أغضبت أثينا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي كان يتحدّث قبل أيام فقط من مناورات “أفس 22” العسكرية التي اختتمت فاعليّاتها في مدينة إزمير بمشاركة 37 دولة، واعتبرتها أنقرة رسالة واضحة إلى اليونانيين.
بعد تصريحات رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتشوتاكيس أمام الكونغرس الأميركي، جيث دعا إلى دعم بلاده في مواجهة السياسة التركية في بحرَيْ إيجة وشرق المتوسط، وطالب واشنطن بعدم الموافقة على صفقة مقاتلات “إف 16” مع أنقرة، قال إردوغان: “لم يعُد هناك شخص اسمه ميتشوتاكيس بالنسبة إليّ. تحدّثنا معهم واتّفقنا على عدم إقحام دولة ثالثة في خلافاتنا، فما الذي فعلته أنت في واشنطن؟”. يتابع إردوغان: “عندما نسأل اليونانيين لماذا بنوا القواعد العسكرية الأميركية على مقربة من حدودنا، يقولون بسبب الروس.. لا تنطلي علينا هذه الحيل يا ميتشوتاكيس. أجدادك يعرفون جيّداً أنّ الفاتورة ستكون ثقيلة”.
المشهد كما يبدو اليوم هو نجاح اليونان في تحويل مشاكلها مع تركيا إلى مشاكل لأنقرة مع الاتحاد الأوروبي وأميركا وحلف شمال الأطلسي
يذكّر الرئيس التركي هنا بهزيمة اليونانيين على يد الأتراك إبّان حرب الاستقلال التركية قبل قرن من الزمن، وإخراجهم من الأناضول، لكنّ الجانب اليوناني يواصل شراء عشرات المقاتلات الأميركية والفرنسية الحديثة، وتوقيع عقود شراء وتحديث فرقاطات مع واشنطن وباريس بهدف قلب التوازنات العسكرية مع تركيا. ما يزعج أنقرة أكثر هو مواصلة اليونان تسليح جزرها التي لا تبعد عن السواحل التركية سوى بعض الأميال بما يخالف الاتفاقيات الموقّعة بين الطرفين، وهو ما دفع وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو إلى الإعلان أنّ بلاده ستبحث مسألة السيادة على جُزر بحر إيجة مجدّداً إذا لم تتراجع أثينا عن قرار عسكرة هذه الجُزر.
تجاوَز التراشق الكلامي بين القيادات السياسية والعسكرية التركية واليونانية التحذير إلى التهديد. أعلن كلا الطرفين أنّه مستعدّ للسيناريوهات الأسوأ. بات أخذ الجزر اليونانية القريبة من اليابسة التركية مشروعاً ما دامت أثينا تخرق اتفاقيات لوزان وباريس، وتنقل السلاح إليها، حسب أنقرة. بالمقابل في أثينا مَن يقول لنا إنّ الجسور المعلّقة التي تربط آسيا بأوروبا فوق مدينة إسطنبول ستكون بين أهداف العمليات العسكرية اليونانية إذا ما نشبت الحرب.
أوكرانيا جديدة؟
إمبراطورية عثمانية تتفكّك في بداية القرن العشرين ودول كثيرة تطمح إلى انتزاع قطع جغرافية واقتصادية وأمنيّة. الصراع التركي اليوناني في إيجة حسمته إيطاليا التي فرضت نفسها على الجزر المتاخمة لليابسة التركية وسلّمتها لليونان عام 1947. كانت تركّز كلّ الاتفاقيات على 12 جزيرة أساسية تريدها أثينا تحت سيادتها مقابل ضمانات تُقدَّم لأنقرة بعدم تسليح هذه الجزر. تتفاعل هذه الأزمة منذ عام 1964، وهي حلقة في سلسلة خلافات ثنائية وإقليمية لا تُعدّ ولا تُحصى بين الجانبين، دفعت أنقرة إلى إنشاء جيش إيجة عام 1974 استعداداً لكلّ السيناريوهات مع أثينا.
