للمرّة الأولى منذ إعلان الرئيس نبيه برّي رسمياً اتفاق الإطار لترسيم الحدود البرّية والبحرية جنوباً في تشرين الأول 2020، وانتقال المهمّة دستورياً إلى رئيس الجمهورية، ثمّ تولّي الجيش المفاوضات غير المباشرة برعاية أميركية، قرّر حزب الله التقدّم خطوة إلى الأمام بعد انكفاء، أقلّه في الشكل، عن الملفّ زادت الشكوك حوله بعد إشهار الجيش ورقة الخطّ 29 في مقابل صمت مطبق من حزب الله.
حتّى خطابات الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله خَلَت من المطوّلات في شأن هذا الملف السيادي، فيما دأب نصرالله على التأكيد، منذ ما قبل إعلان اتفاق الإطار: “كمقاومة نقف خلف الدولة، ونحن نثق بالمسؤولين المتصدّين لهذا الملف، ونحن لا نتدخّل فيه”.
بقيت ثقة حزب الله “زائدة بالمسؤولين” بعد انتقال الدفّة إلى يد رئيس الجمهورية وخوض الجيش خمس جولات من مفاوضات الناقورة غير المباشرة، آخرها في أيار 2021، شاهراً “سلاح الخط 29″، في ظلّ غموض كامل في موقف الدولة من “مشروعية” هذا الخط الذي يمنح لبنان، بناءً على دراسات علميّة موثّقة، مساحة إضافية في مياهه الإقليمية تبلغ 1,430 كلم مربّعاً إلى مساحة الـ 860 كلم مربّعاً التي يعترف بها لبنان رسمياً (أي الخط 23) والمودعة إحداثيّاتها في الأمم المتحدة.
يشير مطّلعون إلى أنّ علامات الاستفهام ارتسمت حول صمت الحزب المطبق في شأن إطلاق المحكمة العسكرية أخيراً سراح عدد من المتّهمين بالعمالة وتبرئتهم على الرغم من الأدلّة القاطعة ضدّهم
تكليف الموسوي
كلّ الضجيج الذي رافق الحديث عن تفريط فريق داخل السلطة بحقوق لبنان في حدوده البحرية، والتناقض غير المبرّر في موقف رئيس الجمهورية بين مؤيّد للخط 29 ثمّ مُنقلِب عليه، ومواكبة دول القرار ولبنان لوصول سفينة إنتاج الغاز العملاقة “إنرجين باور” وعبورها قناة السويس حتى لحظة تمركزها جنوب الخط 29، كلّ ذلك لم يدفع الحزب إلى أيّ ردّة فعل باستثناء الإعلان قبل أيام عن تكليف النائب السابق نواف الموسوي بالملفّ.
الموسوي الذي تقدّم باستقالته من مجلس النواب في تموز 2019 على خلفيّة قضية عائلية، عاد بعد غياب طويل من بوّابة ترسيم الحدود البحرية. وفي هذا الإطار يقول مطّلعون إنّ الحزب كلّفه منذ فترة طويلة متابعة تفاصيل الملف في الكواليس، وهو يملك خبرة تقنية طويلة فيه.
في خطبة اليوم قد يكرّس نصرالله الوقت الأطول للحديث عن ترسيم الحدود وموقف حزب الله منه، وكشف خلفيّة تعيين الموسوي مسؤولاً رسمياً عن الملف “من دون أن يُفسّر ذلك كتدخّل في عمل الدولة”، والاستفاضة في تشريح حقيقة الموقف الأميركي المتماهي، برأيه، بالكامل مع الموقف الإسرائيلي.
ثقة بدولة “غير موجودة”
ربّما المفارقة الكبرى في موقف حزب الله من ملف سيادي بهذه الأهميّة هو استمرار “ثقته” بقرار دولة هي عمليّاً منهارة ومُفلِسة وتتخبّط في خلافاتها الداخلية وتجتاحها أزمات ثقة بين مسؤوليها وعاجزة عن تأمين علبة دواء لمريض وكيس طحين مدعوم. فيما تولّى نصرالله على مدى أشهر أخذ المهمّة عنها في توفير المازوت مثلاً للّبنانيين في بعض المناطق وتكريس “حدود برّية” حاضنة لبيئة تقبض “فريش” من دون أن تتأثّر بارتفاع سعر صرف الدولار!
