأميركية مع…