لماذا تسير اليوم علاقات تركيا مع العديد من دول المنطقة في اتجاه، فيما تسير علاقاتها مع أثينا في اتجاه آخر؟ ولماذا تبدّدت أحلام ما بعد زيارة ميتشوتاكيس الإيجابية لتركيا في منتصف آذار المنصرم على هذا النحو السريع؟ ولماذا تراجعت باكراً مواقف عامَيْ 2004 و2005 الانفتاحيّة؟ حتى الأمس القريب نجحت قيادات تركية ويونانية في إبعاد شبح الحرب وإبقاء الخلافات داخل علبة الباندورا، لكنّ هناك من يصرّ على فتحها وإخراج السموم لتحقيق أهدافه، فهل يكون لها ما تريد؟
صحيح أنّها شكاوى واعتراضات واتّهامات بخرق اتفاقيات وتعهّدات مقدّمة منذ ستة عقود، وصحيح أنّ هناك تصعيداً عسكرياً ميدانياً تحوّل أكثر من مرّة إلى شرارة إشعال حرب قطع الحلفاء الطريق عليها في اللحظة الأخيرة، لكنّ الأمور والتوازنات والمعادلات تغيّرت هذه المرّة على خط تركيا واليونان، وحماسة بعض العواصم الغربية تتزايد يوماً بعد يوم لتفجير جبهة بحر إيجة ونقلها إلى شرق المتوسط بهدف توريط البلدين في حرب وكالة يكون الطرف التركي هو المستهدَف فيها، فيما تدفع اليونان ثمن ذلك، وكأنّنا أمام مشهد يتكرّر ولا يختلف كثيراً عمّا يجري في أوكرانيا.
أميركا تريد الحرب
تقرّ اتفاقية لوزان عام 1923 بموادّها الـ12 والـ13 والـ15 والمادة الـ14 من اتفاقية باريس 1947 بالسيادة اليونانية على الجزر شرط عدم تسليحها. لكنّ أنقرة تقول إنّ اتفاقية فيينا عام 1969 لقانون المعاهدات تعطيها حقّ الانسحاب من التعهّدات المقدّمة في لوزان وباريس بسبب خروج الجانب اليوناني عن مضمونها. فمتى تندلع الحرب التركية اليونانية؟
ربّما عندما يعلن البنتاغون ساعة الصفر ويقرّر أنّ الأجواء باتت ملائمة لذلك. الذريعة جاهزة، فالأزمة سيفجّرها قرار اليونان المؤجّل بتوسيع مساحة مياهها الإقليمية من 6 أميال إلى 12 ميلاً. وهو ما تعتبره أنقرة “Casus belli”، أي سبباً مباشراً للحرب. فهل تنجح أثينا في الهيمنة على 70 في المئة من بحر إيجة مقابل حبس تركيا في مساحة 10 في المئة؟ سيكون المحرّك واشنطن التي حالت دون هذا الانفجار لسنوات طويلة، لكنّها اليوم هي التي تريده بعد إكمال إنشاء 12 قاعدة عسكرية في اليونان ترى أنقرة نفسها المستهدَف الأول منها، وليس روسيا.
كانت أميركا حيادية حتى الأعوام الأخيرة، لكنّها بدأت تنحاز بشكل علني إلى الجانب اليوناني عبر أكثر من خطوة سياسية وعسكرية:
– اتفاقيات عسكرية استراتيجية مع أثينا تتعلّق بالتسليح والتدريب والتجهيز تحت ذريعة التنسيق بين دولتين أطلسيّتين.
– عرقلة بيع أو تحديث العشرات من المقاتلات الأميركية من طراز إف 16 التي اشترتها أنقرة، إلى جانب قرار إخراج تركيا من مشروع المقاتلة “إف 35”.
