المشهد قمّة في السوريالية حين تُصبِح جلسة “كأس وعشا” في منزل نائب هي “مفتاح” إقناع وسيط غير محايد بتعديل بوصلة بلاده في قضية بحجم ترسيم حدود بحريّة. سوّق الياس بو صعب، للأهميّة “الاستراتيجيّة” لاستضافة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في منزله بالرابية “مع مجموعة من المسؤولين” قبل أن يقوم الأخير بجولته المقرّرة على القوى السياسية والأمنيّة. سبقت الزيارة مواقف تلوِّح بالخط 29 من جانب قوى، كرئيس الجمهورية وجبران باسيل، كانت هي نفسها قد “شيطنته” سابقاً أو تبرّأت منه.
من جهة أخرى، أطلّ حزب الله للمرّة الأولى منذ بدء المفاوضات غير المباشرة في الناقورة ليهدّد باستخدام القوّة لمنع إسرائيل من استخراج النفط “فيما لبنان ممنوع من الاستخراج من بلوكاته، ونحن لدينا القدرة المادّية والعسكرية والأمنيّة والمعلوماتية واللوجستية والبشرية لمنع العدو من استخراج النفط والغاز من حقل كاريش”. ورَفَع السيد حسن نصرالله القضية إلى مصافّ تحرير الشريط الحدوديّ عام 2000، بالتزامن مع تسويق قوى سياسية لمعادلة “قانا مقابل كاريش”.
تؤكّد المعلومات أنّ آموس أصرّ على الاقتراح المكتوب في زيارته الأخيرة للبنان في شباط الماضي
لكنّ كلّ ذلك لم يحجب تداعيات أسوأ إدارة لأخطر وأهمّ ملفّ سيادي بحجم تثبيت الحدود البحرية للبنان.
يقول مصدر رفيع لموقع “أساس” إنّ “ما شهدناه هو عبارة عن حفلة تخبيص وتخبّط لا مثيل لها في العالم. ليس تفصيلاً أن لا يتّفق المعنيّون بالملف على ردّ موحّد على اقتراح الوسيط الأميركي، وتجاهل الأمر إلى حين وصول سفينة استخراج الغاز إلى حدود المنطقة المتنازَع عليها”.
تخبيص وتخبّط
كان من نتائج التخبيص أيضاً إبعاد الجيش وحصر دوره بحضور رئيس مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش المقدّم عفيف غيث اجتماعات بعبدا “التقنيّة” أو طلب إحداثيّات وصول السفينة “إنرجين باور” إلى جنوب الخط 29. والأهمّ إبراز “سقف” الجيش العالي، المتمثّل بالخط 29 كخطّ تفاوضي، وكأنّه يُخفي خلفه قراراً بنسف الملفّ والتواطؤ ضدّ مصلحة لبنان.
في المقابل ذكّر قائد الجيش العماد جوزف عون أمس بأنّ “الجيش أعلن موقفه صراحةً بانتهاء مهمّته التّقنيّة، وأنّه يقف خلف السّلطة السّياسيّة في أيّ قرار تتّخذه”، قائلاً: “لسنا معنيّين بأيّ تعليقات أو تحليلات أو مواقف، سواء أكانت سياسيّة أم إعلاميّة. الموقف الرّسمي يصدر عن قيادة الجيش حصراً، وأيّ رأي آخر لا يعبّر عن موقف الجيش”.
مَن يَرِث عون؟
منذ آخر جولة مفاوضات في الناقورة في أيار الماضي بَرَزَ وجود “مركزية” في إدارة الملفّ في القصر الجمهوري، بالتنسيق مع الرئاستين الثانية والثالثة.
لا يزال هذا الواقع قائماً حتى الآن، وعليه بدأت التساؤلات عمّن “يرث” ميشال عون في قيادة دفّة المفاوضات بعد 31 تشرين الأول في حال عدم التمكّن من انتخاب رئيس جديد، خصوصاً أن لا مؤشّرات إلى أنّ حلّ أزمة كاريش وباقي البلوكات سيكون منجزاً قبل هذا التاريخ.
تنحصر دائرة القرار والتأثير في ملفّ الترسيم عمليّاً بين رئيس جمهورية سيُصبِح رئيس جمهورية سابقاً بعد أقلّ من أربعة أشهر، ورئيس حكومة يُصرِّف الأعمال، ومصير تكليفه غامض مجدّداً، وملفّ مصير التأليف أكثر غموضاً.
تمتدّ هذه الدائرة إلى رئيس مجلس النواب الذي قاطع اجتماع السبت تحضيراً لزيارة هوكشتاين والذي حضره المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم والياس بو صعب، وقد لا “يُرصَد” بعد الآن في قصر بعبدا إلا من خلال استشارات التكليف وبعد انتخاب رئيس جديد.