تبدو المعادلة فاقعة جدّاً: في ظلّ تسليم حزب الله بعجز الدولة والجيش عن الدفاع عن حدود لبنان البرّية يأخذ الحزب المُهمّة على عاتقه وصولاً إلى رَبط بيروت باليمن. لكن “في البحر غير”: تسليم كامل وثقة كبيرة بقرار الدولة، العاجزة والمنهارة إيّاها، وبقدرتها على تحصيل حقوق لبنان في مياهه!
لا يستدعي أصحاب هذا المنطق تدخّلاً عسكرياً لحزب الله حمايةً للحدود البحرية، لكنّهم يسلّطون الضوء على قطبة انكفاء حزب الله في ملف الحدود البحرية طوال السنوات الماضية فيما يستغني عن “رأي” الدولة في ملفّات أقلّ أو أكثر أهميّة.
الجيش والحزب و”القوّة”
في هذه اللحظة المفصليّة التي يقف فيها لبنان حتى الآن عاجزاً عن لجم عمل الشركة اليونانية Energean Power المنتجة للغاز جنوب الخط 29، ويراهن مسؤولوه على “حسن نيّة” الوسيط الأميركي غير المحايد، يتمركز في الواقع كلّ من الجيش وحزب الله خلف الدولة.
إذا كان لا خيار للجيش إلا الامتثال لكلّ ما تقرّره السلطة السياسية بعدما قام بواجبه التقني وحورب سياسياً لتمسّكه بالخط 29، فإنّ حزب الله الذي قاد حروباً في لبنان والمنطقة من دون أن يسأل الدولة يتمنّع عن الدفاع، ولو إعلاميّاً، عن الخط 29 المدعّم بالوثائق والخرائط والمُغطّى بالكامل من قبل المؤسسة العسكرية.
في هذه اللحظة المفصليّة التي يقف فيها لبنان حتى الآن عاجزاً عن لجم عمل الشركة اليونانية Energean Power المنتجة للغاز جنوب الخط 29
هدّد الحزب أخيراً، على لسان نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، بالردّ بالقوّة “حين تقول الدولة إنّ الإسرائيلي يعتدي على مياهنا ونفطنا”. لكنّ الدولة إيّاها قدّمت ما يكفي من أدلّة على عجزها عن فرض شروطها وفشلها في توحيد رأيها حول “الخط السيادي” البحري، والأمثلة كثيرة عن التخبّط والتناقض والأداء المشبوه.
عزيز: هكذا طار وفد قيادة الجيش!
بالتأكيد تابع حزب الله موقف رئيس الجمهورية في جريدة الأخبار في 12 شباط 2022 حين نعى احتمال تعديل المرسوم 6433، معتبراً أنّ “الخط 23 هو خط التفاوض وحدودنا البحرية”. استبق رئيس الجمهورية موقفه للصحيفة بخطوة مناقضة تماماً من خلال محاولة إرساله رسالة إلى الأمم المتحدة في أيلول 2020 يؤكّد فيها أنّ الخط 23 “يخسّرنا نحو 1,860 كلم من مياهنا”، لكنّ الرسالة سُحبت بالتزامن مع طرد طوني حداد من القصر الجمهوري، وهو الذي كان مكلّفاً من ميشال عون التفاوض مع الجانب الأميركي.
يقول المستشار السابق لرئيس الجمهورية جان عزيز: “حصل هذا الأمر قبل شهر من إعلان اتفاق الإطار. فبينما كان الأميركيون بصدد المجيء إلى لبنان والقبول بالخط 29 كخط تفاوضي، مع احتمال عرض خط 23 plus، عدنا اليوم إلى Hoff plus (خط فريديريك هوف)”.
يذكّر عزيز خلال مقابلة تلفزيونية بـ”الحملة التي خيضت ضدّ الخط 29، وحملة “وقّع يا نجار” (المرسوم 6433) من قبل العونيين، فوقّع الوزير ميشال نجار ووقّع حسان دياب ورئيس الجمهورية لم يوقّع”، بذريعة أنّ الأمر يحتاج إلى مجلس الوزراء فيما سبق لعون أن وقّع 286 موافقة استثنائية”.
