النقاش في الخطوط المرتبطة بالحدود البحريّة مع إسرائيل ذكّرني بالنقاش الشعبي الذي دار في ألمانيا بسبب خسارتها جزءاً من أراضيها بعد الحرب العالميّة الأولى. فالجغرافيا كانت قد أصبحت عِلماً يُدرّس في المدارس والجامعات. والخارطة بمتناول كلّ مواطن في ألمانيا (كما في دول أخرى). بالتالي لم تعد قضيّة جغرافيا الدولة وحدودها محصورة بالطبقة السياسيّة والجنرالات. كان هذا النقاش وراء تأسيس علم الجيوبوليتيك في عشرينيّات القرن الماضي مع الألماني كارل هاوسهوفر.
كما في ألمانيا منذ مئة عام، كذلك في لبنان اليوم. أصبحت مسألة الحدود البحريّة قضيّة رأي عام. نقاشات وحوارات وتحليلات… فالقضية جيوسياسية بامتياز. إنّها قضيّة صراع حدوديّ مائيّ، وصراع على كميّات كبيرة من النفط والغاز، وهما مادّتان استراتيجيّتان، ويمكن أن تثيرا الصراعات الجيوسياسية بين الدول. ما زاد في أن تكون المسألة قضيّة رأي عام سريعة الانتشار هو تطوّر وسائل الاتصال والتواصل. فالخبر ينتشر في اللحظة نفسها. والخارطة لم تعُد أسيرة الكتب والأطالس. إنّها على الشبكة العنكبوتية. نستحضرها ساعة نشاء بواسطة الكمبيوتر أو الهاتف الذكيّ. تتنقّل معنا. جليستنا أينما حلَلنا. هذا لا يعني أنّ الكلّ يعرف قراءتها. وهنا تكمن المشكلة الكبرى! فالمسألة الحدوديّة تتطلّب معرفة كبيرة بالتاريخ والجغرافيا والقوانين الدوليّة. وقلّة من الناس، حتى إنّ قلّة من الذين يتعاطون في هذه القضيّة الاستراتيجيّة، لديهم كامل المعرفة.
فاجأ المنظومةَ الحاكمةَ تحرّكُ المنصّة اليونانيّة واقترابها من الخط 29 وحقل كاريش
ارتباك لبنان
رسميّاً، المفاجأة والارتباك هما سيّدا الموقف. فقد فاجأ المنظومةَ الحاكمةَ تحرّكُ المنصّة اليونانيّة واقترابها من الخط 29 وحقل كاريش. لقد استفاقت من سُباتها. قضية السيادة والحقوق والثروات الوطنيّة ليست طارئة بالنسبة لها. هناك قضايا أهمّ: تقاسم اللجان النيابيّة، رئاسة الحكومة العتيدة، الحصص الوازنة فيها، انتخابات رئاسة الجمهوريّة المُقبلة… كما فاجأها ضغط الرأي العام اللبناني. استنجدت بآموس هوكشتاين. طلبت منه العودة إلى بيروت لاستئناف الوساطة مع العدوّ. بحسب العارفين، لم يبقَ مسؤول في الدولة إلاّ واتّصل بالوسيط الأميركي يطلب منه المجيء. ولكن على أيّ أساس؟ هل على قاعدة الخط 23 أم الخط 29؟ هل استناداً إلى خط هوف أم الخط المتعرّج أم القبول بالاستثمار المشترك للحقول الموجودة في المنطقة المتنازَع عليها الذي كان قد رفضه لبنان معتبراً إيّاه نوعاً من التطبيع مع العدوّ؟… الارتباك سيّد الموقف. الغموض حول الملف ليس غموضاً إيجابياً. في المفاوضات بين الدول يكون الغموض أحياناً وسيلة لمفاجأة العدو أو الوسيط على طاولة المفاوضات. أمّا في الحالة اللبنانيّة فهو نتيجة الارتباك وهروب مَن هُم في السلطة من تحمّل المسؤوليّة الوطنيّة التاريخيّة. هذا إضافة إلى صراع الصلاحيّات بين الرئاسات.
في كلمته أمس الأوّل التي خصّصها لقضيّة الحدود البحريّة واقتراب المنصّة اليونانيّة من الخط 29، لم يأتِ السيّد حسن نصرالله بجديد. هدّد وتوعّد كالعادة. ورفع من معنويّات جمهور “المقاومة المقتدرة”. دعا إلى “توحيد الموقف الرسمي والارتقاء إلى مستوى المعركة الوطنية والخروج من الزواريب السياسية الضيّقة”.
هكذا حاول التبرّؤ من الارتباك اللبنانيّ في هذه القضيّة، علماً أنّ المفاوض الأول منذ العام 2011، في الإطار التفاوضيّ للمسألة الحدودية البحريّة، هو الثاني في الثنائي الشيعيّ. والمفاوض الثاني في القضيّة اليوم هو حليفه الأوّل. حتى الذين يحاولون حشر أنوفهم في هذه القضيّة الوطنيّة الكبرى بواسطة المآدب والولائم، يدورون في فلك الحزب. بالتالي حزب الله هو أيضاً مسؤول عن التخبّط اللبناني في هذه القضيّة الذي زاده انهيار الدولة على كلّ المستويات. وهذا ما يُضعف الموقف اللبنانيّ في المفاوضات.
ابتزاز أميركا
قبل أشهر من “17 تشرين” وبدء الانهيار، وتحديداً في نيسان 2019، زار واشنطن وفد لبناني ضمّ النائبين إبراهيم كنعان وياسين جابر وعلي حمدان (مستشار الرئيس نبيه برّي). فتح هذا الأخير الخرائط لشرح وجهة نظره من الخطوط 23 و29. أغلقها مضيفهم ديفيد ساترفيلد، الذي كان مسؤولاً عن هذا الملف في الإدارة الأميركيّة. قبل الاستماع إلى شروحاتهم قال لهم إنّ لبنان المقبل على الإفلاس والانهيار سيكون مجبراً على القبول بخط هوف الذي كان محور المفاوضات. هذا التهديد عاد وأكّد عليه آموس هوكشتاين في شباط الماضي عندما ابتزّ لبنان، الغارق في الانهيار والمحروم من الكهرباء، للقبول بالعرض الأخير، وهو الخط المتعرّج أو الاستثمار المشترك للحقول في المنطقة المتنازَع عليها.
إقرأ أيضاً: هوكشتاين في بيروت: خذوا قانا.. واتركوا كاريش
إضافة إلى الانهيار، لبنان معزول عربياً ودولياً. ليس لديه أيّ حليف لا عربي ولا دولي يدعمه في موقفه. هذا الموقف اللبناني الضعيف في المفاوضات حول حدوده البحريّة هو جريمة تُضاف إلى جرائم هذه المنظومة الحاكمة التي أوصلت البلاد إلى “جهنّم”. ليست المزايدات والعنتريّات سوى ذرٍّ للرماد في العيون.
أيّ مغامرة عسكرية، يقوم بها الحزب، ستقضي على لبنان كما قضت الحرب العالمية الثانية على ألمانيا التي شنّت الحرب لاسترداد أرض سُلخت عنها بعد الحرب الأولى.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية