يوميّاً وفي كلّ مناسبة حزينة أو أقلّ حزناً، “تلعن” إيران أميركا و”الاستكبار” العالمي. يُبعد نظام طهران سوء إدارته عن التداول، محمّلاً الولايات المتحدة المسؤولية عن مآسي شعبه. فبناء السدود الفاشلة والفاسدة وشحّ المياه عن المناطق الحضرية والزراعية الإيرانية “لعنة أميركية”. وعدم إنصاف المعلّمين في مدارس إيران “مؤامرة أميركية”. والتخلّف عن التعويض لأهالي الطائرة الأوكرانية المنكوبة وصرف المليارات على الميليشيات سببه “الاستكبار”. وعدم القدرة على تشغيل الرادارات للتفريق بين الطائرات المدنية والعسكرية وراءها “العم سام”. وانفجار الصواريخ على المنصّة أو قبل بلوغها الغلاف الجوي مردّه “المؤامرة” على طهران. وما يصيب عمّال المرافئ ومزارعي قصب السكر والمياومين يُعزى إلى واشنطن. وتطول اللائحة.
غير أنّه بموازاة هذه الشعارات التي سئم منها الشعب الإيراني ومعه شعوب المنطقة، تُفاوض إيران الولايات المتحدة وتطلب نجدتها لرفع العقوبات عن بضعة مليارات في كوريا الجنوبية أو الهند أو اليابان أو الصين. وتسأل “الاستكبار” عن رفع العقوبات عن خامنئي ومكتبه، وعن الحرس الثوري وفيلق القدس. وعندما تعود الإدارة الأميركية إلى رشدها وتسترجع قواها وتتصلّب، يجوب وزير خارجية إيران أوروبا والعالم للتوسّط مع واشنطن للعودة إلى المفاوضات وعدم التصعيد بوجه طهران.
دفع حزب الله بكلّ من ميشال عون ونبيه برّي ونجيب ميقاتي، ومعهم الوافد الجديد الياس بوصعب، إلى الاتصال بواشنطن وطلب نجدة الوسيط آموس هوكشتاين، وسؤاله “العودة” لإكمال وساطته
يجاري حزب الله وجوقته إيران في مسارها، فيرتفع الإصبع ليهدّد بإعادة جنود “العم سام” المنتشرين في سوريا والعراق ولبنان إلى بلادهم بـ”التوابيت” مستعيراً صوراً كاريكاتورية عن هبوط الجنود العمودي بمظلّاتهم وإعادتهم الأفقية بطائرات شحن التوابيت. أمّا عند الاستحقاق الفعليّ، كاستحقاق التنقيب واستخراج الغاز من حقل كاريش ووصول الباخرةENERGEAN POWER، فينكفئ من “يلعن أميركا”، قبل أن يطلب تدخّلها سريعاً للتوسّط مع تل أبيب وإجراء التسوية المطلوبة.
حزب الله و”النجدة” الأميركية
منذ عقود يمنع حزب الله استغلال لبنان لثروته البحرية بحجّة “ضرورة ترسيم الحدود”. إذ ربط ترسيم البحر بترسيم البرّ، ودمج ترسيم البرّ بإنهاء احتلال مزارع شبعا التي باتت بعد عام 2000 مسألة قانون دولي و”حلّها في الأمم المتحدة” وبالخرائط، وإلا فسيبقى الوضع على حاله. أمّا حليفه في سوريا فيلاقيه في نصف الطريق ويمتنع عن تقديم الخرائط لعدم تعرية سلاح الحزب.
في ضوء تطوّر العلاقة برودةً أو تحسّناً بين طهران وواشنطن توصّل نبيه برّي المكلّف بالملف وسط صمت من رئيس الجمهورية إلى تفاهم مع الجهة الأميركية التي طلب لبنان وساطتها برعاية الأمم المتحدة. فاستقرّ الرأي على اعتماد الخط 23 الحدوديّ “المستقيم” نقطةً لانطلاق ترسيم الحدود البحرية من المياه الإقليمية مروراً بمنطقة الجرف الجوفيّ ووصولاً إلى المنطقة الاقتصادية.
