تشهد الاستشارات النيابية المقبلة، التي سيدعو إليها رئيس الجمهورية، حدثاً فريداً من نوعه. إذ إنّ جدول مواعيد قصر بعبدا سيخلو للمرّة الأولى في تاريخ لبنان الحديث من اسم أيّ رئيس سابق للحكومة بعد امتناعهم جميعاً عن الترشّح للانتخابات النيابية، وبالتالي عدم وجود أيّ منهم ضمن البرلمان الجديد، وذلك له دلالات سياسية عميقة، وهو مؤشّر إلى حجم التحوّلات داخل الساحة السنّيّة.
انطلاقاً من الأعراف السائدة منذ عام 2005 بالتحديد، وبمعزل عن بدعة الميثاقية والمغالاة فيها، يجب أنْ يحظى ترشيح أيّ شخصية لرئاسة الحكومة بتأييد سنّيّ ولو بالحدّ الأدنى، كي لا يكون رئيس الوزراء ريشةً يرسم بها الآخرون وحسب.
لكنْ كيف سيحدث ذلك في ظلّ هذه الفسيفساء النيابية السنّيّة غير المسبوقة ولا المألوفة في تاريخ لبنان؟ وإنْ كان الرئيس نجيب ميقاتي هو المرشّح الأبرز حتّى الساعة، فمَن هم النواب السُنّة الذين سيتبنّون ترشيحه؟
المستقلّون، هم الذين سيكونون خطّاً وسطاً في السياسة بين خطّين متعاكسين متناقضين: الثورة والسياديّين من جهة، وحزب الله من جهة ثانية
استشارات تاريخيّة
على الرّغم من عدم ارتسام الصورة النهائية للكتل في ظلّ كثافة المشاورات القائمة بين النواب الجدد، إلّا أنّ ذلك لا يعني عدم وجود ملامح اصطفافات وتموضعات سياسية للنواب السُنّة، وعددهم 27، والذين يمكن تقسيمهم إلى ثلاث فئات رئيسية، بالإضافة إلى 5 نواب لا يسعهم سوى البقاء منفردين لأسباب خاصّة بكلّ واحد منهم:
– حلفاء حزب الله وسوريا وعددهم 8: جهاد الصمد، محمد يحيه، حسن مراد، قاسم هاشم، ينال الصلح، ملحم الحجيري، عدنان طرابلسي، طه ناجي.
– نواب الثورة وعددهم 5: إبراهيم منيمنة، وضّاح الصادق، حليمة قعقور، رامي فنج، ياسين ياسين.
– المستقلّون وعددهم 8: وليد البعريني، محمد سليمان، أحمد الخير، عبد العزيز الصمد، كريم كبّارة، بلال الحشيمي، نبيل بدر، عماد الحوت.
– المنفردون: أسامة سعد، عبد الرحمن البزري، فؤاد مخزومي، أشرف ريفي، إيهاب مطر. مع الإشارة إلى وجود النائب بلال عبد الله ضمن كتلة اللقاء الديمقراطي.
الكتلة القاطرة أو المرجِّحة
بغضّ النظر عن طريقة ذهابهم إلى الاستشارات ضمن كتلة واحدة، أو تكتّل جامع لبعضهم، أو منفردين، إلّا أنّ الجامع المشترك بين نواب كلّ فئة هو خيارهم السياسي الموحّد في الاستحقاقات الكبرى، وتصويتهم للمرشّح نفسه.
الفئة الأولى تؤيّد إعادة تكليف الرئيس نجيب ميقاتي، لكنّ الثنائي الشيعي لنْ يكون هو المبادر إلى طرح ترشيحه لكي لا يفسح المجال أمام أيّ استفزاز للساحة السنّيّة عبر الإشارة إلى غلبة حزب الله على السُنّة إلى درجة اختياره لشاغل المركز السياسي الأرفع لديهم. ومن جهة أخرى لنْ يكون ميقاتي مرشّح كتلة التغيير، وغالباً كذلك أيّ شخصية تماثله.