– نجاح أثينا في سحب العديد من الأوراق التي كانت تملكها أنقرة في علاقاتها مع أميركا، ووسيلة التسهيل كانت عبر الاتحاد الأوروبي أحياناً وعبر حلف الناتو أحياناً أخرى.
– دعم مشروع منصّة شرق المتوسط لاستخراج الطاقة وتصديرها إلى أوروبا، الذي جمع فرنسا واليونان وإيطاليا وإسرائيل ومصر وقبرص اليونانية تحت مظلّة واحدة في مواجهة الأتراك.
“فرط” حلف الأطلسي
المشهد كما يبدو اليوم هو نجاح اليونان في تحويل مشاكلها مع تركيا إلى مشاكل لأنقرة مع الاتحاد الأوروبي وأميركا وحلف شمال الأطلسي. لم يكن طبعاً ليتمّ ذلك من دون ضوء أخضر أميركي بهذا الاتجاه. كان ثمن هذه المقايضات إلحاق قبرص اليونانية عام 2004 بالمجموعة الأوروبية واستعداد أميركي لمطالبة تركيا بمناقشة مشروع انضمام قبرص اليونانية إلى حلف شمال الأطلسي. لكنّ تذكير تركيا بورقة حقّ النقض التي تملكها في الحلف من خلال الاعتراض على التوسعة الأخيرة عبر ضمّ السويد وفنلندا هي رسالة للغرب كي لا يفكّر يوماً في اقتراح ضمّ قبرص اليونانية إلى الحلف. إنّ تشكيل حلف عسكري بديل من دون تركيا هو الخيار الوحيد أمام أميركا إذا ما كانت ستتمسّك بهذه الرغبة.
إنّ اشتعال الحرب في أوكرانيا، وتحفُّظ تركيا على التوسعة الأطلسية باتجاه السويد وفنلندا، والتقارب التركي الروسي في ملفّات ثنائية وإقليمية، هي مسائل تزعج الغرب وتحرِّك الرماد في موقد العلاقات التركية اليونانية. تريد واشنطن محاصرة السياسة التركية في إيجة وشرق المتوسط وأوكرانيا والعلاقة مع روسيا، وأثينا جاهزة لتقدِّم خدماتها مقابل أن يكون البيت الأبيض إلى جانبها في المواجهة مع أنقرة، وهذا ما تفعله اليوم.
إذ تقول أنقرة التالي:
– اليونان التي وسّعت مساحتها 3 أضعاف ما كانت عليه قبل 200 عام، لا تريد التوقّف قبل إعلان السيطرة الكاملة على بحر إيجة وتضييق الخناق على حركة البحرية التركية هناك. إذا ما نجحت اليونان في توسيع مياهها الإقليمية إلى 12 ميلاً بحريّاً، فهذا يعني أنّ السفن التركية لن تستطيع التحرّك حتى بين إزمير ومضيق الدردنيل عند شنقله.
– جزيرة مايس التي تقع تحت السيادة اليونانية تبعد عن السواحل التركية أقلّ من 2 كلم، بينما تبعد عن السواحل اليونانية 600 كلم.
أغضبت أثينا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي كان يتحدّث قبل أيام فقط من مناورات “أفس 22” العسكرية التي اختتمت فاعليّاتها في مدينة إزمير بمشاركة 37 دولة، واعتبرتها أنقرة رسالة واضحة إلى اليونانيين
– أنقرة ترصد عن قرب التحوّل الكبير في خطط اليونان الحربية والعقود والصفقات التي عقدتها مع العديد من الدول الإقليمية والغربية لتحديث وتطوير منظومتها العسكرية.
– وقرار القيادة اليونانية الذهاب إلى الكونغرس الأميركي، واعتباره مرجعاً لتقديم الشكاوى ضدّ تركيا بدل الذهاب إلى أنقرة والبحث عن صيغة توافقية، إنّما هو نتيجة استقواء اليونان بالمجموعة الأوروبية والإدارة الأميركية الجديدة، ومن بين مؤشّراته ذهاب أثينا إلى تسليح 22 جزيرة من أصل 23 من الجزر اليونانية القريبة من السواحل التركية تمهيداً للإعلان عن توسعة مساحة المياه الإقليمية في بحر إيجة إلى 12 ميلاً بدلاً من 6 أميال.