يشير عزيز إلى آخر جلسة مفاوضات في أيار 2021 والبيان الرسمي الذي صدر عن الرئيس عون في شأن طلب “الوسيط الأميركي (ديروشيه) أن يكون التفاوض محصوراً بين الخط الإسرائيلي 1 والخط 23 اللبناني المودعَيْن لدى الأمم المتحدة”، وإلى أنّ “عون أعطى توجيهاته بأن لا تكون جولات التفاوض مرتبطة بشروط مسبقة. ثمّ نشرت صحيفة محسوبة على محور المقاومة أنّ الوسيط الأميركي، خلال جولة التفاوض، أكّد أنّ العودة إلى طاولة المفاوضات أتت بناءً على شرطين تبلّغهما رئيس الجمهورية، وهما حصرية التفاوض بين 1 و23، ثمّ البحث في المكامن المشتركة. وهو الطرح الذي عرضه ديروشيه وأدّى إلى تطيير طاولة التفاوض”.
كان لافتاً في هذا السياق تأكيد عزيز ما معناه أنّ أحد مساعدي الرئيس عون في القصر أوفد شخصاً، وصفه بـ”العميل”، “إلى جهة دبلوماسية حاملاً رسالة مضمونها إنّ مشكلتنا ليست معكم بل مع قيادة الجيش. خلّينا نطيّر وفد القيادة العسكري، بعدها نحن مستعدون للنقاش بالخط 23 كخط تفاوضي ونقبل بـ”هوف بلاس”.
اللافت أنّه حتى الآن لم يصدر أيّ توضيح أو نفي من جانب رئاسة الجمهورية على هذا الكلام الخطير.
وكشف عزيز أنّ أحد المستشارين في القصر الجمهوري “ذهب عند الأميركيين وقال لهم: “جوزف عون عمّ يركّب ملف الترسيم كي يسوّق نفسه كمرشح رئاسي لدى حزب الله”، ثمّ ذهب لدى الحزب وقال له: “قائد الجيش عمّ يركّب الملف كي يخلق مشكل بيننا وبينكم”، واصفاً إيّاهم بـ”فرقة الدجّالين لدى جبران باسيل، وهو يعرفهم”.
ملفّ العملاء
لم يشكّل التدقيق في هذه الوقائع وغيرها أولويّة في المرحلة الماضية لدى حزب الله.
بل يشير مطّلعون إلى أنّ علامات الاستفهام أيضاً ارتسمت حول صمت الحزب المطبق في شأن إطلاق المحكمة العسكرية أخيراً سراح عدد من المتّهمين بالعمالة وتبرئتهم على الرغم من الأدلّة القاطعة ضدّهم.
كان لافتاً في هذا السياق، بعد مرور أشهر على إطلاق سراح هؤلاء تباعاً، إثارة السيد نصرالله هذا الأمر مباشرة بعد انتهاء الانتخابات النيابية خلال إحياء الحزب ذكرى اغتيال مصطفى بدر الدين.
تطرّق نصرالله إلى جهد أمنيّ “قامت به بشكل خاص شعبة المعلومات، وتمّ الكشف من خلاله عن عشرات الأشخاص الذين كانوا على تواصل مع الإسرائيليين”، قائلاً: “المطلوب من القضاء العسكري أن يأخذ قرارات جدّيّة ويصدر أحكاماً قاسية وحاسمة في ملفّ العملاء”.
إقرأ أيضاً: تعديل المرسوم 6433 بانتظار توقيع وزير الحزب!
من جهتها، نقلت قناة “المنار” التابعة لحزب الله عن مصادر معنيّة أنّ “التعاطي القضائي في ملف العملاء استوقف نصرالله، بعدما أُطلِق أخيراً سراح بعضهم على الرغم من اعترافاتهم بالتعامل مع العدوّ الإسرائيلي”، وأشارت المنار إلى “تهديد بعض قادة الأجهزة الأمنية بالتوقّف عن ملاحقة هذه القضية الحسّاسة إذا استمرّ استخفاف القضاء العسكري بملفّ العملاء”.