إلا أنّ المزايدة الشعبوية، المترافقة مع رغبة مؤسّسة بعدم تسليط الضوء على ما أخطأت فيه من صنع خرائط غير دقيقة واعتمادها في ترسيم الحدود مع قبرص، دفعت ميشال عون إلى “اختراع” خط 29 بديلاً عن خط 23 وطلب التفاوض على أساسه وتسميته “خط ميشال عون”، الأمر الذي نبّه بشأنه الوسيط الأميركي وحذّر من التمادي في اعتماده.
أدرك ميشال عون نتائج ما فعله، فتراجع عن الخط 29 واعتبره خطاً تفاوضياً لا يمكن الدفاع عنه لأنّه غير ممكن إثباته. فدبّ الخلاف ضمن الوفد المفاوض الذي شُكِّل أصلاً إثر “خلاف سلطوي” حول طبيعته العسكرية أو المدنية ومن يرأسه. فثارت ثائرة المتضرّرين، ولا سيّما منهم مَن عُزل من موقعه، علاوة على بعض المنظّرين الشعبويين، فأثاروا موضوع عدم توقيع ميشال عون لمرسوم تعديل المرسوم 6433، بعدما تبيّن له عدم واقعية اعتماد الخط 29 الذي أثاره بذاته وسمّاه على اسمه. عليه، ونتيجة لِما آلت إليه الأمور لم يتوحّد الرأي اللبناني حول الموقف المفترض تبليغه للوسيط الأميركي الذي أمهل لبنان عدّة مهل للإجابة على مقترحاته لحلّ الخلاف البحري.
لم تنتظر الدول تباطؤ حكام لبنان، فأبحرت باخرة التنقيب من الصين وسنغافورة برحلة طويلة اجتازت خلالها باب المندب وقناة السويس وصولاً إلى مربّع كاريش من دون أن تتجاوز الحدود الجنوبية. حينها استفاقت وتعالت الأصوات المطالبة بالعودة إلى الخط 29 و”المحافظة على الثروة”.
دفع حزب الله بكلّ من ميشال عون ونبيه برّي ونجيب ميقاتي، ومعهم الوافد الجديد الياس بوصعب، إلى الاتصال بواشنطن وطلب نجدة الوسيط آموس هوكشتاين، وسؤاله “العودة” لإكمال وساطته.
أدرك ميشال عون نتائج ما فعله، فتراجع عن الخط 29 واعتبره خطاً تفاوضياً لا يمكن الدفاع عنه لأنّه غير ممكن إثباته. فدبّ الخلاف ضمن الوفد المفاوض الذي شُكِّل أصلاً إثر “خلاف سلطوي”
مرّت سنوات على تفاوض نبيه برّي باسم الثنائي وباسم السلطة اللبنانية مع الوسطاء لترتيب اتفاق مبدئي بتغطية وبدعم من حزب الله ومن خلفه إيران. وذلك على وقع التفاوض الإيراني مع واشنطن في فيينا وما تتطلّبه هذه المفاوضات من تراخٍ أو تشدّد، حتى بانت الخطوط الخلفية وما يدور خلف الكواليس وتحت الطاولة من صفقات.
إذن هل وصول كاريش مدروس؟ وهل من صفقة وراء ذلك؟
وافق مثلّث السلطة حزب الله ونبيه برّي وجبران باسيل على صفقة مع الوسيط الأميركي تحفظ للجميع مكاسب معيّنة.
تحصل إسرائيل على استقرار أمنها الشمالي البحري والبرّي، وتضمن استخراج ثروتها الباطنية وتعويم خطوط أنابيبها إلى جنوب أوروبا. أمّا واشنطن فتكسب مشاركة شركة من الشركات الأميركية في استخراج الطاقة من شرقي المتوسط وزيادة إمدادات الطاقة المتعثّرة بسبب الحرب الأوكرانية. وتبقى فرنسا جزءاً من الخارطة الشرق الأوسطية والراعية للسلطة اللبنانية في المحافل الدولية.
