كان يمكن للانفراج في العلاقات الأميركية السعودية أن يأخذ شكلاً مختلفاً، كأن يستقبل البيت الأبيض زائراً سعوديّاً رفيعاً ليمحو جو بايدن بحفاوة الاستقبال كلّ ما وجّهه من كلام عدائيّ إلى المملكة منذ بداية ولايته. لكنّ الرئيس الآتي من أقصى يسار الديمقراطيّين سيأتي إلى السعودية زائراً بعد أسابيع قليلة من رفض وليّ العهد السعودي الحديث إليه في اتّصال هاتفي، على ذمّة الرواية التي نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال”.
تخيّم على الزيارة المرتقبة منتصف الشهر المقبل ملفّات خلافية كثيرة، من النوويّ الإيراني إلى حرب اليمن، لكنّ العنوان النفطي لا يفتأ يتردّد في الإعلام الأميركي. فالزيارة تأتي على خلفيّة فشل فاقع للدبلوماسية النفطية الأميركية منذ أن عاد الديمقراطيون إلى البيت الأبيض.
بنى بايدن حملته الانتخابية على عداء صريح للصناعة النفطية، ووعود بضخّ استثمارات بعشرات مليارات الدولارات لتسريع التحوُّل إلى الطاقة المتجدّدة
بنى بايدن حملته الانتخابية على عداء صريح للصناعة النفطية، ووعود بضخّ استثمارات بعشرات مليارات الدولارات لتسريع التحوُّل إلى الطاقة المتجدّدة. وكان وعده الشهير بأن يوقف منح التراخيص الجديدة للتنقيب عن النفط والغاز في الأراضي الفدرالية في اليوم الأوّل لدخوله البيت الأبيض. نفّذ الرجل وعده، لكنّ الأزمات أغرقت العالم بعد ذلك. نشبت الحرب الروسية الأوكرانية، فانكشف أمن الطاقة الأوروبي، وقفزت أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها منذ عشر سنوات.
تحوّل الأمر إلى ملفّ ضاغط في السياسة الأميركية الداخلية. فارتفاع أسعار البنزين إلى مستويات قياسية تجاوزت خمسة دولارات للغالون دخل في صلب الحسابات الانتخابية مع اقتراب استحقاق التجديد النصفيّ للكونغرس في تشرين الثاني المقبل.
يأتي بايدن إلى الرياض بعدما استنفد كلّ أسلحته لحلّ مشكلة أسعار الطاقة. بدأ الأمر بوضع الطموحات البيئية في الدرج، وخروج وزيرة الطاقة جنيفر غرانهولم على الملأ مطالبةً شركات النفط الأميركية بضخّ الاستثمارات وزيادة الإنتاج، وتبرّؤ بايدن نفسه بعد ذلك من مفاعيل وقف منح التراخيص الجديدة للتنقيب.
عودة إلى النفط
بيد أنّ السلاح الأخير الذي استخدمه بايدن في سوق النفط كان استراتيجيّاً في الاسم والمضمون، إذ أعلن مطلع نيسان الفائت عن خطة منسّقة مع كبرى الدول المستهلِكة للنفط، مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية، لسحب أضخم كميّة من الاحتياطات النفطية الاستراتيجية، في إطار الآليّة التي تنظّمها وكالة الطاقة الدولية. أعلنت الولايات المتحدة وحدها عن الاستعداد لبيع 180 مليون برميل على مدى ستّة أشهر، بما يعادل ثلث مخزوناتها الاستراتيجية تقريباً، فيما التزمت الدول الأخرى بتحرير ستّين مليون برميل.