أما اليونان فتقول التالي:
– ترفض دائماً المواقف التركية وأيّ حديث عن عسكرة الجزر.
– تكرّر أنّ اثينا على استعداد للدفاع عن سيادتها وحقوقها.
– يُنقَل عن وزير خارجية اليونان، نيكوس دندياس، دعوة حلفاء أثينا إلى ألّا يذعنوا “للابتزازات التركية وخطاب أنقرة العدواني”.
– تتّهم أنقرة بأنّها تمارس إجراءات غير مسبوقة ضدّ سيادة اليونان، التي صبرت حتى اليوم ولم تستجب للخطاب المتطرّف من الطرف الآخر لبحر إيجة، لكنّها ستختار الوقت المناسب الذي ستقوم فيه بالردّ، كما تقول قياداتها.
– تتمسّك باتّهامات رئيس الوزراء كيرياكوس ميتشوتاكيس لأنقرة بانتهاك غير مسبوق للمجال الجوّي اليوناني، ويعلن أنّ بلاده جاهزة للتفاوض، لكن ليس على مسائل أساسية غير قابلة للنقاش مثل موضوع الجزر، وحقوق اليونان المائية في بحر إيجة، وبينها حقّها في تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة ومساحة الجرف القاري اليوناني.
صيف حارّ في بحر إيجه
نظرة خاطفة على ملفّات التصعيد في ساحة بحر إيجة وشرق المتوسط، والملف القبرصي، ودخول لاعبين كثر على خطّ هذه القضايا، تعكس حقيقة أنّ موضوع التوتّر في إيجة كان منذ البداية مواجهة “بروكسي Prixy” (حرب وكالة) تخوضها أنقرة مع قوى إقليمية تحرّك الأوراق اليونانية ضدّها. ستمارس واشنطن ضغوطاً كبيرة على أنقرة وأثينا لإلزامهما بما تقول وتريد في ملفّات ثنائية وإقليمية لا بدّ من أخذ مصالح أميركا فيها بعين الاعتبار. يعني عكس ذلك كسب طرف إلى جانبها على حساب طرف آخر، ومحاسبة “المتمرّد” على سياساتها وقراراتها، والمبتعد عن الاصطفاف المعلن منذ 7 عقود. وقد اختارت بقيّة العواصم الغربية الجلوس في مقعد المتفرّج من دون أيّ مبادرة أو تحرّك حقيقي باتجاه الدخول على خطّ الوساطة.
إقرأ أيضاً: هل تنجح تركيا في مواجهة “كابوس” الجوع الدولي؟
قرّرت أثينا التخلّي عن تفاهمات تجميد المناورات البحرية بين شهرَيْ حزيران وأيلول من كلّ عام، حسب الاتفاقيات التركية اليونانية الموقّعة عام 1988. فمكان المناورات التي تريد اليونان تنفيذها هذا العام قريب من سواحل كاش وفتحية السياحيّتين التركيّتين. تدعو أصوات تركية منذ أيام إلى تسريع حسم إعلان مساحة وحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة ومنطقة الجرف القاري التركية لقطع الطريق على أيّة محاولة يونانية باتجاه تضييق الخناق على تركيا في بحر إيجة، إلى جانب مواصلة الإعلان عن مناورات بحرية في مناطق النفوذ المائي التركي من دون توقّف، كرسائل عاجلة لا بدّ منها باتجاه أثينا.
تقول مؤشّرات التصعيد التركي اليوناني على خط إيجة – شرق المتوسط منذ الآن إنّ درجات الحرارة في موسم الصيف الحالي ستكون فوق المعدّل.