أمّا وليد جنبلاط فيُبلَّغ بـ”إحداثيّات” الملف عند حصول أيّ تطوّر، وخطوطه مفتوحة مع الأميركيين. وكان صوّب أخيراً فجأة على قوى التغيير متحدّثاً عن “مزايدات في ترسيم الخطوط البحرية، إذ أصبحت قوى التغيير والسيادة بسحر ساحر على يسار أطراف الممانعة”.
القول إنّ الجانب اللبناني بات أقرب إلى توحيد “كلمته” على معادلة “الخط 23 زائداً حقل قانا كاملاً”. لكنّ آخرين يرون أنّ محاولة التسويق لبنانياً لمعادلة “قانا مقابل كاريش” لا تصبّ في مصلحة لبنان
تجديد “لا دور” بو صعب
من جهته، “جدّد” نائب المتن الياس بو صعب لدوره في ملف الترسيم الذي أثار سابقاً الكثير من علامات الاستفهام، لكن من موقعه الجديد نائباً لرئيس المجلس.
تكمن أهميّة الموقع فقط في مدى قرب أبو صعب وتنسيقه وتماهيه مع “عقليّة” الرئيس نبيه برّي في الشغل. بعد تجربة إيلي الفرزلي.
وخلافاً لتصريح علنيّ لإلياس بو صعب بأنّ الوسيط الأميركي لم يطلب من الجانب اللبناني تقديم جواب مكتوب على اقتراحه، تؤكّد المعلومات أنّ آموس أصرّ على الاقتراح المكتوب في زيارته الأخيرة للبنان في شباط الماضي. المفارقة أنّ أربعة أشهر مرّت ولم “يَجهز” الجواب اللبناني على اقتراح كان يُفترض أن يُرفض فوراً من دون تردّد. حتى سائلو رئيس الجمهورية عن “الجواب” كانوا يشعرون بنوع من المماطلة غير المبرّرة، ووصلت أحياناً أجوبة من نوع “سليم (جريصاتي) عم بحضّر الجواب”.
إلى ذلك تلقّى عون نصائح بأن يتضمّن الجواب إشارة واضحة إلى حقّ لبنان في تعديل إحداثيّاته انطلاقاً من المرسوم 6433 الذي يشير في البند 3 منه إلى أنّه يحقّ للبنان “مراجعة حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة وتحسينها وتعديل لوائح إحداثيّاتها عند توافر بيانات أكثر دقّة أو وفقاً للحاجة في ضوء المفاوضات”.
الخطّ 23 + قانا
يمكن القول إنّ الجانب اللبناني بات أقرب إلى توحيد “كلمته” على معادلة “الخط 23 زائداً حقل قانا كاملاً”. لكنّ آخرين يرون أنّ محاولة التسويق لبنانياً لمعادلة “قانا مقابل كاريش” لا تصبّ في مصلحة لبنان، وأنّ الردّ اللبناني يجب أن لا يقلّ عن اعتبار حقل كاريش “في منطقة متنازَع عليها”.
في السياق نفسه، بدا لافتاً تلويح رئيس الجمهورية وباسيل للمرّة الأولى بورقة الـ29 باعتبارها الخطوة الأخيرة في حال “عدم الوصول إلى حلّ مرضٍ”.
إذ أفتت معادلة باسيل في نسختها الأخيرة بالآتي: “إرسال مرسوم بالخط 29 في الوقت الخطأ هو موقف غير مسؤول، وعدم إرساله في التوقيت الصحيح هو تخاذل”، معتبراً أنّ “من قام بذلك مارَسَ العنتريّات والبهورة والتشبيح”.
إقرأ أيضاً: لبنان المرتبك يستنجد بهوكشتاين!
بمعنى آخر، يتّهم باسيل المؤسسة العسكرية مرّة جديدة بقلّة المسؤولية بعدما اتّهمه سابقاً بالمسؤولية عن غرق قارب المهاجرين قبالة ميناء طرابلس، معطياً لنفسه حقّ تحديد التوقيت الملائم لطرح ورقة قوّة للبنان. المفارقة أنّ الخط 29 بدا كورقة مساومة بيد مسؤول سياسيّ و”الدولة تتفرّج”.
هذا وجزم باسيل، الذي أطلق سلسلة مواقف تتعلّق بالترسيم قبل ساعات من وصول هوكشتاين، أن لا رأي لبنانياً موحّداً حتى الآن ردّاً على اقتراح الوسيط الأميركي.