أمّا الفئة الثالثة أي المستقلّون، فهم الذين سيكونون خطّاً وسطاً في السياسة بين خطّين متعاكسين متناقضين: الثورة والسياديّين من جهة، وحزب الله من جهة ثانية، حيث سيميلون تارّة إلى الأوّلين، وطوراً إلى الآخرين حسب مقتضيات كلّ استحقاق والملفّات التي يتمّ طرحها. وهم الذين سيشكّلون القاطرة السنّيّة التي تقود مسار إعادة تكليف الرئيس نجيب ميقاتي، ولا سيّما أنّ فيهم نَفَس الرئيس سعد الحريري المؤيِّد لميقاتي حارس إرثه السياسي وحامي رجاله داخل أروقة الدولة. وبالتحديد كتلة “اللقاء العكّاري” التي تضمّ 5 منهم، ومعهم النائبان سجيع عطيّة وأحمد رستم. وربّما تكون هذه الكتلة هي صاحبة الموعد الأوّل في الاستشارات النيابية كي تخرج مبادرة ترشيح ميقاتي منْ لدنهم.
“مركز قوّة” جديد للسُنّة
في هذا المسار نشهد تحوُّلاً تاريخيّاً أيضاً. إذْ لم يسبق أنْ كانت عكّار هي مركز القوّة السياسي للسُنّة. لكنّ ذلك سببه الانقسام السياسي للنواب السُنّة في بيروت وفي طرابلس. وهنا يجب التوقّف عند النشاط السياسي اللافت للنائب وليد البعريني منذ اليوم التالي للانتخابات، والذي لم يسبق له القيام بمثله في الولاية السابقة، حاله كحال نواب عكّار الباقين، السابقين والحاليّين. فقد جرت العادة أنْ يعتصم النائب المنتخَب بحبل الصمت، ويستنكف عن القيام بزيارات سياسية وجولات شعبية، مكتفياً باستقبالات محدودة في مكتبه أو دارته ليوم واحد في الأسبوع.
هذا الحراك السياسي الذي يقوده البعريني سيكرّس دوراً جديداً لعكّار في المعادلة السياسية الوطنية والسنّيّة على حدّ سواء. وأوّل الغيث سيكون حقيبة وزارية طال انتظارها لهذه المحافظة المحرومة حسب مصادر الكتلة العكارية. على أنْ يليها بعض الاهتمام الرسمي بالشؤون العكّارية، والذي لنْ يصل إلى حدّ المشاريع التي باتت ترفاً لا سبيل إليه في زمن الانهيار.
وعليه، فإنّ ميقاتي لنْ يكون عارياً سياسياً بعد تخلّيه طوعاً أو كرهاً عن كتلته النيابية، بل سيكون مدعوماً على الدوام من كتلة نيابية تضمّ حتّى الآن 7 نواب، مع مشروعية سنّيّة تتمثّل بثلث النواب، بينهم النائب السنّيّ الأول محمد يحيه حسبما أكّد بنفسه في تصريح تلفزيوني حتّى لو كلّفه ذلك مخالفة قرار التكتّل الذي ينتمي إليه.
سيناريو المعركة
عدا عن المستقلّين، يُحظى ترشيح ميقاتي أيضاً بتأييد حلفاء حزب الله وسوريا من السُنّة، والثنائي الشيعي، والتكتّل الوطني المستقلّ (فرنجية وحلفاؤه). بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ مسار تكليفه سيكون سلساً ويسيراً، خاصّة في ظلّ رفض جبران باسيل له، وحتّى لو كان الفائز بالتكليف لا يحتاج إلى النصف زائداً واحداً، بل أنْ يتصدّر سباق التسمية فقط.
ربّما ينتقل سيناريو المعارك الانتخابية من ساحة النجمة إلى حلبة قصر بعبدا في حال اجتمعت كُتل التيار الوطني الحر والقوات والكتائب والتغييريّين ومعهم بعض المستقلّين على اسم شخصيّة واحدة لمنافسة ميقاتي.
إقرأ أيضاً: “صراع الصلاحيات” مجدّداً: استشارات غير معلنة في بعبدا
قد يبدو الأمر سورياليّاً، لكنّه وارد الحدوث، ولا سيّما عندما نتحدّث عن ترشيح القاضي نوّاف سلام، أو الدكتور عبد الرحمن البزري، اللذين يحظيان بتأييد نيابيّ واسع النطاق يصل إلى عتبة 60 نائباً، مع شرعية سنّيّة ثورية لا غبار عليها، بل تبدو أكثر قوّة في الميزان الشعبي من شرعية الفئات السنّيّة الأخرى. هذا وسيعكس المشهد العامّ للصراع نزالاً بين الشيعة والمسيحيّين على رئاسة الحكومة نظراً إلى هشاشة الوزن السياسي السنّيّ.
وعند الدخول في لعبة الأرقام، يُمسي فوز ميقاتي بالتكليف أمراً معقّداً، وسيحتاج حتماً إلى المرور بمصنع الرئيس نبيه برّي للأكثريّات حسب الحاجة.