كان بايدن يأمل أن تُحدث تلك الخطوة التاريخية صدمة تخفّض الأسعار بشكل ملموس، إلا أنّ شيئاً لم يتغيّر بعد نحو ثلاثة أشهر من ذلك الإعلان، بل إنّ أسعار البنزين واصلت الارتفاع في السوق الأميركية، وظلّت أسعار النفط الخامّ قريبة من أعلى مستوياتها التاريخية. وفوق ذلك تواجه الولايات المتحدة تبعات التآكل السريع للمخزونات الاستراتيجية. فوفقاً لحسابات “واشنطن بوست”، ستؤدّي وتيرة السحوبات الحالية إلى انخفاض المخزونات من نحو 620 مليون برميل في نيسان الفائت إلى أقلّ من 360 مليون برميل في تشرين الأول المقبل، وسيكون ذلك أدنى مستوى لها في أربعين عاماً، وستكون واشنطن بعد ذلك مُجبرة على شراء النفط لتعويض السحوبات، وهو ما سيدفع أسعار النفط صعوداً في الربع الأخير من هذا العام والربع الأوّل من العام المقبل.
ماذا سيطلب بايدن؟ وماذا يمكن للرياض أن تقدّم له من مساعدة؟
المطلب البَدَهيّ زيادة إنتاج النفط للمساعدة في خفض الأسعار. غير أنّ بايدن يعرف مسبقاً أنّ الحديث إلى السعوديّين في الملفّ النفطي له آدابه، فقد جرّب سلفه دونالد ترامب من قبل الضغط لزيادة إنتاج “أوبك بلاس” بلا جدوى، وانتهى به الأمر متعاوناً تحت الطاولة مع قرار خفض الإنتاج الشهير في نيسان 2020. أضف إلى ذلك أنّ مشكلة أسواق النفط باتت أكبر وأعمق. فالعقوبات على روسيا أخرجت من السوق ما يزيد على مليون برميل يوميّاً، فيما تواجه دول عدّة صعوبات في زيادة إنتاجها لأسباب تقنيّة أو أمنيّة أو سياسية. ويكفي أنّ بيانات أوبك الأخيرة أظهرت انخفاض إنتاجها في أيار بنحو ربع مليون برميل يوميّاً، في حين أنّ من المفترض أن يرتفع بالمقدار نفسه بموجب الاتفاق المعلن بين المنظمة وشركائها من المنتجين المستقلّين بقيادة روسيا، المعروف باسم اتفاق “أوبك بلاس”.
اضطراب بايدن
فهم بايدن جيّداً وزن السعودية في أسواق الطاقة. إذ إنّها الدولة الوحيدة التي لديها مليون برميل يوميّاً من القدرة الإنتاجية الاحتياطية التي يمكن استخدامها سريعاً. علاوة على ذلك، أثبتت الدبلوماسية النفطية السعودية براعتها في إدارة توازن السوق منذ أقنعت روسيا بالانضمام إلى تحالف “أوبك بلاس” الذي ينتج نصف الإنتاج النفطي العالمي، وتمكّنت من عقد الاتفاق الشهير لخفض الإنتاج عشرة ملايين برميل يومياً في بدايات جائحة كورونا عام 2020.
في المقابل، بات واضحاً مقدار الاضطراب الذي تعانيه الإدارة الأميركية في طلب الشيء ونقيضه. فهي تريد إخراج النفط والغاز الروسيَّين من السوق، وتريد في الوقت نفسه للمعروض النفطي في الأسواق أن يرتفع، وتريد أن تعادي السعودية وتريد في الوقت نفسه من السعودية أن تعينها في حلّ مشكلة أسعار الطاقة، وتريد أن تعادي الصناعة النفطية وتطلب في الوقت نفسه من الشركات النفطية زيادة الإنتاج.
إقرأ أيضاً: محطّة بايدن “السياحيّة” في فلسطين!
يأتي بايدن إلى المملكة مجرّداً من سحر الكلام الكبير، وربّما يكون شرط نجاح مهمّته أن يتصالح مع الواقع الجديد في أسواق الطاقة، ومن دليلها الميسّر أنّ الإدارة السعودية المتوازنة لتوازنات السوق هي حاجة للأميركيين، بقدر ما هي حاجة للروس.
في النهاية، يبدو أنّ النفط أعاد وضع النقط على الحروف، ويمكن اعتبار أنّ زيارة بايدن إلى المملكة قد أعادت وضع “النفط” على الحروف.