أمّا حزب الله وبموجب هذه الصفقة فينال اعترافاً ضمنيّاً بوجوده، وبالصمت عن نشاطاته وسلاحه في المنطقة، والاعتراف بنفوذه الداخلي، وبعدم مساندة القوى المعارضة له في طرح الاستراتيجية الدفاعية أو موضوع نزع سلاحه. فيستكين للنجدة الأميركية – الفرنسية ويطمئنّ.
بدوره نبيه برّي، المحاور لواشنطن التي ترتاح لمفاوضته وترغب بها، ينهي مساره السياسي، الذي قضى معظمه رئيساً لمجلس النواب، فكانت ولايته الأطول في العالم، من دون تشجيع من واشنطن وباريس على طرح الثقة برئاسته بعد سنتين من ولايته وفقاً للإمكانية التي تنصّ عليها أحكام الدستور اللبناني.
من جانبه، تشجّع جبران باسيل وعقد الصفقة متمنّياً أن تكون سبباً لرفع العقوبات الأميركية عنه، وتلميع صورته السياسية، وإبقاء اسمه مرشّحاً أساسيّاً في انتخابات رئاسة الجمهورية، ونيل حصّته من الشركة الإيرانية للتنقيب. لذا وافق باسيل “علناً” على الخط المتعرّج بدلاً من المستقيم لكي تحتفظ إسرائيل بحقل كاريش بالكامل ولبنان بمربّع قانا. وللتوكيد أكثر على موضوع “الشركة الإيرانية”، قال برّي إنّ اتفاق الإطار (الذي توصّل إليه مع الأميركيين) “يبقى الآليّة الصالحة لإنجاز الترسيم الذي يمنح لبنان الحقّ باستثمار كامل ثرواته في البحر من دون تنازل أو تفريط أو تطبيع أو مقايضة”. وتابع “تحت هذا السقف، لبنان الرسمي مستعدّ لاستئناف المفاوضات في أيّ لحظة، والكرة في ملعب الأطراف الراعية للتفاوض غير المباشر، لكن ليس إلى العمر كلّه بل لمدّة أقصاها شهر واحد يصار بعدها إلى البدء بالحفر في البلوكات الملزَّمة أصلاً من دون تردّد وإلا تُلزَّم لشركات أخرى”. وتحت “شركات أخرى” نضع أكثر من خطّ. ونعود لتصريح يوم الأحد 5 حزيران 2022 حين وقف رئيس كتلة حزب الله النائب محمد رعد في حسينية الغندورية مطالباً “بتأسيس شركة تأتمر بأمر لبنان من حيث مكان التنقيب وزمانه”. ومن المسلّم به أنّ هذه الشركة ستكون إيرانية لتحفظ حصص مثلّث السلطة.
لاقى محمد رعد في هذا الطرح نعيم قاسم الذي تخلّى فجأة عن التهديد والوعيد والحفاظ على كلّ نقطة مياه، وطالعنا بنظرية أنّ حزب الله تحت سقف الدولة ويلتزم بما تمليه الدولة من موقف يرتبط بالتنقيب. فسارعت سلطة الثلاثي إلى عدم إحراج حزب الله بالقول إنّ “الوسيط الأميركي سيصل قريباً إلى بيروت”، والتأكيد أنّ “الباخرة اليونانية لم تجتَز المنطقة المتنازَع عليها”.
إقرأ أيضاً: الحزب والخطّ 29: هل ينطق نصرالله؟
المؤسف أنّ بعض حديثي السياسة، وبموقف عبثي غير منتج، وربّما لتغطية انقساماتهم الداخلية، خرجوا علينا بموقف على يسار حزب الله وزايدوا بموضوع الالتزام بالخط 29 الوهمي وغير الواقعي، وفقدوا تصويب البوصلة على ما سبّبه حزب الله طوال عقود من ضياع لثروات لبنان المالية والاقتصادية وفقدانها نتيجة ارتباط ثروة البلاد بمصالح طهران الدولية.
ليس بغريب أن تنتقل الممانعة من لغة “اللعنة” إلى طلب “النجدة” من الأميركيين!
* كاتب لبنانيّ مقيم في دبي